لم تكن الحارة منذ سنوات بعيدة سوى جزء من أرض زراعية مترامية الأطراف، كان يمتلكها أحد الباشوات من كبار الإقطاعيين. على رأس هذه الأرض يقبع قصره المنيف، الذي صار الآن يشرف على بيوت الحارة.
ترك الباشا قصره في أعقاب تمرد أطاح به، وبغيره من الباشوات، حيث غادر البلاد آخذا معه ما خف حمله، وغلا ثمنه. لم يترك في القصر سوى بعض الأثاث، الذي يشهد على أيامه الخوالي، احتفالاته، اتفاقاته، وجلسات السمر الخاصة. صار هذا الأثاث من بعده مرتعا لمجموعة من الكلاب، التي رباها واقتناها من أجل الحراسة، ورحلات الصيد، كما صاحَبَه بعضها في جولات تفَقُّدِه لسير العمل في أرضه الواسعة. حظيت تلك الكلاب بعناية كبيرة، حتى إن الفلاحين كانوا يحسدونها على مكانتها عند الباشا، وكذلك على الطعام الذي كان يقدم لها مما لا يخطر على بال هؤلاء الكادحين. و هاهو الباشا قد تركها مع ما ترك.
اقتسم الفلاحون الأرض فيما بينهم بعد رحيله، وأصبحوا مُلاكا لها، إلا أن بعضهم أغراه السفر بعيدا عن الأرض، رغم حبهم الشديد لها، وفرحتهم الكبيرة بامتلاكها. كما سافر من بعدهم أولادهم، وكأنهم لم يصدقوا أن الأرض صارت ملكا لهم حقا، أو ربما تركوها لأنها تذكرهم بأيام الشقاء والذل والعناء ، فرأوا في السفر وسيلة يعبرون بها عن تحررهم من ذلك الماضي، الذي لم يكونوا فيه سوى قطعان من البشر، التي لا تختلف كثيرا عن قطعان الغنم والماشية، التي يمتلكها القصر وأصحابه. فأهملوا شؤون الزراعة، وركنوا إلى أعمال مريحة، استثمروا فيها ما جمعوه من مال، فتحولت الأرض إلى منازل ومتاجر، اختفت معها معالم أرض الباشا شيئا فشيئا.
ظل القصر على حاله مهجورا، وأصبح مأوى للكلاب الضالة، التي حلّت مع الأيام محل كلاب الباشا. وقد تزايدت أعدادها يوما بعد يوم، وصارت تمثل تهديدا لكل شيء. حاول أهل الحارة الأوائل طردها، إلا أن أبواب القصر ونوافذه الخلفية كانت تسمح لها بالعودة من جديد. أخذت الكلاب تتكاثر، وتتكاثر، وانضمت إليها أخرى كانت تأتي من الحارات المجاورة. أما جراؤها فقد أصبحت جزءا من الحياة اليومية، تشارك الناس القوت والبيوت.
لجأ أهل الحارة مع تقدم الزمن إلى تغيير طريقتهم، من المقاومة إلى التعايش، ومن التعايش إلى الاسترضاء، خوفا من تلك المخالب الحادة والأنياب الشرسة، الكفيلة بتمزيق من يقترب منها، فقرروا أن يتنازلوا عن جزء من طعامهم وطعام أولادهم لهذه الكلاب، التي ضمنت وجبات يومية بلا عناء. وصار تَحَمُّل إطعامها في نظر أهل الحارة أفضل كثيرا من مواجهة المخالب والأنياب.
تبدلت مع مرور السنوات ملامح الحارة ... ارتفعت الأبنية ... و تغيرت واجهات المنازل ... أسماء المحال ... والبضائع المعروضة. شيئان لم يتغيرا .. الكلاب، وأسلوب تعامل الناس معها.
ومن الأشياء التي غيرت من شكل الحارة، ذلك المبنى الذي أقيم في الجهة المقابلة للقصر المهجور. مركز طبي استقدموا له طبيبا شابا، وقد خصصوا له استراحة في أعلاه. لاحظ الطبيب مع الوقت تلك المعاملة التي تحظى بها الكلاب، و تعجَّب من ذلك الخوف الذي يسيطر على الجميع. ومن خلال عمله كطبيب وجد أن معظم الأمراض والإصابات التي تأتي إلى العيادة كان من أسبابها وجود تلك الكلاب في الحارة، هذا غير الشكاوى التي كان يُفضي بها بعضهم إليه أثناء إجراء الكشف، أو في بعض الجلسات الخاصة. ولم تقتصر شكاواهم على ما يتعلق بالمرض. حيث شكا معظهم من أعباء المعيشة، والتي رأى بعضهم أن الكلاب من أسبابها، إن لم تكن هي السبب الرئيسي فيها، خاصة وأنهم مرغمون على اقتطاع نصيب من قوتهم لإسكاتها واسترضائها، كما أنها تُضيِّق عليهم السبل في تحصيل أرزاقهم، بتعديها المتكرر عليهم، وانتشارها في كل مكان.
كان الطبيب الشاب قارئا جيدا لكل ما يقع تحت يده من الكتب، وقد قرأ كثيرا في التاريخ، وأحوال الكلاب. فقرر بناء على قراءات واسعة، وتفكير عميق أن يبادر بالمواجهة. ربما تكون مبادرته حافزا لغيره أن يتحرك.
بدأ مبادرته ببعض الأحاديث مع أهل الحارة، فرادى وجماعات، فضلا عن كتابة بعض لافتات التوعية على جدران البيوت والمحال، والتي دعا من خلالها سكان الحارة إلى ضرورة المشاركة الإيجابية في سبيل التخلص من تلك الكلاب؛ حفاظا على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. كان أهل الحارة يستمعون إلى كلماته ويطالعون لافتاته. منهم من استحسن دعوته، ومنهم من تمنّى له التوفيق، ومنهم من كان يمر كأن لم ير أو يسمع شيئا. إلا أن فريقا آخر كان يرى أنَّ هذه الكلاب، رغم مساوئها، تمثل مصدر أمن للحارة ... فهي تكفل لهم الحماية من أي خطر محتمل، أو أي لص يفكر في السطو عليهم. حاول أن يشرح لهؤلاء أن ما تتلفه هذه الكلاب من ممتلكاتهم، فضلا عما تحصل عليه من طعام تتحمله جيوبهم الخاصة، أكثر بكثير من ميزة الحماية المزعومة من لص ربما يأتي، أو لا يأتي، لكن دون جدوى. إلا أن ذلك لم يجعله يتردد في ما عزم على القيام به. فقد قرر أن يتحرك لمواجتها بنفسه، آملا أن يكون ذلك حافزا لغيره لينضم إليه. وراهن نفسه أنه لن يكون وحده في هذه المواجهة.
وفي الليلة التي حدد أنها ستكون ليلة المواجهة والخلاص .. نزل من استراحته بمبنى المركز الطبي، ممسكا بعصا، أحضرها معه ليلوّح بها في وجه الكلاب. هو لا يريد إيذاءها، فقط يريد أن يعبر عن رفضه لوجودها في الحارة. كان يود أن تكون لافتاته في يده بدلا من تلك العصا، لكنّ المكان مظلم، وأهل الحارة نائمون، وإن استيقظوا فقد فات أوان القراءة، والكلاب لا تقرأ اللافتات.
وقف قليلا عند أول الحارة، وأخذ ينادي في أهلها، معلنا أن وقت الخلاص قد حان، انفتحت على صيحاته النوافذ، وأطلت منها الرؤوس، كرر نداءه مرَّات عديدة، إلا أن أحدا لم يجبه، وتسمَّر الجميع في ترقُّب، بينما أصرَّ هو على أن يستمر في طريقه إلى الجهة المقابلة، وقد أخفى عصاه خلف ظهره، وأخذ في تقدمه، رمقته الكلاب، بادلها بنظرات حادة، اشتمََّتْ الكلاب رائحة غير تلك الرائحة التي اعتادت عليها في كل من يمر. حيث اعتادت أن تشم رائحة الخوف المختلطة برائحة الطعام. فتأهبت في تحفز. زمجر بعضها، وعوى بعضها الآخر، عواء يحمل في طياته تحذيرا من خطر محتمل. تقدم زعيمها نحوه، وقد كشَّر عن أنياب حادة، ثم توقف قليلا، في انتظار أن يوضع أمامه الطعام كما تعوّد. لكنه لم ير إلا العصا ترتفع إلى الأعلى، ظن أنه يرفعها ليضربه بها، فتحرك بسرعة متفاديا إياها، وعوى بصوت عال، فتبعته الحناجر المسعورة، وتقدمت خلف زعيمها عندما عاود التقدم، فقد قرر أن يؤدب ذلك المارق الذي خالف قوانين التعامل معها. أظهر الطبيب الشاب بعض التماسك، وأخذ يلوح بعصاه في الهواء، عرفت الكلاب أن ثمة معركة لابد وأن تخوضها لتأديبه. طال عليه الوقت وهو يلوح بعصاه، ولم يتحرك أحد من أصحاب هذه الرؤوس المدلاة من النوافذ. تعرَّق جميع جسده، ووهنت قبضة يده، فأفلتت منها العصا، أخذ ينادي وينادي في أهل الحارة حتى ينضموا إليه، بينما العواء يعلو ويعلو، رأى الجميع أنَّ صاحبهم في مواجهة خطيرة، صاحت بعض الأصوات المحذرة، بينما كانت هناك أصوات أخرى توجه إليه اللوم في شفقة، وأخرى تكيل الشتائم لذلك المتهور الذي سيتسبب حتما في غضب الكلاب على الجميع، بينما اكتفى البعض بالصمت والمراقبة. لكنّ أحدا لم يتحرك ليشاركه الموقف، أو حتى لينقذه من هذا الهجوم الوشيك. كانت الأنياب تزداد لمعانا في الظلام، والزمجرة تحيط به من كل اتجاه، والعواء يعلو في لجة من الصمت المطبق، بدأت النوافذ تُغلَق واحدة تلو الأخرى، حيث ارتدَّت برؤوس أصحابها إلى ما كانت عليه من النوم والغياب. وقف وحيدا محاصرا من كل جانب ... واحتدمت معركةٌ من طرفٍ واحد ... جذبته الكلاب من ملابسه وأطرافه، فسقط بينها، تاركا جسده لأنيابها تمزقه بلا هوادة. بينما كانت عيناه ما تزالان مُعلَّقتين بتلك النوافذ المغلقة.
# أبوزيد بيومي
ترك الباشا قصره في أعقاب تمرد أطاح به، وبغيره من الباشوات، حيث غادر البلاد آخذا معه ما خف حمله، وغلا ثمنه. لم يترك في القصر سوى بعض الأثاث، الذي يشهد على أيامه الخوالي، احتفالاته، اتفاقاته، وجلسات السمر الخاصة. صار هذا الأثاث من بعده مرتعا لمجموعة من الكلاب، التي رباها واقتناها من أجل الحراسة، ورحلات الصيد، كما صاحَبَه بعضها في جولات تفَقُّدِه لسير العمل في أرضه الواسعة. حظيت تلك الكلاب بعناية كبيرة، حتى إن الفلاحين كانوا يحسدونها على مكانتها عند الباشا، وكذلك على الطعام الذي كان يقدم لها مما لا يخطر على بال هؤلاء الكادحين. و هاهو الباشا قد تركها مع ما ترك.
اقتسم الفلاحون الأرض فيما بينهم بعد رحيله، وأصبحوا مُلاكا لها، إلا أن بعضهم أغراه السفر بعيدا عن الأرض، رغم حبهم الشديد لها، وفرحتهم الكبيرة بامتلاكها. كما سافر من بعدهم أولادهم، وكأنهم لم يصدقوا أن الأرض صارت ملكا لهم حقا، أو ربما تركوها لأنها تذكرهم بأيام الشقاء والذل والعناء ، فرأوا في السفر وسيلة يعبرون بها عن تحررهم من ذلك الماضي، الذي لم يكونوا فيه سوى قطعان من البشر، التي لا تختلف كثيرا عن قطعان الغنم والماشية، التي يمتلكها القصر وأصحابه. فأهملوا شؤون الزراعة، وركنوا إلى أعمال مريحة، استثمروا فيها ما جمعوه من مال، فتحولت الأرض إلى منازل ومتاجر، اختفت معها معالم أرض الباشا شيئا فشيئا.
ظل القصر على حاله مهجورا، وأصبح مأوى للكلاب الضالة، التي حلّت مع الأيام محل كلاب الباشا. وقد تزايدت أعدادها يوما بعد يوم، وصارت تمثل تهديدا لكل شيء. حاول أهل الحارة الأوائل طردها، إلا أن أبواب القصر ونوافذه الخلفية كانت تسمح لها بالعودة من جديد. أخذت الكلاب تتكاثر، وتتكاثر، وانضمت إليها أخرى كانت تأتي من الحارات المجاورة. أما جراؤها فقد أصبحت جزءا من الحياة اليومية، تشارك الناس القوت والبيوت.
لجأ أهل الحارة مع تقدم الزمن إلى تغيير طريقتهم، من المقاومة إلى التعايش، ومن التعايش إلى الاسترضاء، خوفا من تلك المخالب الحادة والأنياب الشرسة، الكفيلة بتمزيق من يقترب منها، فقرروا أن يتنازلوا عن جزء من طعامهم وطعام أولادهم لهذه الكلاب، التي ضمنت وجبات يومية بلا عناء. وصار تَحَمُّل إطعامها في نظر أهل الحارة أفضل كثيرا من مواجهة المخالب والأنياب.
تبدلت مع مرور السنوات ملامح الحارة ... ارتفعت الأبنية ... و تغيرت واجهات المنازل ... أسماء المحال ... والبضائع المعروضة. شيئان لم يتغيرا .. الكلاب، وأسلوب تعامل الناس معها.
ومن الأشياء التي غيرت من شكل الحارة، ذلك المبنى الذي أقيم في الجهة المقابلة للقصر المهجور. مركز طبي استقدموا له طبيبا شابا، وقد خصصوا له استراحة في أعلاه. لاحظ الطبيب مع الوقت تلك المعاملة التي تحظى بها الكلاب، و تعجَّب من ذلك الخوف الذي يسيطر على الجميع. ومن خلال عمله كطبيب وجد أن معظم الأمراض والإصابات التي تأتي إلى العيادة كان من أسبابها وجود تلك الكلاب في الحارة، هذا غير الشكاوى التي كان يُفضي بها بعضهم إليه أثناء إجراء الكشف، أو في بعض الجلسات الخاصة. ولم تقتصر شكاواهم على ما يتعلق بالمرض. حيث شكا معظهم من أعباء المعيشة، والتي رأى بعضهم أن الكلاب من أسبابها، إن لم تكن هي السبب الرئيسي فيها، خاصة وأنهم مرغمون على اقتطاع نصيب من قوتهم لإسكاتها واسترضائها، كما أنها تُضيِّق عليهم السبل في تحصيل أرزاقهم، بتعديها المتكرر عليهم، وانتشارها في كل مكان.
كان الطبيب الشاب قارئا جيدا لكل ما يقع تحت يده من الكتب، وقد قرأ كثيرا في التاريخ، وأحوال الكلاب. فقرر بناء على قراءات واسعة، وتفكير عميق أن يبادر بالمواجهة. ربما تكون مبادرته حافزا لغيره أن يتحرك.
بدأ مبادرته ببعض الأحاديث مع أهل الحارة، فرادى وجماعات، فضلا عن كتابة بعض لافتات التوعية على جدران البيوت والمحال، والتي دعا من خلالها سكان الحارة إلى ضرورة المشاركة الإيجابية في سبيل التخلص من تلك الكلاب؛ حفاظا على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. كان أهل الحارة يستمعون إلى كلماته ويطالعون لافتاته. منهم من استحسن دعوته، ومنهم من تمنّى له التوفيق، ومنهم من كان يمر كأن لم ير أو يسمع شيئا. إلا أن فريقا آخر كان يرى أنَّ هذه الكلاب، رغم مساوئها، تمثل مصدر أمن للحارة ... فهي تكفل لهم الحماية من أي خطر محتمل، أو أي لص يفكر في السطو عليهم. حاول أن يشرح لهؤلاء أن ما تتلفه هذه الكلاب من ممتلكاتهم، فضلا عما تحصل عليه من طعام تتحمله جيوبهم الخاصة، أكثر بكثير من ميزة الحماية المزعومة من لص ربما يأتي، أو لا يأتي، لكن دون جدوى. إلا أن ذلك لم يجعله يتردد في ما عزم على القيام به. فقد قرر أن يتحرك لمواجتها بنفسه، آملا أن يكون ذلك حافزا لغيره لينضم إليه. وراهن نفسه أنه لن يكون وحده في هذه المواجهة.
وفي الليلة التي حدد أنها ستكون ليلة المواجهة والخلاص .. نزل من استراحته بمبنى المركز الطبي، ممسكا بعصا، أحضرها معه ليلوّح بها في وجه الكلاب. هو لا يريد إيذاءها، فقط يريد أن يعبر عن رفضه لوجودها في الحارة. كان يود أن تكون لافتاته في يده بدلا من تلك العصا، لكنّ المكان مظلم، وأهل الحارة نائمون، وإن استيقظوا فقد فات أوان القراءة، والكلاب لا تقرأ اللافتات.
وقف قليلا عند أول الحارة، وأخذ ينادي في أهلها، معلنا أن وقت الخلاص قد حان، انفتحت على صيحاته النوافذ، وأطلت منها الرؤوس، كرر نداءه مرَّات عديدة، إلا أن أحدا لم يجبه، وتسمَّر الجميع في ترقُّب، بينما أصرَّ هو على أن يستمر في طريقه إلى الجهة المقابلة، وقد أخفى عصاه خلف ظهره، وأخذ في تقدمه، رمقته الكلاب، بادلها بنظرات حادة، اشتمََّتْ الكلاب رائحة غير تلك الرائحة التي اعتادت عليها في كل من يمر. حيث اعتادت أن تشم رائحة الخوف المختلطة برائحة الطعام. فتأهبت في تحفز. زمجر بعضها، وعوى بعضها الآخر، عواء يحمل في طياته تحذيرا من خطر محتمل. تقدم زعيمها نحوه، وقد كشَّر عن أنياب حادة، ثم توقف قليلا، في انتظار أن يوضع أمامه الطعام كما تعوّد. لكنه لم ير إلا العصا ترتفع إلى الأعلى، ظن أنه يرفعها ليضربه بها، فتحرك بسرعة متفاديا إياها، وعوى بصوت عال، فتبعته الحناجر المسعورة، وتقدمت خلف زعيمها عندما عاود التقدم، فقد قرر أن يؤدب ذلك المارق الذي خالف قوانين التعامل معها. أظهر الطبيب الشاب بعض التماسك، وأخذ يلوح بعصاه في الهواء، عرفت الكلاب أن ثمة معركة لابد وأن تخوضها لتأديبه. طال عليه الوقت وهو يلوح بعصاه، ولم يتحرك أحد من أصحاب هذه الرؤوس المدلاة من النوافذ. تعرَّق جميع جسده، ووهنت قبضة يده، فأفلتت منها العصا، أخذ ينادي وينادي في أهل الحارة حتى ينضموا إليه، بينما العواء يعلو ويعلو، رأى الجميع أنَّ صاحبهم في مواجهة خطيرة، صاحت بعض الأصوات المحذرة، بينما كانت هناك أصوات أخرى توجه إليه اللوم في شفقة، وأخرى تكيل الشتائم لذلك المتهور الذي سيتسبب حتما في غضب الكلاب على الجميع، بينما اكتفى البعض بالصمت والمراقبة. لكنّ أحدا لم يتحرك ليشاركه الموقف، أو حتى لينقذه من هذا الهجوم الوشيك. كانت الأنياب تزداد لمعانا في الظلام، والزمجرة تحيط به من كل اتجاه، والعواء يعلو في لجة من الصمت المطبق، بدأت النوافذ تُغلَق واحدة تلو الأخرى، حيث ارتدَّت برؤوس أصحابها إلى ما كانت عليه من النوم والغياب. وقف وحيدا محاصرا من كل جانب ... واحتدمت معركةٌ من طرفٍ واحد ... جذبته الكلاب من ملابسه وأطرافه، فسقط بينها، تاركا جسده لأنيابها تمزقه بلا هوادة. بينما كانت عيناه ما تزالان مُعلَّقتين بتلك النوافذ المغلقة.
# أبوزيد بيومي
Zum Anzeigen anmelden oder registrieren
Sieh dir auf Facebook Beiträge, Fotos und vieles mehr an.
www.facebook.com