حسن إمامي - خطو فوق الموج

في حركة شبه احتفالية، رفعت ذراعيها بشكل تراقصي يفتح قوسا متصاعدا إلى السماء ليلتقي في شبه استدارة لملاقاة شَعر أسود منسدل على كتفيها وظهرها. تأخذه بأناملها الرقيقة والناعمة، في اختلاج متداخل يمتلك هذا التموج السمفوني الذي يرفع ستارا عن المشهد الاحتفالي المسرحي لابتسامة تستبين معانقة الأفق بين السماء والبحر، بين إشراقة أشعةٍ وانعكاسٍ على صفحة الماء الزرقاء.
يستميل الذراعان لانحناءة الجيد على غابة ملساء. يكشفان عن إبطين يمتلكان من العذرية ما تخبئه جزر سعادة منتظرة لم تطأها أقدام أنام من قبل.
وما تداركته العينان من رغبة حياة لوردة متعطشة لندى الصباح وطربِ طللِه على بتلاتها ، حتى تفوح بعطرها الأرجاء.
كسمكة سلمون بدأت رحلة الحياة من منابعها الصافية إلى عوالم ملوحة هائجة عريضة، استقبلتها محطة القطار المحتضنة للغريب قبل القريب. حلمٌ هو، تنامى وكبُر. امتلك خيالها وبنى لها قصورا بأبراج قمرية ونوافذ نجمية، وبهو سحاب فسيح، ناعم كالحرير، ووديع لمملكة سرير. كلما توغلت في فضاء المحطة المبتهج بأضوائه وصخبه وحركته التجارية والترفيهية ورواده السريعي القبض على زهرة حياة، في سدرة منتهى يعشقونها أو يصبون لها، كلما ازداد تمدد الحلم واتسعت آفاقه ومرافقه ، وانكشفت فيه أسرار خيال جديد أشهى وأرقى بفعل سحر أخّاذ.
كان الحلم قد امتلك السفر ورحلة القطار. وكان هو من شكَّل عناصره ومشاهده وأحداثه وتطورها وجدليتها. كان الجسم في رخوته، وفي تفجره على كل أنواع الألبسة الضيقة الملتصقة على بدنه في لعبة مشاكسة تنبلج من خارج القيود والحصارات. كان الذهن بأسلحة حواسه، لعبةَ الصبا التواقة إلى فرح التجربة، وقطف باقة سعادات الحياة المنتشرة والموعودة.
ألم يتلاعب الكل بآمالها وعمليات التأجيل المحبوك لها؟ أصبح الحلم حصانا ماردا يجتر قطار السفر إلى خطوط سكة حديد عارجة. تركت له الحرية من عنان، عساه يعوض الحنين باللقاء. جرح الأبوة أنها تتخلى عنها حين النضج والاشتهاء. تصبح مثل الغريبة الحمقاء. مثل الحمامة أو اليمامة التي حتى إذا ما اكتمل الجناحان في التدرب على رفرفة التحليق، أودعوها قفصا من زجاج وأسبكوا عليها بحلي وتاج. كيف ينسلخ الجسد من رداء حب وطفولة؟وكيف يطلب شرنقة جديدة، ولحافا ورداءً جديدين؟ جرح يشرخ الهواء شطرين داخل نفسيتها. شطر بطعم الحياة الأولى، وشطر بطعم الحرمان و دمرارة الخذلان.
لم تكن تدري إن كان حلما وديعا، ذاك الذي أيقظها في ليلة بدر من ربيع، أو كابوسا هيأ للانفصال برصاصة رحمة وخلاص. وما من خلاص ما دام جرحا في استمرار.
جرح أمومة ربى على الغيرة ونافَس اليفاعة، واحتج على انتقال طراوة ونضارة. كيف لا تنسى ضغط الحجب والستر لمعالم الجسد الذي يريد أن يستحم من عطش بقطرات الماء المبلورة لمعانا بأشعة الشمس في السماء.
ستة عشر ربيعا، لم يعترف لها بعد القانون ولا القضاء. ثقل المنع وتهمة قاصرٍ، رافقَا موسم التبرعم والحجب وحراسة المساء.
كان لها أن تختار فارس أحلامها، الذي ستركب معه قطارها. ستكون من المسافرين، كلٌّ يركب خياله ويمتطي حصانه وخيله، ويشهق مع سرعة صهيله، ويطبق للريح المعاكس غابات استوائه وماضي َ حضنه.
لماذا هذا الجرح دائم الحضور، كهوّة في دواخل النفس لا تنغلق، كظمأ لا يرتوي رغم الغرق؟ لماذا هذا الوجود المرفوق بلعبة دمعة جارحة معذبة لمسام ؟ وكأن الحنين رحلة ألم. تعددت الرحلات بين حلم وألم وفراغ منسي منذ قديم الزمن. كلما عمَّ الحاضر إلى الاكتمال، قال: لا. ما يزال هناك نقصٌ يهدد بالعدم.
بصفة الأب، ووقار الشيخ، ورعونة كتفيها المجنونتين في طيران بلا أجنحة، اختارته في رحلتها الأولى، شعورا بالأمن في السفر، والحب الفطري في النظر، واللعب الطفولي الجامح في السهر. متى تحط الرحال، ربما، تعيد تجربة ونظر ! ونظر .
حسن إمامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى