حسن إمامي - حقنة..

بيد مرتعشة، في عتمة الليل المنسية، حيث لا تمر مشاعر البشر، ولا يوقظها ضميرها في عز النوم، استل الحقنة، باحثا عن عرق ما زال ينبض بإشارة حياة. بإبهامه وسبابته والوسطى، أخذ يجس نبض هذا الجسد، أين يا ترى يمكنه غرس هذه الشوكة اللعينة التي تبعث الرحمة بعد ألم، والحياة بعد إطلالة على شرفات البياض، هذا الذي يغدر بك في الانتقال إلى ظلام مدلهم دائم.

كانت حقنة الحياة الخادعة، تلك الآمال التي غرست عبر تفاعل الحواس ونقلها لأحلام وطموحات. ركب عبرها البحار وخَطَا بها بانتصارات على قمم الجبال وفوق رؤوس الخلق. كانت رؤيةُ ليلة واحدة أو حلمَ يقظة كافية كوصفة مخدرة، مشعلة الدفءَ ومحركة دينامية الاستمرار وسببها، وتقليب صفحات الآفاق الممتدة ليل نهار، مكان مكان، وزمان زمان.
ازداد الارتعاش، واخترقت البرودة الأحشاء، فأيقظت رطوبة الماضي الدفين، لتزكم آهات الصراخ الصامت بجراحٍ ما اندملت، لكنها سكنت بترسبات متراكمة.
ازدادت المسافات ابتعادا بين تفاعلات هذه الذات. لم يعد واثقا من قدرته على تركيب الحركة بين مكان الحقن، وأداته، و وسيلته و مادته. فجأةً ، ازاح بصره في شرود داخل حلكة هذا المساء. تفحص الاستدارة الرمادية الشاحبة لهذا القمر في العلياء. كأنه ملكوت موت لا يريد له شفاء. متفرج سادي على مشهد الحقنة التي لا تجد محطة إنزال.
كمْ لنخبك كانت من جرعة، وكم لطلعتك واكتمالية احتفاليتك كانت من قبلة. وكم من كلمة للحبيبة اهديت باسمك؟ الآن، أصبحت َ من جمهور الماضي المتفرج على الحاضر والآتي.
اخترقت دورية أمن، بمصابيحها وصوت محركها المألوف بالحكايات والبلاغات، عُرْيَ هذا الملجأ المرابط في الخلاء. فرملت على حافة القدمين الحافيتين الممتدتين على مسافة رصيف المدينة. كان متكئا على جدارها. عيناه جاحظتان في تحدٍّ، في انتظار خلاص، بين القدرة على استعمال حقنته وشحنته، وبين تخليص القمر له من هذا العذاب الليلي السرمدي.
بحثت الدورية في جيوبه. بعض دريهمات التسول. علبةُ انسولين أخيرة. بطاقة تعريف عجيبة وغريبة:
الاسم : فراغ بياض.
العنوان / عراء في خلاء.
المهنة : حرفة عذاب و حرقة غياب.
الجنسية : مواطن من هذا البلد.
تمَّ إسعافه بالحقنة، وتم التبليغ عن العملية وتأكيد توفره على رقم بطاقة تعريف وطنية.
تم توديعه بعد العملية:
ـ لا تخف، رقمك مسجل عندنا في مؤشرات التنمية.

حسن إمامي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى