الدكتور عاطف أحمد علي الدرابسة - الأفقُ المصلوبُ ..

الأفقُ المصلوبُ ..
قلتُ لها :
الأُفقُ فوقي مهترئُ الأعمدة
لا شيءَ يحملُهُ إلَّا فراغي
بيني وبينَه خسائرُ
وهزائمُ
ومسافاتٌ تشهقُ ببخورِ الأحزان ..
الأُفقُ تحتي
تئنُّ أجراسُه بالوجع
مُتخَمٌ بالملحِ
والضَّجرِ
وأسرابِ القبلاتِ
التي ارتشفتُها من شفاهِ النِّساءِ
اللواتي أقمنَ في المرايا
والحنايا
وأضلاعِ الزَّمنِ الجميل ..
الأُفقُ تحتي
كهديلٍ تنزَّل من أفواهِ الحَمَام
كنغمٍ انسلَّ من حنجرةِ الأوتار
كنجمةٍ خرجت من جوفِ اللَّيلِ
لتُقيمَ في النَّهار ..
أمشي على أُفقٍ كالماءِ
بلا لونٍ
بلا طعمٍ
يتراءى لي مرَّةً ناراً
ومرَّةً حياة ..
تحتيَ أفقٌ
صار سقفاً
يتلوَّى مثلَ جسدِ امرأةٍ
في سريرِ اللَّيلِ
مُعطَّرٍ بالدَّهشةِ
يتأوَّهُ كأنَّها حشرجةُ موتِ اللَّذةِ
أو كأنَّها لحظةُ احتضار ..
الأفقُ تحتي ضريرٌ
يمشي بلا عصا
تهتزُّ حولَه الدُّروب
كأنَّها اللَّحظاتُ الرَّاقصةُ من خمرٍ
كأنَّه الكلامُ المُسجَّى في قصائدَ
كتبتُها مرَّةً بأنفاسِ الرَّذاد
ومرَّةً بآهاتِ النَّارِ ..
تحتيَ أفقٌ
كلَّما حاولَ أن يصهلَ كخيلٍ جامحٍ
خيَّمَت عليه لحظةُ السُّكون ..
حوليَ أفقٌ
يدورُ حافيَ الضُّوءِ
أعزلَ
إلَّا من صدى سيفٍ
وورقةٍ
سقطت بسكِّينِ الخريف ..
حوليَ أفقٌ
خالٍ من البروقِ
خالٍ من الرُّعودِ
خالٍ من ارتجافةِ الغيمةِ
قبل أن تلدَ المطر ..
يا حبيبةُ :
تعالَي نتماوجُ على سريرِ الأُفق
فيتَّسعُ لنا أفق
ويضيقُ علينا أفق
نترنَّحُ مرَّةً بالخمرِ
ومرَّةً بالنَّغم
نرقصُ على إيقاعِ النَّدى
وسُعالِ الرَّحيل ..
أماميَ أُفقٌ
وورائيَ أُفقٌ
لغتُه لا تُشبِهُ لغتي
أفكارُه لا تُشبِهُ أفكاري
كلَّما حلَّقَ كالنِّسرِ
في أقاصي المعاني
هوى كفراشِ الضُّوءِ
في أخاديدِ القناديل ..
أسبحُ في أُفقٍ
يتمدَّدُ في داخلي كالسَّراب
كلَّما فتحتُ باباً
أوصدوا ألفَ باب ..
بين يديَّ أُفقٌ
ينظرُ من نافذةِ الضَّجيج
يمُدُّ يديه للشَّمسِ
يُلوِّحُ بمنديلٍ يلتاعُ من لظى الدُّموع
كأنَّه من أطفالِ آخرِ الرَّبيع
يحسَبُ الشَّمسَ رغيفاً
وشطآنُ الخذلانِ يحسبُها أوطان ..
أبحثُ عن أُفقٍ يغسلُ التَّاريخَ
يغزِلُ من صدأِ الهزائمِ
أهازيجَ انتصار ..
أبحثُ عن أُفقٍ يُروِّضُ الخيانةَ
يُشعلُ الجمرَ في مواقدِ الفراغ
يشربُ القَفرَ من الحقول
يُلهِبُ النَّارَ في شفاهِ القصيدة
ليُورِقَ الخلاصُ
في آخرِ فصولِ الرِّواية ..
أيُّها الأفقُ المصلوبُ
على جدارٍ من الجثثِ المُحنَّطة
كُتِبَ عليكَ الظَّمأُ
كما كُتِبَ على الشَّمسِ
التي تخجلُ من الشَّرقِ الذُّلَ
والخذلان ..

د.ع


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى