سعد محمود شبيب - حرفوش بن برقوق الراكب دار

العمود الصحفي (الضاحك الباكي)


قُصص السفر عبر الزمنِ كثيرة ، وفق نظرية كونه وحدة متصلة ، يمكن من خلاله الانتقال الى الأمام مئات السنين أو العودة قرونا خلال لحظات ، حيث تعود الريادة في ذلك الأدب الى الكاتب العالمي (هربرت ويلز ) صاحب الرواية الأكثر شهرة على الاطلاق (آلة الزمن) .
ومن خلال سطور هذه الرواية ، استمدت الكثير من الأفلام العالمية قصصها المشوقة مع أداء وأخراج عال متقن لتنال الخلود حقا ، لا سيّما وأنّ بعض قصص هذه الأفلام قد وقعت بشكل حقيقي وكما تؤكّد الشواهد ، وظلّت الغازُها عصيّة على الحلّ الى يومنا هذا .
ومن هنا ، كانت قصة فيلم الشهير (رسالة الى الوالي) الذي قام ببطولته الفنان عادل امام ويسرا وسعيد عبد الغني ، مأخوذة عن فكرة هذه الرواية ولكن بصيغة مختلفة قليلا ، مع عدم الاشارة الى المصدر كما هي عادة المقتبسين في الأفلام العربية !
تعود أحداث الفيلم الى عام 1807 ، حين حاصر الفرنسيون مدينة رشيد المصرية ، فأرسل أهلها الفارس حرفوش بن برقوق (عادل امام) الى القاهرة كي يسلّم رسالة الى والي مصر محمد علي باشا الكبير ، وذلك لغرض اسنادهم في فكّ الحصار عن المدينة ، لكن حرفوش ولسبب ما ، نام مائتي عام ليستيقظ سنة (2000) وهو يظن أنّ شيئا لم يتغير ، وأنه مكث ليلة واحدة فحسب ، فواصَلَ طريقه نحو القاهرة كي يسلّم الرسالة للوالي ، ليثير بحصانه وهندامه ولحيته الكثة كل الشك والريبة وهو يجوب أنحاء العاصمة ، موحيا من خلال لهجته الفصيحة وسؤاله عن (الأمير) بكونه إرهابيا خطيرا قادما من افغانستان ، مما أدى إلى القاء القبض عليه واقتياده إلى جهاز مباحث أمن الدولة ، حيث بوشر بالتحقيق معه من قبل ضبّاط أشداء ، لم تتوصل خلاله السلطات إلى نتيجة ، ليودَع مستشفى المجانين وهو مقيّد بالسلاسل !
وحال دخوله المستشفى ، ستفاجأ بأحداث غريبة وأمور أسطورية لا تحدُث إلاّ في أعمال عادل إمام ، إذ أنّه وما إن يخضع لجلسات العلاج ، حتى تقع بحبّه الطبيبة الحسناء الأنيقة المثقفة إيناس ، رغم كونِه مجرّد كائنٍ متخلّف عفِن لم يستحمّ منذ مائتي عام ، ويبدو بشعره الأجعد ولحيته الكثّة وهندامه الغريب وكأنّه أحد أصحاب الفيل ، بعد حرقه بحجارة من سجّيل ، لكنها مع كل ذلك تستميت لغرض تهريبه من المستشفى ، لا لشيء إلاّ لأن مديرها الذي يحمل شهادات الدكتوراه في الطب من جامعتي القاهرة ولندن ، هو في الواقع مهرّب مخدرات محترف ، وضليع بتهريب الآثار ، وصاحب ملهى ليلي ، ويروم قتل حرفوش، دون أن يعلم المشاهد كيف حصل على هذه الشهادات المرموقة وهو بهذه الوضاعة والاجرام ، يقودُ عصابةً اعضاؤها بقيّة مساعديه في إدارة المستشفى ، مثل الدكتور بصبوص العِتر والطبيبُ الأخصّائي العِفش أبو دومه والصيدلي هريدي أبو كف ..
وحين لم تجد الطبيبة الحسناء بعد تهريبه موضعا تخبئه فيه من الأعين ، اختارت له آخر ما يخطر على بال المشاهد مكانا ، ألا وهي شقّتها الفاخرة بمنطقة الزمالك حيث تقيم شقيقتها وزوج الشقيقة ، وكانت هذه الطبيبة العجيبة تهِبُ حرفوش عشقا أكبر كلما أبدى غباء أكثر ، وتذوب فيه كلما غاص ببحور التخلف ككائن قادم من زمن سحيق، وتتعاطف معه بشدّة كلما حطّم أغراض شقتها الثمينة بسيفه البتّار ، معتبرا كلّ اختراع عدوا له ، فيطلق على السيارة لفظة العفريتة ، وعلى المصباح اسم الأخنوخ ، وعلى التلفاز لفظة الحكواتي أبو لمبة !!
وتتصاعد الأحداث حين لم يستطِع الفارس حرفوش استيعاب التطور المهول بين زمانه وزمننا الحاضر ، لا سيما حين يكتشف عقب وصوله القلعة أنّ كلّ ما تبقى من السلاطين في قاعة العرش هي مجرد تماثيل بلا روح ، وأنّه يعيش عهدا آخر لا صلة له بحكم محمد علي باشا ، فيقوم بتهشيمها تماما بعدما تيقن من الحقيقة ، ثم سرعان ما يشاهد معالمَ القاهرة وهي تختفي ، ليعود به الزمن مائتي عام الى الوراء، فيذوبُ فيه ويصبح قطعة من التأريخ مرصوصة في الكتب .
حين تابعتُ أحداث الفيلم ، تراقصت ببالي قصّةٌ مماثلة عن حرفوشٍ عراقي ، يرسله المرحوم نوري السعيد صبيحة يوم الرابع عشر من تموز عام 1958 إلى أحد قادة الفرق كي يطوّق بغداد ويجهض الحركة ، ثم يحدث له ما حصل لزميله المصري تماما فيغلبه النعاسُ لينام ستّين سنة ، ويصحو في عامنا هذا دون أن يعي شيئا مما حدث ، ويسير بشوارع بغداد فيصاب بدهشة عظيمة ، ليس للتطور الكبير الذي يفترض أن تشهده بعد عقود ، بل للتخلف العجيب والدمار والخراب والزحام ، حتى أصبحت شبيهة بمسالك مكة الوعرة قبيل البعثة ، ويحاول البحث عن تلك الحدائق الغنّاء التي تغفو بأمان على شواطئ دجلة ، فيجدُ بدلا عنها قصورا يُمنع الاقتراب منها مخافة الحسد ، وخشية منع المسؤول القابع فيها من رسم مستقبل زاهر للبلاد ، ويرصد قربَ كل إشارة ضوئية جيشا من الباعة المتجوّلين والمتسولين والمساكين فلا يصدّق ، ويشهد عند كل متر من رصيف مشردا يتّخذه سكنا ووطنا ، ويفاجأ بتظاهرات عارمة على الجسر ، فيظنّها مناهضة للاستعمار البريطاني ومعاهدة حلف بغداد ، لكنه سيصاب بصدمة قاتلة حين يجد المتظاهرين يطالبون بلقمة عيش ضئيلة وكسوة شتاء بائسة وهم يعيشون على أغنى بقاع الأرض ، ويبتغي الخريجون أيّة فرصة عمل ولو كانوا سعاةً بباب المدير، ترافقها تظاهرات صاخبة لصرف رواتب الموظفين من خزينة خاوية ، وطابورٌ طويل من نسوة تحرِصُ الكاميرات على تصوير معاناتهن بكل دقة وفضح فقرهن وعرض حاجتهن أمام سكّان كوكب الأرض وبعض الكواكب المجاورة، وذلك كي يتكرّم عليهن معالي مدير الفضائية بسلة غذائية تحوي : قطعة جبن ، وقنينة زيت ونصف دجاجة مذبوحة على الطريقة الاسلامية .
ثم يستبدّ به الظمأ فيجلس عند أقرب مقهى ، ويطالع التلفاز وهو يحتسي الماء ليشاهد متحدثا باسم حزب (البجعة المتفائلة) يعِدُ بالغد المشرق والعبور الناجز اذا ما فاز للمرة الخامسة في الانتخابات مع نفس الوجوه القذرة من أعضاء حزبه ، ويعلل فشله الذريع بمؤامرات حزب (الوزّة المتألقة) المسؤول عن التخلف وعرقلة المشاريع ، غير أنّ ممثل (حزب الوزّة ) سرعان ما يردّ عليه بأنّ أعضاء حزب البجعة يعدّون لصوصا تاريخيّين ، علّموا الشيطان نفسه فنونا غير مسبوقة في النصبِ والاحتيال ، متّهما إيّاه بأنّه اختلس لوحده مليار دولار من مخصصات مشروع الحفاظ على حياة الكنغر في العراق ، فيردّ عليه صاحب (حزب البجعة) مقهقها وهو يشعل غليونه : ومَن الذي اختلس ملياري دولار من مشروع تحوير أقدام الكنغر ، وجعله يسير ولا يقفز مثل قفزات التطور التي جرت على يد حزبكم الفاشل ، شريكنا في الحكم ؟؟
ويكاد حرفوشُ العراقي أن يصاب بالجنون والمليارات المسروقة تتطاير عن يمينه وشماله ، فيطلب من صاحب المقهى استبدالها بقناة أخرى ، ليجد قبالته مشعان الجبوري معترفا وعلى الهواء مباشرة بأنه تسلّم رشوة مقدارها خمسة ملايين دولار ، بل ويُقسم بشرفه على تسلّمها وهو متفاخر مبتهج ، فيظن حرفوش أنه برنامج ترفيهي ، لكنه يُصعق حين يكتشف أن مشعانّ عضوٌ في مجلس النواب ورئيسٌ لهيئة النزاهة فيه ، ثم سرعان ما تقوم في المقهى معركة طاحنة تتطايرُ خلالها ألأراكيل وعُلبُ الدومنه وقناني الغاز من فوق الرؤوس ، قبل أن يحضُرَ شيوخٌ بالزي العربي يقومون ( بالدكة العشائرية ) وهم يحملون مختلف أنواع الأسلحة البايولوجية والقنابل الذرية والهيدروجينية ، فيلوذ صاحبنا بالفرار مرعوبا باحثا عن أي شيء يعيده إلى الماضي ، وتبدأ معالم بغداد مثل عمارة الدامرجي والبنك المركزي والجسور بالذوبان والتواري عن الأنظار ، ليس لأن الزمن قد عاد إلى الخلف، بل لأن السرّاق لم يبقوا أيّ شيء على ارض بغداد ، عندها يستقلّ قاربا مركونا ويتجه نحو بيت نوري السعيد الذي ظل ينتظره بتوجس وقلق عظيمين ، حتى يقف بين يديه ليسأله الباشا بكلّ عصبية : أين قائد الفرقة وأين الجنود التي ستنقذ حُكمنا الملكيّ يا هذا ؟؟ أراك قد عُدتَ بخفّي حُنين ..
فيجيبه حرفوش وهو يلهث وقلبُه يكاد أن ينخلِع :
(( يمعوّد باشا ، يا قائد فرقه يا بطّيخ ، إذا آني طلعت من يمك شفت نفسي بعصر عجيب غريب متشوفه بالأحلام ، يمكن رجعت لزمن سرجون الأكدي , لا شوارع لا خدمات لا تطوّر لا صخام ، بس خراب وفوضى ودمار ، والشي الوحيد المتطور اللي شفته تلفزيون ملوّن بكهوة ، يعرض حرامية يتباهون بمنجزاتهم ، تالي وره ساعة قامت حرب بالكهوه وانقتلوا عشره وانجرحوا عشرين وتملّخت الشاشة بدكة عشائرية حبّابه ومحترمة وبنت ناس ، علمود عتوي طفر عالجيران لأن يحب بزّونه حلوه تشبه ليلى عتوي ، من دون ما يستأذن ويدكّ الباب )) !!

سعد محمود شبيب



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى