توفيق بن حنيش - الدرس الراقص

وسمعت الصّوت في أرجاء ذاتي المقفرة يتردّد:" ادخل يدك في جيبك لأسألك عمّ بيدك يا معلّمُ". وأدخلت يدي في جيب ميدعتي البيضاء الأنيقة. وأخرجتها بسرعة فإذا في قبضتي العصا.

وفي لمح البصر أهويت بها على ظهر التلميذ وقد غدا كالصّدفة القديمة بلا حياة. أهويت بها على ظهره، وعلى رأسه، فأنّى لدرس الضرب أن يكون بلا ضرب. أهويت بها عليه فتلوّى. توجّع. أمسك بركبته التي أصابتها العصا المقدّسة. وحينما خف الوجع وبردت نار الألم حاول أن يبكي.

أحسست بيد تجوس خلال فؤادي وهي تسألني: لم ضربته. (وفي الحقّ كنت أنتظر سؤالا آخر: ما هذه التي بيدك يا معلّمُ؟) وتكرر الصّوت في مسمعيّ وفي ذهني المغلق الفارغ الذي يشبه مرنانا: لم ضربته؟

كنت أعددت إجابة أخرى سهلة يسيرة مقنعة. كنت أحبّ أن أجيبه تلك عصاي أهش بها على تلاميذ أغبياء.

ولكنّ السؤال فاجأني.. "لم ضربته؟"

كان يتلوّى كثعبان في سرك خاطوا له فمه. كان يتلوى كريح ضاقت بها السبل في الممرات بين الجبال. كان يتلوى كذكرى جاءت على حين غرّة...ذكرى لم أدعها. ذكرى اقتحمت عليّ "مشغلي" دون استئذان.

ما الذي بيدك يا معَلّمه؟

وجاء الجواب في الحين: معزف أطرب به الصبية أوان النّشيد. ولي معه حكايات أخرى. نعم لي فيه مآرب أخرى. إنّه رفيق وصديق.

أمطرنا المعلّم بالألحان الشجيّة والإشارات العاطفيّة. فجعل التلاميذ يتمايلون كالمجذوبين وهو على مناضدهم مستقرون.

اعزف يا مولانا لتستخرج من قلوبنا أحزان آدم وبكاء هابيل ودمع قبيل وندم القاتل والجمر الذي في روح القتيل. اعزف لتنشي الفراخ الزغب وتوسّع في آفاقهم التي لا تتجاوز زرائب ومروج يخالونها حدود العالم.

وجعل التلاميذ يتلوّون كالثعابين التي يرقصها عازف هنديّ.

وكنا نطل بالرغبات المكبوتة في هذه الحرم الذي حرّم كلّ لهو يشغل عن الدّرس. وكنا نستعيد أغنيات بلا عناوين وكلماتها بلا أصوات. كنا نبتسم بخجل. ونتبادل الإشارات بكثير من الحذر من أن نفسد على العزف قداسته فالكلام في حضرة العزف حرام.

لقد حوّل المعزف قفر المكان ووحشته أنسا دائما. وأثبت لنا المعزف أنّ درس الضرب لا يكون أبدا بالضرب, اللهم إلاّ إذا كان الضرب نقرا على الطّاولات الصغيرة.

كانت عصاي قطعة من مسند للظهر لإحدى مناضد التلاميذ. كانت شرهة نهمة دائمة الجوع للحم الفتيان والفتيات. كانت تنتشي وهي ترقص على أجسادهم الطريّة. كانت ثملة تتلمظ شوقا إلى الأيادي الطريّة، والرؤوس والأستاه والظهور. كانت عصاي تسخر من الكفّ الذي لا ينال هذا الغنم وهذا الشرف. والكفّ يهزأ بالعصا لأنها لا تعبّ من لذة صفع الوجوه والخدود، وقرص الأنوف والشفاه والآذان.

عندما هويت عليه بالعصا، فتح فمه المليء باللعاب فظهرت أسنانه المتداخلة تثير قرم العصا.

صفعته... صفعته مرّة أخرى فالتصق اللعاب بكفي. مسحت فيه اللعاب. وهويت عليه بالعصا.

أخبرني بتلعثم أنّ أباه فوت عليه فرصة حفظ الجدول. قال لي: هو... هو ... هو من قال لي اترك ذلك جانبا وانطلق في أثر الفرس الذي فرّ من مربطه." قالت لي العصا:" يكذب...إنه يكذب." وهمزتْ كفيّ تحذّره من تصديق ادّعاءات الصبيّ... وشعرت كأنها تكتب له على صفحت جسده الغضّ:" العصا لمن عصى."

وعاد الصبيّ العاجز عن البكاء يقسم ويقول:" والله هو الذي أمرني بذلك... والله هو من طلب منّي ترك جدول الضرب والجري وراء الفرس للإمساك به. والله هو..... "

وهوت عليه العصا من سابع الخطوط التي توقع أنها بعيدة وتحميه. حاول أن يتّقيها بيديه. لكنّها راوغته وأصابت أعلى فخذه. صاح من الألم ...لكنه، كالعادة، لم يبك.

وبكى المعزف بين يدي معلّمه. وبكت عواطفنا من القحط والجوع إلى الألحان النّديّة والكلمات العائدة مع الأصداء البعيدة. وبكى الطّفل المهمِل لجدول الضرب بعد أن استعاد عقله وأمكنه تأهيل منطقه. بكيا بكاء الشكوى والضراعة، ضراعة الغريب للغريب. وكان معلّم تلك الأيّام ينظر إلى تلميذه المعلّم من بلّور نافذة عليها غشاوة من الضباب وهو يحرّك شفتيه وأصابعه كأنّه يذكّره بأجمل الأناشيد التي كانت ممكنة في زمن المسغبة.

أمعنت في ضربه وأنا أشيح ببصري عن كل النّوافذ وخاصة منها التي يغشاها ضباب الزفير. وكنت أصمّ أذنيّ عن كلّ صدى من شأنه أن يقنعني بأنّ الطفل ذا الفم المليء باللعاب بريء ويمكنه أن يحفظ الجدول في موعد آخر. وتظاهرت بالغضب الشّديد الذي لا يطفئ ناره قسم مؤكّد.

مع معلّمي غنّيت مع الصراصير في القوائل القائظة ونققت مع الضفادع في السباخ ونحت مع البوم في الليالي المقمرة. فكان أن تخففت من أحمال لا طائل منها. وركّبت بدلها أحمال الأمل في زهور ونوارس وأحلام.

ومعي كان تلميذي الذي عبر بي إلى ها هنا.. كان يرفض ان يجهش بالبكاء. ويحبس في صدري انفجار الرّغبة الغريبة... كان يتوجّع ويجهد نفسه في تحويل دموعه وشهيقه ونشيجه إلى ضغط مستمرّ على أسنانه المشوشة الترتيب... كان يزفر بألم.

لن أتركك إلاّ إذا بكيت... زقهقهت العصا.

ولكنه عاد ليقسم لي بأغلظ الأيمان أنه قضى العشية وشوطا من الليل يقتفي أثر الحصان. ورجاني أن أنظر إلى قدميه اللتين أدماهما الشوك. قال لي:" جُرحت رجلي البارحة عندما دست على شظية قارورة وأنا اجري في أثر الحصان.

هويت عليه بالعصا لأنني كنت متأكّدا أنّ في الحكاية كذبة. الكذبة مؤكّدة ... لعلها من قبل الحصان... أو ربما تكون اختلاقا من قبل التلميذ والحصان منها براء.

يئس تلميذي فتخلى عن محاولة صدّ العصا بيديه. وخلا وجهه من كلّ تعبير فاستفزّني ذلك. فحاولت أن أدفعه من أمامي لأسقطه كما يسقط الديناميت بناية عتيقة مهجورة. لكنه ظلّ واقفا لا يعبأ بالعصا التي أصابها السعار، ووجدت في ذلك استفزازا لا يليق. وانفلت الزمام من يد... وعادت تعضه من رجليه ومن ظهره وتنهش رأسه.

رفعت رأسي. فوقعت عينيّ على النافذة التي كانت تواجهني... كانت معتمة بالبخار. ووراءها وقف رجل قصير القامة يمسك بمعزف ... فركت عينيّ بيديّ الاثنتين فسقطت العصا... كان معلّمه يجدّ في العزف وكانت أصابعه لا تكف عن الرّقص. وجاءت من البلور أصداء أصوات الصراصير والجاندب ونقيق الضفادع وصهيل أفراس ونهاق أحمرة وخوار أبقار ... حاولت أن أغضي عن ذلك. فحاصرتني المعازف من كل جهة...

ورقصت العصا وقد تملكتها الغيرة.

أنا الآن في حضيض الذّكرى...

كنت واقفا مع العمدة في ساحة المدرسة التي لم يكن لها سور. كان العمدة يتحدث من وراء الزّمان. رأيته يشير بيديه ويحكّ رأسه. كان يكلمني من وراء بلّور عاتم. سمعته يحدثني عن تغيير النشيد بالتربية الموسيقية واستبدال مادة التصوير بالتربية التشكيلية والاستعاضة عن البراعة اليدوية والأشغال التطبيقية بالتربية التقنية. ثمّ أشار إلى البئر...

كان تلميذي ذو الفم المليء باللعاب يقود حصانه الأبيض الممشوق القوام إلى البئر. إنّه العطش الذي حرّك العصا لتهوي على جسده الطريّ. هو نفسه العطش الذي يقود الصبيّ والحصان إلى الماء الغائر في أعماق البئر.

كان العمدة يحدثني عن مشروع الدّولة لتحديث التعليم. وبالكاد كنت أسمعه يتحدّث عن زيارة السيّد الوزير. وجعل يعيد عليّ منجزات محمّد الشرفي. قال لي بصوت لا يكاد يسمع. وقع التمديد في السنة الدّراسيّة.

رأيت الصبيّ يمدّ في الشكيمة للحصان. ورأيت الحصان يزحم الصبي ويدفع به إلى مائدة البئر. قفز الصبيّ... جذب الحصان بعنف... جذبه الحصان بعنف... والطفل فوق مائدة البئر. ومعلّمي في السبعينات يعزف لنا Frère Jacques ونحن نوقع بأيادينا الصغيرة على الطّاولات. والعمدة يخبرني أنّ الطفل يتيم الأمّ وأنّ أباه يريد فصله عن الدراسة، ويؤكّد لي أنّ هذا الحصان أوشك أن يوقع والده في البئر لو لا أن تداركه عفو الله.

سقط المعزف من يد معلّمه. فصدر عنه شيء مثل الأنين.

فقد العمدة صوته. وجعل يمدّ أصابعه إلى حلقه باحثا عن بقية ما قاله الوزير في الاجتماع الشعبيّ الكبير.

والحصان الماكر لم يعد يهمه الماء. والعصا كان تذوب في الذّهول. والحصان يرقص. والطفل يتمسك أكثر بالشكيمة. والحصان يزداد عنفا ويرفع رأسه في الفضاء الممتدّ إلى أقطار السّماوات. ثم يهوي به على صدر الصّبي.

تمنيت أن يسعفني الحظّ لأقول للجميع الذين كانوا وراء زجاج يعتمه ضباب الزفير، " لو كان يحفظ جدول الضرب لاستطاع أن يتقي عنف الفرس." لكنّني أصبت بشيء يشبه الخرس...

كنت أنا والعمدة والمعلم ذو المعزف الذي كسر الحواجز البلوريّة، كنا نحدّق في ماء البئر المترقرق الذي لم يكن قد أثاره شيء البتة. وكان الزمان والحصان في شأن يغنيهما عن الاعتبار.

أمّا الدّابة فقد تركتنا مجتمعين حول البئر، ومضت تجرّ شكيمتها على الأرض. مضت تراقص العنف والألم. مضت مطرقة في الأرض لا ترتفع لها همّة.

في 24 أفريل 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى