سفيان صلاح هلال - الانسحاق تحت سلطة الواقع في ديوان "حد أدنى" للشاعرأسامة مهران

يتجاور في داخل الشاعر الحلم ورؤية الواقع، وحين يرى أن الواقع يتغلغل في ثناياه ما يغلق أبوابه في وجه الحلم؛ قد يصاب الشاعر بأحاسيس شتى تتنازعه؛ وتؤدي به لاتخاذ قرارات حاسمة. فبعض الشعراء يطغى عليهم الحلم حتى يلقون أنفسهم في آتون التمرد على الواقع حد الهلاك وأمامنا نموذجان: "المتنبي" الذي قتله شعره، و"أمل دنقل" الذي أودت به تجربته إلى نهاية مبكرة، وبعضهم تطغى عليه الحسابات المنطقية التي تستقي تجاربها من خبرات الزمان، وأحداث المكان؛ فلا يتمادى مع الأحلام؛ ويخر منصاعا لفرائض الواقع عمليا؛ ليتراجع الحلم فيه ويصير مجرد مساحة في الكلام، يلقي بها في الهواء أو يكتبها على الأوراق. وقد عرفنا من هؤلاء الكثيرون منهم من تراجع عن أحلامه الفنية في القصيدة وكتب شعرا عاديا بعد ثورة في بداياته لم يتجاوب معها أحد، ومنهم من غير مساره من الشعر للصحافة، ومنهم من ترك الساحة كلها واحترف عملا أخر. والشاعر "أسامة مهران" يعترف قي مقدمة ديوانه الطويل "حد أدنى" الصادر عن دار الأدهم أنه ابتعد لأنه آسر ألَّا يدخل في حروب رآها من وجهة نظره محسومة. وهاهو يقول في تقديمه لديوانه الأول الذي أصدره بعد أن أخفى شعره قرابة النصف قرن: "وربما يصبح التربص بالإبداع مخرج طوارئ لموقف محرج حرصت أن أبتعد عنه طوال مطارحتي لأحداث سياسية وقعت، ومناكفات ثقافية سُجرت، ومقتطفات حياتية تجاسرت." ولكن الواقع يعرض لنا الآن حقيقة جلية، هي أنه لا حرب تم حسمها حتى الآن في واقعنا؛ وهاهو نفسه يعود لينشر شعره وفق قناعاته؛ ليخوض به الحروب التي خاف أن يخوضها من قبل!
لكننا في النهاية لا ننكر أننا أمام منجز شعري يعبر عن الشاعر المأزوم في واقع تسيطر عليه الأزمات. وصاحبه يدرك أن الشعر لذته الوحيدة " قد تنغمس اللذةُ في الأوجاعِ /وفي الجرحْ /قد يندمل الإسهابُ /وقد يكتمل الشرحْ /لكن الأجواء مشبعةُ يا قومي بالأصقاعِ /المحمولة فوق الرمح" . إن الإحساس بتربص الآخر به وبتجربته لا يفارقه نثرا أو شعرا؛ وهذا في رأيي دال على شك عظيم داخل الشاعر تجاه الواقع؛ فهو يراه واقعا شريرا يصم أذنيه، ودكتاتورا لا يقبل غير رؤاه، لكن ما الدوافع التي وصلت به لهذه القناعات؟ الشاعر يرى أنه يعيش في واقع فوضوي "يا فوضى الأشياء الصغرى /يا رميةَ قرصٍ /من دون الرامي /يا دون الدونِ المتعامي /هل هانت أيامي /ليهون المسفوك المتعامي؟" وقد توقفت أمام الجملة الأخيرة وتساءلت من هو المسفوك؟ هل هو الحلم المأسوف عليه؟ أم هو الخروج من الواقع؟ ولكن على كل حال الشاعر يرى أنه في حالة ترفض الحوار وتكتسب خسارات مترامية.
والشاعر ينتظر دائما أن تأتي لحظة انتصار الشعر/الحلم "لم تأت الأنباءُ بأن النهرَ سيأتي حتمًا بعد الفجرِ /وأن الفيضان القادمَ قد يتأخر حولًا آخر في أحشاء الليلْ /أو يتسلل في غفلةِ مرحومٍ منجرفٍ في أحجار السيلْ". وحين لا يأتي ما ينتظر يرفض الذات الجمعية التي ترضى بأحوالها في براثن المعتاد وبعيدا عن أفلاك الحلم. ولكنه يشك في حلمه ويراه وهْمًا أو كما قال أحد عناوين قصائده "خداع بصري" فماذا يفيد الحلم في واقع لا يحلم "توهمتُ أن المشاهدَ يمكن أن تتكررْ /وأن الزنازين قابلةٌ للتحررْ /وأن الصفاتِ العميقةَ جاهزةٌ للتغيرْ /ولكن رماد السنينِ كبعض الحنينِ /كبيت حزينِ" أظن أن هذه المقطوعة تدل على أنه رغم انسحابه بالقصيدة المكتوبة من الواقع، لكن اهتمامه بالواقع مستمر، فها هو يعيد قراءته كل وقت لعله يجد جديدا، لكنه لا يجد إلا واقعا متمحورا حول ذاته. وهكذا نحن أمام شاعر يعامل الواقع بالمثل ويتمحور هو أيضا حول ذاته " ذهبتُ إلى موقعي في الخلاء
أنادي كثيراً /لأضحك فيه أخيراً /ولكن صوتي ضعيف البناءِ /شحيح التصوفْ /رهيف التطرفِ." في الحقيقة أن تجربة "أسامة مهران" تأتي فرادتها في عدم الادعاء البطولي، وتعرض لنا تجربة إنسانية صادقة تدرك ضعفها في مواجهة قوى الواقع بشكيمتها القوية، والتي لا تتورع أن تكون ظالمة أو عادلة في مسيرتها تجاه تحقيق أهداف غير مدروسة " فالعالم أضحى صندوقًا منحطًا /من قرميد /العالم أضحى /أقبيةً تتناسل /في التشديدْ /حتى أضحت /أشجار اللبلابِ /على الأفق الممتد جنوحًا /منطوقًا معتمدًا للتصعيدْ" فضلا عن الدلالة المعنوية في المقطوعة السابقة لو نظرنا إلى تقطيع الجمل على الأسطر ستجد أن الشاعر يقف مترددا قبل وضع رؤيته على الورق ، وكأنه لايجد ما يعبر بالضبط عما يرى/ فالعالم صار صندوقا منحطا، لكنه لا يجد شرحا لهذا الانحطاط! فيقف ويكمل في سطر آخر، والعالم صار أقبية تناسل، ولكنه يقطع السطر وكأنه يسأل تناسل ماذا؟ ثم يكمل في سطر لاحق، والعالم صار حديقة للمتسلقين؛ هكذا يرى الشاعر ويرمز لذلك بأشجار اللبلاب المتسلقة، ورغم الوضوح في المقطوعة وإصرار الشاعر على شرح دائرة رؤياه السوداوية، فقد صور لنا هذا الارتباك في كتابة الأسطر كمَّ الارتباك الذي يعانيه الشاعر من مواجه الواقع.
إن الشاعر وحتى وقت قريب، في قصيدة أرخها بأنها إنتاج شهر مايو 2020 يفضل الالتفاف حول الذات " لو حلت أيام الطوفانِ /فأنا حجرٌ معبود /وأنا صنمٌ مفقود /وأنا قدرٌ
مكتملُ الأركانِ".
إن الشاعر يخاف أن نتهمه بالضعف أو الخوف من مواجهة الواقع، وقتل الشعر فيه؛ فإذ به كأنه يعتذر للشعر " لكن أعمتني /عزة نفسٍ /معمورة أمكنةٍ /في إمكاني" وكأنه يخاف أن يجر تجربته للتدليس أو أن يعتبرها مجرد سلم للوصول لغايات لا شعرية في واقع يخدم على ديمومته، لا على أحلام الشعراء. وربما كانت هذه النقطة تقودنا إلى الموقف من الوطن في قصائد الشاعر؛ فنبرة الحب والأسى تمتزجان في رؤيته، وكأنه في حالة عتاب مع حبيب قسى عليه كثيرا رغم حبه الشديد له "شكراً ياوطناً /لم يترك خلفي سفناً محترقة /أو أطواق نجاة مثقوبة /أو أحلاماً منهوبة /أو فرصة عمر أخرى /في شطآنٍ منكوبة " نبرة العتاب السلبي في المقطع السابق هي نبرة الحزين على قدر المحبة كما نقول في حياتنا، ويدل على هذا الحب كراهية الشاعر للغربة وعدم إيمانه بإخلاصها له "شكراً يا وطناً /قد ترك التية يواجهني /والإعصار يواتيني /لم تبق بلادُ
أعشقها أو أسوار تحميني /من دونك أرتكب حياةً /ما عاشت كيما تُحييني /وبدونك /ألتحف سماءً
تتأفف حين تغطيني" إن هذه الأوصاف التي خلعها الشاعر على غربته( التيه، الإعصار) في المقطوعة الأخيرة لتعكس رفض الشاعر للغربة وكراهيته لها (لم تبق بلادُ أعشقها أو أسوار تحميني" فهو يرفض عشق وطن بعد وطنه وليس أقسى من تعبيره ( من دونك أرتكب حياة) وكأن الحياة خارج الوطن خطيئة فكلمة أرتكب ارتبطت بالخطايا والآثام في موروثنا الديني واللغوي، والرغبة في أن يمد له وطنه حلما موصولة دائما؛ فحتى من يعطيه غير الوطن لا يعطيه عن طيب خاطر (ألتحف سماءً تتأفف حين تغطيني). إن تجربة الشاعر تجربة رفض، لكنها تجربة رفض سلبية ، ولأننا دائما نرجو من الشعراء مالا نرجوه من غيرهم وننتظر أن يكونوا القدوة؛ أنا لست مع الشاعر في حجب نفسه وتجربته؛ فالشاعر لابد أن يتفاعل مع محيطه، ولا شك أن التفاعل كان سيمنحه رؤى أخرى لا تجعل تجربته تستخدم بعض طاقتها النقدية وتضيع كثيرا من قدرات تجربة مقوماتها الفنية قادرة على العطاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى