حسن إمامي - الصالة الصغيرة

كلما احتجت إلى جواب عن جوانب أجهلها، التجأت إلى والدي. صعدت الدرج. كان الصعود منذ الصغر أملا كبيرا يقترب من التحقق كلما أوشكت من الوصول إلى الغرفة أو الصالة الصغيرة كما نسميها.
مدخل بباب ونافذة على اليمين. خامية بحسب الفصول السنوية سميكة أو شفافة مزينة بورود. على الشمال من باب الغرفة مكتبة تجمع مسار عقود من الدراسة والعمل. منذ الأربعينيات، لا زالت دفاتر تسجل دروس العالمية المحصل عليها في جامعة القرويين. وها هي مذكرات تحضير الدروس الابتدائية وبعدها تلك للتعليم الإعدادي. كتب فقه وأدب وتاريخ وتفسير وشرح حديث. مجلات مرافقة لمسار الأولاد في التعليم من أعداد العربي حتى مناهل وزارة الثقافة وأعداد العلوم والحياة بالفرنسية، فكتب الأدب والشعر... واللائحة طويلة. رغم الفراغ في بعض الأروقة، فإنك تسجل عنوان كتاب أو مجلة استعير ولم يسترجع. قصة مكتبة نصفها ذهب، مثل صومعة حسان نصفها ذهب. وهي قصة اقتناء الكتب في مجتمع الأثاث وليس الكتاب. وقبل تناول هذا الصراع المرير بين الطرفين، تذكرت ما قاله كاتب بريطاني وتركه وصية قبل وفاته لمن يعيش بعد وفاته. استفدت الحكمة من رجل تعليم في مقام والدي، كان حارسا عاما بمؤسستي التي أشتغل فيها. كان كل يوم يكتب حكمة ويضعها أمام وفوق مكتبه. تكون هدية مرفقة بابتسامة لكل من أطل على مكتب الحاج في صباحه المتنور الصائب، واسمه الحاج صائب. وكنت قد جئت لأسترد كتابا أعرته له في علوم القرآن، وهو المهووس كذلك بالكتاب. تقول الحكمة ولا زالت وريقتها عندي محفوظة بين صفوف ورفوف مكتبتي المتواضعة جدا والبخيلة نقدا، مكتوبة بلون أحمر على ورق أصفر منذ خمس عشرة سنة، وها هي السنوات مع تحيين الكتابة تضيف عقدا زمنيا آخر:
(( لاتعر كتبك لأحد ، فقد كونت مكتبتي من الإعارة ))
لا زالت لحظة الدخول إلى الصالة الصغيرة مناظرة حكيها. هي ثوانٍ توازي سنوات العمر وما وعيته فيه، سنوات ضوئية ربما. تذكرت الصراع بين الكتاب والأثاث. وهو صراع حاضر في منزلنا، كما هو حاضر في منازل أخرى. على الأقل هنا الصراع توازن، رغم نفور الوالدة من غلبة الكتاب داخل الصالة الصغيرة. فأثاثها، الذي استطاعت أن تجعل له واجهة رفوف زجاجية كبيرة، مستمر في التجدد والتنوع. وتلك لعبة أنثوية بامتياز.
أقتحم الغرفة مبديا الرغبة في المعرفة لموضوع أو سؤال أحتاجه في تدريسي أو ثقافتي وحواراتي. أحتاج إلى تركيز وهدوء حتى أخترق عالم والدي في المطالعة والإبحار مع فتح كل كتاب. كانت الابتسامة تخترق سهام الملاحظات المعلقة على المطالعة، فتسقط أشواك الكلمات المعاتبة وتذيبها وتنسي حدوثها:
ـ آ الحاج ، ألن تنتهي من قراءة هذه الكتب؟ باراكا ( كفى )، سبعون عاما من القراءة!
لا تعليق. يجب إعطاء كل ذي حق حقه. لا بأس، يغلق الكتاب، يُنسى التعليق، وتستمر الحياة دينا ودنيا، علما وحياة.
أعلم ما ينتظرني. لن يكون الجواب على السؤال استعراض ثقافة ومعلومات. لن يكون مجرد دقائق معدودة. سيكون بداية بحث وصبر وتعلم من كتاب.
ـ لقد سألني صديق لي حول تقليم الأظافر، وأوصاني بأن أسألك. ما هي الأيام المناسبة له؟
ـ انظر الكتاب المغلف بالأحمر على جهة اليمين، بجانب الهاتف. أحضِره وافتَح الصفحة الأخيرة في الفهرست.
أعلم ما ينتظرني. أتحايل، لكن لا بد من الاستسلام لعالم الكتاب. النفسُ، تَعتبر الأمر عقوبة، خصوصا إذا كان الأمر مع اقتراب موعد شريط في التلفاز أو مع رغبة خروج لجماعة الأصدقاء بالمقهى. يَعلم الوالد مثيرات هذه النفس، يتجاهل، يتركك تختار، لكنك أنت من أردت السؤال.
ـ طيب، سأقرأ العناوين الصغيرة. أتابع؟
ـ نعم، انظر هذا الفصل.
أقلب صفحاته. يصبح التجوال بين مواضيع غزيرة، ونفسك مسافرة فيما حُرِمت منه في الشارع، شاردةٌ عن هذا الحوار.
يحضر حب النقد للمكتوب عند جيلنا. مقبول الاختلاف، ولكن لا يعلو على ضرورة المعرفة والعلم أولا: اقرأ أولاً!
أتابع القراءة. أتساءل مع عنوان آخر( فضل النوم على جهة اليمين). أعلق. لكن هناك حديث أقرؤه. طيب، لا اعتراض على سند ومتن الحديث والرواية. إنما يضيف صاحب الكتاب روايات وتعاليق. ماذا؟:
ـ ويجوز للحكام والأمراء الاسترخاء والنوم على جهة الشمال تسهيلا للهضم وتخمة البطن.
أعلق، حيث تكون هذه فرصتي المناسبة لأبدي رأيا شخصيا مناسبا لجيلي وعقليتي:
ـ كيف؟ أهو نوم طبقي؟ الجائع على اليمين والمتخم الغني على الشمال؟
يأتي التعليق بابتسامة وهدوء وقَبول لهذه اللمسة التي تخرج من رتابة ما. يأتي التعبير بصمت كبير:
ـ انظر العنوان الموالي. ها هو جواب السؤال الأول. أتعلم كيفية تقليم الأظافر؟
ـ لا.
ـ خوابس!
جحظت عيناي. انحنى رأسي وطأطأ من الجهل. بَرَّرَتِ النفسُ مستعجلة الانفلات من قبضة العلم والكتاب:
ـ طيب، حتى أرجع في المساء ونتابع قراءة هذا الفصل، يبدو طويلا.
ـ كما تريد.
يعود لرفيقه الخالد، الكتابَ المُعلَمَ بصفحته. أنصرف أنا لعالم المقهى والرفقة. في المساء، وجدتُ أختي الصغيرة وقد سبقتني للمعلومة. أتتني بمقص الأظافر:
ـ أتريد أن تقلم أظافرك؟
ـ نعم لقد سألتك عن المقص البارحة ، أين كنت مخبئة له؟
ـ طيب ها هو، ابدأ : خوابس:
خنصر، وسطى، إبهام، بنصر، سبابة.
و استمر الحكي داخل الصالة الصغيرة.

حسن إمامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى