حسن إمامي - فيروز وعبد الحليم

صرير الباب الحديدي اخترق هدوء الممر الضيق للزقاق. الخطوةُ الأولى لولوج هذا العالم الخارجي في هذا الصباح. تحتاج فيروز لقفز بضعف الخطو فوق مجرى المياه العادمة الذي يدب سيلانا خيطا حلزونيا منعرجا. قاومت بملء كفها الذي خللته بعطر القارورة داخل المنزل. استطاعت أن تعيد التنفس الطبيعي لهواءٍ سليمٍ بعيدٍ.
في الزنقة المؤدية إلى الشارع الرئيسي للحي، اخترقت خطواتها الحاجز الثاني كامتحان وجود وتحدي حياة. جسد أم جثة، أم هما معا ؟ ازداد خفقان نبضها. الممرات فارغة من الساكنة، وهي المبكرة دائما. تحتاج لنصف ساعة مشيا حتى تصل إلى مؤسستها التعليمية. تعرقت مسامها وتنملت بعد ذلك في قشعريرة جسدها الغض وجلدها الناعم الذي يقاوم بربيعه خريفَ هذا الزمن المعيشي، وتجاعيد الصدور المتصاعدة حنقا واشتهاءً داخل هذا الركام الصفيحي الممتد زركشةَ ألوان وتشكيل أحجام.
على مرمى البصر، من زاوية الشارع الذي يعلو على الأنام ويجعل من جدار يميكٍ حاجبا له يقيه من جوارٍ ومن رائحة تزكم الأنفاس، ذهب دفء الفراش الذي شحنته بغطاء الأحلام . تحولت بشرتها من صهبة موردة إلى زرقة جليدية كملمس الصقيع. وبعد أن اختبرت وقف التنفس في عبور باب المنزل ، احتاجت الآن إلى وقف نبضات القلب التي ازدادت في فضحها تطبيلا وهي تضع خطوها عابرةً فوق الساقين الممتدين للجسد ـ الجثة.
غالبا ما تخونها تلك الخطوات في أحلام منامها التي تختلط مع زوبعات الليل داخل هذا الحي الشعبي الصفيحي. ما تذكرته من مسامع الليلة الماضية بمشاهدها المتخيّلة لدراما هذا الحي المتسلسلة الوقع في حلقات كل يوم، لم تُسعفها في موضعة دور هذا الجسد ـ الجثة الممدود على الطريق. جريٌ سريعٌ، متقطعٌ بين مرحلتين في غياهب منتصف الليل ويمّه ... صوتٌ هاربٌ من مطاردة الشرطة لتاجري المخدرات. وسمفونية الجارة بصوتها الناعم، السكران والمتثاقل، حين دخولها لمنزلها على مشارف الفجر بالمطارق، المتفتق خارج حياتها الليلية.
هذا كل ما تذكرته فيروز وهي تعبر فوق الجسد ـ الجثة. مرت بسلام. لازمة استعانت بها من ماضي التجارب البشرية والاستعمالات اللغوية المتعددة لها. أسرعت الخطو حتى اختراقها للشارع المضيء بأشعة الشمس الصباحية المتثاقلة في الشروق والإطلالة على هذا الجزء من العالم الذي يحتضن نموها وتوقها للحياة.
كانت الأم قد خرجت باكرا، لكي تلتحق بالمقهى الذي تعمل فيه منظفة وغاسلة أواني. عمل يضمن رعاية لفيروز وأخيها الذي يصغرها بسنتين، والذي انقطع عن الدراسة باكرا في نهاية الطور الابتدائي.
التحقت فيروز بأمها وهي في طريقها إلى الثانوية. قطعة من الخبز المسمد والمطهي فوق مقلاة ( الحرشة ) وكأس حليب ساخن، ذاك حظها هذا الصباح من إكرامية الفطور في المقهى مع ابتسامة وتقبيل ليد أمها.
ـ الله يرضي عليك يا بنيتي ويعطيك النجاح ويحفظك من أولاد الحرام.
الثامنة إلا عشر دقائق. فرادى ومثنى وثلاث... مرور المواكب التلاميذية المختلفة الأعمار. في منتهى هذا الشارع الذي يقف برجا عاليا وسور صين عظيم يحجب عالم سكان حيها أسفل، تتوزع المؤسسات التعليمية مع توزع الأعمار. أقربها ابتدائية، وبعدَها إعدادية، وأبعدها الثانوية التأهيلية التي التحقت فيروز للدراسة بها هذه السنة. إنما الوصول إليها بعد عبور حي مجاور خاص بالفيلات.
يمر عبدالحليم بمفرده. تختارُه رفيقَ الطريق، وهو رفيق دراستها منذ الصف الإعدادي الأول. والآن ، أربع سنوات مرت على تجاورهما داخل الفصل الدراسي، وفي طاولة واحدة.
أصبحا متلازمين، متفاهمين، متوافقين في جل الأمور. وفي جل صعاب الحياة، في الشارع كما في المدرسة. أما المنزل، فقد شكّل لهما فضاء ساكنا واستراحة للمشترك بينهما من كلام وأحلام وخيال. وقد اعتادا على تلخيصه في الكلام كل مرة بمشاكله ووضعه إبعادا لهمومه عنهما.
كانت علاقتهما مخضرمة بين خروج من طفولة يافعة، ودخول إلى مراهقة جامحة. عرفا، هما الاثنان كيف يوافقان ويوفقان بين اللعب والمشاكسة والمداعبة والملاطفة. اخترقت أحلامهما لمساتهما وتورداتهما ولحظات ضعفهما.
هي لا تدري لماذا لا تقوم بعَدِّ تلك البناية البارزة من بعيد والملونة جدرانها بأزهى الألوان، ضمن المؤسسات التعليمية الثلاث الأخريات، كلما ورَدَت في حكي أو حديث.
ـ آه. تلك مؤسسة خصوصية. يدرس فيها أصحاب السيارات والنقل المدرسي أصفر اللون. أما دراستنا فهي خاصة بنا.
نزهة الصباح والمساء، والظهر وما بعد الزوال ، تكون باختراق حي الفيلات بين الثانوية والشارع المؤدي إلى الحي والزقاق.
كلما أشرفت عليها مقبلة على بوابتها، تعلق هامسة في أذن عبدالحليم:
ـ الثانوية التهليكية ترحب بكم .
ينتهز عبدالحليم كل فرصة حين المرور بين فضاء حدائق الفيلات المكسوة بالورود والأشجار والشرفات الهادئة الجمال، فيطلب من فيروز وجبته:
ـ اعطني بوسة !
كل مرة يتغير الجواب. فأحوال الطقس مثلها كذلك ذا المزاج. مرة على الخد، ومرة يكون الجواب:
ـ أنت أحمق. الناس ترانا. حتى الفايسبوك وخذها، أو سر عند خالتك وخذها... زِدْ على ذلك، أنك لم تغنِّ لي اليوم.
ـ آش نغني ليك دابا؟
ـ لا يجب أن أكون طالبة للغناء. أنت الذي يجب أن تستبق الطلب.
بالكاد تبدأ الدراسة مع الساعة الثامنة والربع. هُدرت عشرون دقيقة من توقيت الانطلاقة الرسمي للدراسة. تكون فيروز مع عبدالحليم من أوائل من وصلوا إلى باب المؤسسة حوالي الساعة الثامنة صباحا.
يبدأ الأستاذ بالتحفيز على المشاركة في الأنشطة الأدبية:
ـ من منكم يريد المشاركة في مسابقة أدبية للقصة القصيرة والشعر ؟
ـ أستاذ، كيف نكتب قصةً ؟
ـ القصة القصيرة تحتاج إلى جانب الأسلوب ، الشخصية والحدث والبيئة...
ـ أستاذ، مررت هذا الصباح بجانب جثةٍ، وطار مني قلبي.
قهقه التلامذة، فيما فيروز اغتاضت من سخريتهم. انبعث هلعها الحقيقي حين باحت بالجملة الأولى أمام الأستاذ. أما في لحظته، فقد كان خوفا أزرق مرسوما على صقيع جسدها. مع شهقة، انهارت في غيبوبة.

حسن إمامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى