المقاهي أحمد سعداوي - شاي مُحلّى بمقهى الجماهير..

في الأعوام الرتيبة لأواخر الألفية الثانية في العراق، كان "مقهى الجماهير" ذو المقاعد الخشبية العتيقة قد غدا الملتقى الأثير لعددٍ من المثقفين العراقيين، شعراء وكتّاب قصّة ورواية وصحفيين ونقّاد فن وأدب ورسّامين.

تدخل إلى المقهى ظهراً، ومع أصوات قرقعة صحون وأواني الشاي عند موقد المقهى تسمع قرقعة أحجار الدومينو، مختلطةً بهمهمة الثرثرات على التخوت المتوزعة على حجرتي المقهى.

لا يكاد المقهى يمتلئ أو يغصّ بروّاده إلا نادراً. لكن، مع ذلك، فمن النادر أيضاً أن لا يمرّ مثقفٌ ما به خلال اليوم، حتى ولو وقوفاً عند الباب يتفقّد وجود أصدقائه. فضلاً عن كونه المحجّة الرئيسة للمثقفين القادمين من خارج بغداد، ففي ذلك الوقت الذي لا تتوفَّر فيه وسائل تواصل فعّالة، فإن اللقاء بالأصدقاء يجري بالمصادفات أو بالتخمين.

وبالنسبة لزائر بغداد فإنه يعرف تماماً أين يعثر على المثقفين والأدباء والفنانين، إنها مجرد بضعة أماكن لا تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة، أهمها "مقهى الجماهير" في منطقة الكرنتينه بباب المعظم وسط بغداد، ثم على مسافةٍ ليست بالبعيدة، وبجوار أكاديمية الفنون الجميلة هناك كافتريا وجاليري "حوار"، ثم نادي اتحاد الأدباء في الطرف الآخر من العاصمة في منطقة الكرّادة، ومنتدى المسرح الشبابي الذي يقع على شارع الرشيد في منتصف المسافة ما بين نقطتي اتحاد الأدباء وجاليري "حوار".

أزعم أن المكان الأساسي والذي كان له تأثيرٌ حاسمٌ على مسارات الأدب والثقافة في تلك الفترة هو "مقهى الجماهير" وليس غيره، أما الأماكن الأخرى فكانت ثانويةً في تأثيرها. كل الحوارات العميقة كانت تجري على التخوت الخشبية العتيقة لمقهى الجماهير، ولا أتذكر أننا خُضْنا في تلك الأوقات شيئاً مشابهاً في أماكن أخرى.

كان هناك عددٌ من الكتّاب والمثقفين قد اعتاد إجراء ندواتٍ كلّ أربعاء، ليتداولوا النقاش حول موضوعات محدّدة أو ربما الاحتفاء بكتابٍ جديدٍ أو كاتبٍ ما، وهي ممارسة كانت تبدو وكأنها بالضِّد من فعاليات ونشاطات اتحاد الأدباء الرسمي المرتبط بالسلطة. وقد ظلت هذه الفعاليات الأسبوعية تتزايد ويتزايد الاهتمام بها، حتى فترةٍ قريبةٍ من إعلان الحرب في 2003، وقد مسَّتْ في نقاشاتها العديد من الخطوط الحمراء المحظورة سياسياً، وتسبب ذلك في إلغاء الفعاليات وخوف الكثيرين من حضورها.

على مقاعد هذا المقهى كنّا نتحاور حول الشعر الحديث، والموجة الأحدث التي ننتمي إليها والتي اصْطَلَحَ الشبابُ يافطة عريضة لها آنذاك سميّت بـ"الجيل التسعيني" في الشعر العراقي الحديث. كانت تضمّ تحتها دوائر صغرى لمجموعاتٍ متضامنةٍ من الشعراء، لعل أكثرها تحمُّساً لمسمّى الجيل التسعيني هي عصبة الشعراء فرج الحطّاب وجمال علي الحلاق وسليمان جوني وعباس اليوسفي، وكنّا أنا ومحمد الحمراني وماجد عدّام وماجد موجد تحت ذات اليافطة العريضة. ولكننا كنّا أيضاً نتحاور ونتبادل الكتب ونقرأ ونناقش أشياء عن الرواية الحديثة أيضاً، وكانت تلك دائرة أخرى، ربما كان لها أهمية أكبر بالنسبة لي، لأننا لم نكن نعرف نقاشات متخصّصة حول فن الرواية، في فضاء ثقافي يسيطر عليه النقاش حول الشعر، على الأقل منذ جيل التأسيس للشعر العربي الحديث مع السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي.

كانت تخوت المقاهي وطاولاتها المتقشّرة تضمُّنا مع كاسات الشاي، أنا ومحمد الحمراني وضياء الخالدي وناظم العبيدي ونصيف فلك وآخرين، في نقاشاتٍ حول الواقعية السحرية وتيار الرواية الفرنسية الجديدة، وآخر إصدارات الرواية العربية، وتحديداً تلك الموجة الشبابية من الروايات التي أطلقتها دار ميريت المصرية في ذلك الوقت.

وليس بعيداً عن مقاعدنا كان علي بدر يضع اللمسات الأخيرة لروايته الشهيرة "بابا سارتر"، وكنّا قرأنا بعض فصولها مخطوطةً، قبل أن تُنْشَر لاحقاً في 2001 عن دار رياض الريس في بيروت.

على طاولات هذا المقهى وضعتُ مخطوطة روايتي الأولى "البلد الجميل" مسحوبةً على الورق في ملف كبير، وقرأها الأصدقاء بالتتابع قبل نشرها وأبدوا الملاحظات أو التصويبات. وفي المكان نفسه تلقّينا النسخ الأولى من روايات الزملاء الجديدة.

كانت هناك، رغم كل الظروف العامة السيئة ونُذُر الحرب والخراب العام، نفحة تفاؤل وحماسة لولادة عصر جديد ثقافياً وأدبياً، وهو ما ألقى بثماره لاحقاً، بعد الاحتلال في 2003، وصار الكثير من روّاد هذا المقهى الشعبي البسيط نجوماً في الأدب والثقافة والإعلام.

استمر نشاط المقهى بعد 2003 ربما بنشاطٍ أكثر كثافة وصار أكثر صخباً، خصوصاً مع زيارات المثقفين العراقيين والعرب القادمين من المنافي. ولكنه مع تصاعد بوادر الحرب الطائفية تراجع الحضور إليه، لأنه يقع في منطقةٍ ساخنةٍ لمواجهات المجموعات والمليشيات المسلّحة.

ثم ذات نهارٍ مضبّب بأشباح القتل والخوف، مررتُ بالمقهى ورأيتُهُ قد تحوَّلَ إلى صالة بلياردو يرتادها الشباب من حيّ الكرنتينه حصراً.

لا أعرف الآن بصراحة هل ما زال المكان صالة بلياردو أم تحوّل إلى شيءٍ آخر. ولكنني أتذكَّرُ دائماً تلك الحكمة العربية القديمة التي تقول أن "المكان بالمكين"، فما خَلَقَ المعنى العميق لمقهى الجماهير هم البشر الذين يرتادونه، وإلا فهو لم يكن يختلف في مظهره عن أي مقهىً شعبيٍّ في حيٍّ فقير.

ومع ذلك لا أستطيع نسيان ذلك الفضاء الأثير، وتلك الحماسات العظيمة التي ضمّتها الجدران الكالحة لذلك المقهى، ولا أتصوّر أن أيّاً من المثقفين العراقيين اليوم ممن يحمل ذكرياتٍ عن المقهى يستطيع نسيانه، أو لا يشعر بالحنين إلى مقاعده الخشبية، وإلى الشاي الداكن شديد الحلاوة الذي يَضَعُهُ عامل المقهى أمام روّاده.

شاي أسود مُحَلّى، يرتبط في الذاكرة بدهشة الأفكار التي نقرؤها في كتابٍ جديدٍ، ونحن نرتشف هذا الشاي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى