فاطمة النهام - الشهيدة.. قصة قصيرة

في نهار أحد الأيام، ضُرب باب البيت بقوة، فانتفضت قلوبنا بذعر. هتفت أعماقي بتوتر:
ـ إنهم الأعداء!
انقبضت قلوبنا بخوف ونحن نسمع الباب يُضرب بشدة وإصرار. قال أحدهم بغلظة:
ـ افتحوا الباب!
فتح أبي الباب، وإذا بثلاثة جنود إسرائيليين يدفعونه، ويخطون إلى الداخل بشراسة، ترتسم على ملامحهم القاسية ابتسامات صفراء مقيتة.
تأملت هيئتهم المتوحشة، ونظراتهم النارية، وتلك البنادق الرشاشة التي يحملونها معهم. استجمع أبي شجاعته وهو يسألهم:
ـ ماذا تريدون منا؟
ابتسم الجنود باستهزاء، وقال قائدهم بعربيته الركيكة:
ـ أين حسام؟
خفق قلبي بعنف، وشعرت بقشعريرة تسري في أوصالي وأنا أستمع إلى الاسم. إنهم يبحثون عن أخي حسام! لابد أنهم يريدون قتله!!
تبادلت مع أبي وأمي نظرات غامضة. غمغم أبي قائلاً:
ـ لا نعرف أين هو.. منذ زمن طويل لم يعد إلى البيت.
ابتسم القائد ابتسامة لم ترُق لي أبداً وهو يقول:
ـ أحقاً؟!
فوجئت به يقترب نحوي ويمسك بيدي بقوة، مخاطباً أبي بسخرية:
ـ ما رأيك إذاً أن آخذ معي ابنتك الجميلة؟!
شهقت أمي بارتياع.
قال أبي بغضب:
ـ هل تظن بأنك تخيفنا بأفعالك؟
ارتجفتُ كعصفور مبتل، جاهدة أن أتملّص منه.
بكت أمي بمرارة:
ـ أيها المجرمون.
رمقها القائد بنظرة ساخرة قائلاً:
ـ بل قولي فريق المستذئبين!
ابتسم الجنود بخبث، وانفجر أحدهم ضاحكاً.
لم تحتمل أعصاب أبي الموقف. صاح في وجه القائد:
ـ دعها وشأنها أيها القذر!
أطلق القائد ضحكة مجلجلة:
ـ لا تبالغ في مدحي يا هذا.. فهذا يشعرني بالزهو!
انقضّ عليه أبي ليلكمه بمعدته قائلاً:
ـ هل تظن ذلك حقاً؟!
سقط القائد أرضاً وهو يتأوّه بألم من أثر اللكمة، وتحفّز الجنديان لإطلاق النار، ثم نهض وهو يمسك بمعدته، قائلاً بغضب:
ـ توقّفا! أنا من سيقوم بقتل هذا المسن.
وخلال ثوانٍ، رفع مدفعه الرشاش نحو صدر أبي، وأطلق عليه سيل الرصاصات، لتخترق جسده، سقط أمام أعيننا، أنا وأمي، جثة هامدة!
صرخت أمي صرخة جمدت الدماء في عروقي، ثم تهاوت أرضاً تولول وتبكي وهي تهتف باسم أبي. تحجرت الدموع في عيني، واختنقت صرخة في حلقي وأنا أتأمل جثته.
تدفق الحقد من عيني كالبركان، وصاحت كل قطرة دم في جسدي بغضب، ثم رمقت ذلك الوغد بنظرة تحمل كل الكراهية الكامنة في أعماقي، ووجدت نفسي أنقضّ عليه بشراسة ليسقط أرضاً.
صرخ:
ـ ماذا تفعلين أيتها المجنونة؟!
ودون وعي مني، سحبت مدفعه الرشاش بسرعة البرق، وأطلقت عليه سيل الرصاصات بجنون، اخترقت رأسه وجسده، تحول جسده في لحظات إلى مصفاة، وواصلت إطلاق النيران على الجنديين الآخرين.
وبين دوي الرصاص، تعالت صرخات أمي:
ـ توقفي يا ابنتي.. توقفي بالله عليك!
رميت المدفع جانباً، انهرت وأنا أجلس أرضاً. احتضنتني وهي تبكي قائلة:
ـ حماكِ الله يا ابنتي.
نهضت من مكاني، وحملت المدفع معي متأهبة للخروج.
سألتني:
ـ إلى أين؟!
انطلقت خارجة.
تردد صدى صوتها:
-عودي يا ابنتي.. عودي.
ولكن ما من مجيب..
*
بعد ساعة من الزمن، عاد (حسام) إلى البيت.
حكت الأم له القصة وهي تبكي بمرارة، مرت لحظات ثقيلة دون أن ينطق بشيء، حمل مدفعه وهو ينطلقُ مسرعاً إلى الخارج.
لحقَته بصوتها:
ـ إلى أين؟!
قال وهو يبتعد:
ـ سوف أبحثُ عنها.
ومن بين جثث الجنود المتناثرة على الطرقات، رأى (حسام) جسد شقيقته الضئيل يترنح مقبلاً من بعيد. أسرع نحوها، وفوجئ بجسدها المغطى بالدم.
احتضنها وهو يقول بلهجة يملأها الأسى:
ـ لماذا يا أختي؟ لماذا خاطرتِ بحياتكِ؟!
ابتسمت ابتسامةً شاحبة، ورفعت إصبعيها اللذين اصطبغا بالدماء، وقالت بصوتها الواهن الضعيف:
ـ النصر لنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى