حسن إمامي - مقام "السرغوشني"

*ويبقى المتن منفتحا على تطويره. ربما ينقصه الكثير طبعا. لكم ولكن الاضافة*

ـ الذاكرة الموشومة... الرأس الموشوم.
كانت جملته التي بدأ بها حواره ومزاحه ونقاشه مع صديقه نجيب. جملة ستعطيه متسعا من الحق في الكلام والاستحواذ عليه. أمام نظر ابّا الساحلي، الذي يتابع حوارهما في هدوء هذه الليلة من أواخر يونيو. جوٌّ ليلي عليل، رغم حرارة الصيف الملتهبة خلال النهار، خصوصا هذا المساء الذي أرخت فيه السماء دفئها على الأنام والنباتات والمخلوقات. تفتّح الكلام، وبقي اپا الساحلي محتاطا من إقحام نفسه في بداية الحوار. فكلام طلبة الجامعة، معانيه غريبة وغامضة ومخيفة... علامات استفهامهم تشق صخور الجبال وتفتق ثوب السماء لترديه أرضا مندسة ومدكوكة. إذا تابعه بتأن سيطير فعل المخدر من الذهن، وتذهب نشوته و(تبويقته) التي ترخي للحواس وتعطيها استراحتها من كل توتر يومي أو وجودي.
لم يكن يتوقع أن يسمع من عبده مثل هذه الأفكار التي تغترب في الفضاء كاغتراب أخطر الجرائم ونفي أصحابها عن عيش الأمان والمجتمع. كل مرة يتطرق لموضوع يريد به زعزعة ثوابت الحاضرين، بأسلوب لطيف وابتسامة هادئة، وطريقة متدرجة خادعة.
ما هذه الذاكرة الموشومة؟ علامة استفهام قطّبَتْ حاجبي ابّا الساحلي، واستدار معها نجيب العوفي ليقابل وجها لوجه صديقه المشاغب بالأفكار.
ـ إذا كان صاحب الفتوة، طارزان الحومة، مبحوث عنه في جرائم سرقة، فأنت سيبحثون عنك في جرائم أفكار آ سي عبده، أكيد. المشكل هو: هل سيسمحون لي بزيارتك أم لا ؟ السياسيين يمحون أثرهم !
ـ دائما تتهمني آ صاحبي وأنا بريء من اتهاماتك. أُنظر لهذه الحفرة في رأسي ! تلَمّس جلدها. ألا تلاحظ أنها أثر حفرة؟
ـ نعم. ملتصقة مع عظم الرأس وغائرة ! أين نلت هذه الجائزة. فلقة بوليس في الجامعة أم صراع بين الطلبة؟
ـ آ سيدي هذه تسديدة بحجرة من يد (السرغوشني)، الله يرحمه.
ـ رماك بالحجارة على رأسك وما زلت حيا ؟ العجب هذا !
ـ لطف الله. كنا مارّين بالقرب من شجرته (الزفزوفة) ـ شجرة العناب ـ. أثاره أحدٌ منا بقذيفة كلام: (الزفزوفة احترقت). هاج غاضبا. أمطرنا بوابل من الحجارة. لم ينل حظه منها إلا أنا. أليست وشما من ذكريات الطفولة؟ ها هو الرأس موشوم، والذاكرة موشومة كذلك. وأنت يا صاحبي تتهمني بكلام المجرمين والتفلسف والسياسة. حرام عليك.
ـ تعلم أنك حينما تريد تركيب الكلام، تدس ما تشاء. مثلا الآن لماذا الحديث عن الذاكرة الموشومة وأنت تريد الحديث عن وشم فلقة على رأسك؟ حيَلُك لا تنتهي... إنما قل لي: هل تعلم قصة ( زفزوفة ) السرغوشني؟
ـ لا، أعلم فقط أنه يسكن أعلى المنحدر الذي توجد فيه الشجرة، مطلا على الطريق المؤدية من سيدي امحمد بن قاسم إلى طريق وقنطرة سيدي صابر، وعلى حافة الوادي أسفلها حيث مسبح (العزاني) بصخوره الواقفة كجدار مائل.
ـ آ بّا الساحلي، واش تعرف على الزفزوفة والسرغوشني؟
ـ كلٌّ وحاله. واحد ساكن في حجرة، والآخر ساكن في شجرة. يوم أتى الباشا والمخازنية عند السرغوشني، حينما منع عمال البلدية من القيام بعملهم في توسعة الطريق بمحاذاة مع شجرته الزفزوفة؟
ـ نعم، سمعت بذلك. لكنني لم أكن حاضرا يومها هناك.
ـ نزل الباشا من السيارة. سبقه المقدمون والمخازنية. نادى أحدهم على السرغوشني من بعيد احترازا من غضباته:
(ـ تكلم للباشا آ السرغوشني !
ـ ما مشكلتك مع عمال البلدية؟ سأله الباشا .
ـ حذرتهم بألا يقتربوا من الشجرة .
ـ لكن الشجرة بعيدة عن الطريق، لن يقطعوها.
ـ اسمع آ سي الباشا ! هل تحب أن يدخل الغريب لمنزلك وزوجتك فيه؟
ـ تكلم بأدب مع السيد الباشا آ السرغوشني ! يصيح أحد المقدمين.
ـ طبعا لا! ابتلع الباشا ريقا ناشفا وهو يرد جوابا على سؤال مفاجىء وغريب وغير متوقع.
ـ إيوا الشجرة حُرمة كذلك. مِلك للسرغوشني. لا أحد يقترب منها.
ـ لكنها بعيدة عن الطريق. يؤكد الباشا.
ـ حُرمتها وحدودها هي ظلها. بقدر الشمس، بقدر الظل).
ـ واوْ ! استغرب عبده وتعجب للجملة الأخيرة. هذا القياس للحدود رائع. (بقدر الظل بقدر الشمس). أيهما أولى بالقياس؟ الشمس أم الظل؟ ما مقام الشجرة بينهما؟ هي المحور. التغذية بنور الشمس والحماية بظلها من أغصانها. يعني أن باقي الأشجار كذلك ستكون على مسافة بعيدة عنها وليس الطريق فقط.
ـ يبدو أن الفهامة بدأت تكبر عندك بسبب تلك الوشمة المحفورة في رأسك آ سي عبده.
ـ انتظر! هذه نظرية كونية بين النور والظل، الليل والنهار، الضياء والظلمة. سأجعلها فلسفة كبيرة. في وقت ما في الماضي، كانت هناك ضريبة الظل. إذا أردت أن تستفيد من الظل، عليك أن تؤدي ثمن ذلك. أما السرغوشني، فهو يحمي ظل شجرته، ومن حقه. تلك حدودها. هل تعلم أن النباتات تمتلك آليات دفاعية سائلة ومشمومة بالرائحة. يجب أن نبحث عن نوع الشجرة، شجرة السرغوشني وآليات دفاعها إن كانت موجودة. باعتبار هذه القصة، فهو ليس بأحمق، نحن الحمقى.
ـ آليات الدفاع هي الحجرة التي فلقت رأس كذلك آ سي عبده. آش تقول آ بّا الساحلي؟ يتوجه نجيب بالسؤال والكلام معه.
ــ إذا كان السرغوشني أحمق، فانا كذلك أحمق. هل كل واحد يعيش في وقاره نسميه أحمق؟ أو من يدخل الفضول وشؤون الناس؟ الناس هم الذين يؤذونه بكلامهم وتجريحهم. حيث الفقير والغريب وابن السبيل، ما عندهم من يحميهم. حتى الأطفال يرشقونهم بالكلام والحجارة. ابحث عن التربية. شقاء في النفس والخاطر يجعله يبتعد عن مجاورة الخلق. حينما يضايقونه ينزعج.
احتاج عبده للبحث عن أصل التسمية وجذورها. لم تسعفه المراجع التي يتوفر عليها. سأل، هاتف، ناقش، جادل. استمرت الحيرة كما السؤال. تردد، توتر، نقر بظفر سبابته الطاولات وما تسطح فوق يديه، وما وصل إلى بر جواب آمن.
بقيت التخمينات كاستنتاجات أولية، ستكون سلاحه كما إضافته وتأثيرها في فضاء المناقشات ومتغير الفهم والثقافة. وتلك ثمرات إحدى جلساته الموالية والتي فتح فيها كذلك النقاش حول التسمية والأصل والجذر.
ربما عملية قلب بين الحروف عند البعض وليس الكل، حيث لا تستطيع منطقة نطقها مجتمعة لترتيب معين. هو السغروشني بدل السرغوشني. والغين بعد الراء ربما أيسر في النطق عند سكان مدينة مولاي إدريس زرهون في مثل هذه الألفاظ المركبة. آيت سغروشن وتركيب الكلمة من سغر بمعنى جفف أو جمد... و أوشن بمعنى الذئب، وما يجمع تركيبهما من حكي تاريخي أو أسطوري، لكنه جميل جدا في الاستحضار.
ترك صياغة استنتاجاته الأخرى إلى حين لقاء رفاقه في الحياة الطلابية.

حسن إمامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى