سيد الوكيل - هدى كمال… قصة قصيرة

” يموت على شفتي الطلاء، وتنمو مساحات الفراغ،

شتاءات متواترات، يتخثر في نهدي الحليب،

حين تختزن خلاياي انكسارات ضوء النهار

أشتاق لطائر يمنحني أغنية دافئة”

المعذبة

H.k

ثنيات كثيرة في الورقة، يتتبعها وهو يطويها كما كانت، صغيرة ومكرمشة، وآثار عرق، وعطر النهدين عليها.

في الصباح تودعها كفه المتأهب للحظة الانقباض، وتمضى. تندس بين زميلاتها وتشاركهن الضحك، شفاة تفرز أحاديث عن الرجال تتساقط عند محطة الأتوبيس. حين يجيء، تندس في ظمأ الأجساد المنهكة، فيما هو ينهي آخر تعليقاته عن فيلم الأمس، وتوقعاته لمباراة الغد، ويودعهم بتلك الحرارة المفتعلة التي يلقونه بها كل صباح.

في الأمسيات الشتوية يرافقها في ارتياد المحلات الساهر. امام الفاترينات تتلكأ إيقاعات الكعب العالي فوق بلاط الأرصفة المبلول، وثمة اصابع رقيقة تتلمس مسطحات الزجاج البارد، فيما هي غاطسة في الفراء الداكن.

الأسود يناسبني.. أنا بيضاء.

تتعلق بذراعه وتكتم ضحكتها في صدره، حين ترى ارتعاش شفتيه وهو يحدثها عن هذا النوع من الملابس، وحين تلمؤها رائحة عرق، وعطر، تهمس له:أنا جائعة.

كان الرجل يقبض على السكين قبضة محترف، يحز نسائر اللحم، فتتساقط حول الكتلة المخروطية التي تدور أمام النار. كانت تنز عصيرها وتسكب رحيقها على ملامحها وفي عينيها. ينعكس ذلك البريق ويزحزحها بلا وعي في اتجاه النار، واللحم الساخن، فيما تنساب إيقاعات ديسكو من نوافذ سيارة تنطلق في عمق الأضواء الخافتة للشارع، وتتداخل مع همهمات الزبائن الخارجين من دفء المطعم. في تلك اللحظة كان يفكر في احتوائها، وغمر مساحات الفراغ البارد التي تتحدث عنها، حين تمارس طقوسها الليلية مع فراء ثعلب وألبوم صور قديم.

قالت: لا تتركني الليلة وإلا قتلت نفسي.

وعادت تدس وجهها في صدره، فأحس بأنفاسها تخترق صوف القميص، وبدفء رقيق في مساحة كفها يتحرك في جيب بنطاله.

***

سألها: صورته؟

هي

كانت ملامح طفولية غارقة في البدلة العسكرية، والنجوم ذهبية البريق على الكتفين استكانت. للعينين نظرة ثعلب صغير، وعلى الشفتين ابتسامة، لا تكشف عن تلك القسوة التي تتحدث عنها في رسائلها.

قالت: هو عشق الصحراء

قال : وأنت؟

لا أستطيع.

وهي تتحرك في شقتها، لاحظ الانفعالات في حركة اليدين، وهي تبتلع قرصًا التقطته من علبة صغيرة فوق الكمودينو، وتترك أحمر الشفاة على حافة كوب الماء المثلج، وبدا أن ملامحها تتغير وهي تحتضن جدار الكوب البارد.

قال: منذ متى؟

راغت بنظراتها نحو السرير، كان الفراء مطروحًا هناك، لامعًا وداكنًا، ويبدو حيًا وهي تتلمس أطراف الشعيرات الناعمة، تقربه من أنفها وتستنشق بقوة، كانت دائما تقول: إنه يقتلني بنعومته.

***

حين رأي الضوء الخافت المنبعث من ناحية المطبخ، فكر في طريقتها الرومانسية لإعداد القهوة. تسلل إليها كقط مغامر يدخل بيتًا لأول مرة، وثمة إجابة لا يجدها لسؤال: كيف يكون للخوف هذه اللذة؟

حين رآها تراخت نظراته. كانت دافنة وجهها بين ركبتيها، وكان شعرها مهوشًا، وجسدها العاري يلمع في الضوء المنبعث من الثلاجة المفتوحة، وثم ظلال داكنة تشكل الجسد، وتسحب منه الحياة. حين لمسها اهتزت، وخرج منها أنين خافت، وأحس لجلدها برودة قاتلة.

اتركني..
الآن؟
حالاً..
لماذا تعذبين نفسك؟
اخرج..

كان يعدل الكرافت وهو يتسلل إلى الخارج. وكان انزلاق لسان الكالون خلفه ناعمًا وحاسما، فيما باب الثلاجة كان يصفق بعنف في الداخل، وثم نشيج عال ينصهر في المكان.


سيد الوكيل



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى