المستشار بهاء المري - حَيْرة.. قصة قصيرة

كان غَداءً جميلاً حرص على أن يصطحبنى اليه .. لم يَعتدْ مثلُ هذه العزائم بصفة عامة؛ ولكنَّ ذلك الرجل صمَّم على دعوته إليه فاضَّطر إلى قبول الدعوة.
تقابلا مصادفة فى تلك المحافظة النائية وتعرفا ببعضهما .. نُقل اليها بمناسبة العمل مثلنا ولكنه سبقنا بنحو عامين .. اكتشفا أنهما من مركز واحد .. اعتبر زوجى ضيفًا عليه إذ جاء لاحقًا .. هذا ما فهمته عن سبب العزومة.
كان من الممكن أن يذهب إلى الغداء بمفرده .. لستُ أدرى لماذا فى هذه المرَّة شاء على غير عادته أن أرافقه .. هل ليُضفى على الدعوة طابعا رسميًا؟ أم لتوثيق علاقتهما على مستوىً اُسرىّ؟ لم أفهم.
كان عصر ذلك اليوم ربيعيًا هامس النسمات .. المكان تحفٌّه أزهار ونخيل وأشجار زينة .. شلالات مياه تتوسطه، وجميع أرضه خضراءَ خُضرة يانعة مُعتَنى بها.
جاءت زوجته معه وتعارَفنا .. لم أتخيَّل أن تكون هى .. كل ما أعرفه عنها من قبل؛ أنها وزوجي تخرجا معًا فى جامعة واحدة؛ ثم تزوجت وانقطعت عنه أخبارها، عشرين عاما مضت لم يذكر لى سيرتها ولم يكن أحد ليتخيل أن يتقابلا مرة أخرى.
أعرفُ أنها كانت مُرشَّحة ليخطبها، ولسبب ما لم تتم الخطبة، حكى لى عن ذلك، ولكنه لم يذكر حين حَكَى هل كان يحبها؟ أم لمجرد أنها كانت ابنة عمدة.
حَكَى زوجها كيف تعرَّفا حتى تزوجا .. وحَكى زوجى عنِّى وأسْهبَ وكأنه يتغزل فى امرأة لا أعرفها .. كان مُتهلل الوجه مُنتشيًا ترفرف أجنحة السعادة على جميع ملامحه.
فى البدء كان جو اللقاء جميلا .. أحاديث رقيقة وموسيقى ناعمة تنبعث فى أرجاء المكان؛ فتثير بهجة فى الأذان تتعانق مع بهجة الأعين فتنسج خيوطا من السعادة تتراءى كسلاسل من أضواء تتلألأ فى هدوء.
رحَّبَتْ بنا وتجاذبَتْ مع زوجى أطراف ذكريات الجامعة .. كنتُ أراقب عينيه وتعبيرات وجهه وهو يتحدث إليها، لاحظتُ احمرار وجهها فجأة حين التقَتْ بعينيه عيناها وهى تُتابعه، كأنَّ بركانًا قد انفجر فاندفعَتْ حِممه لتكسُوَ بالنيران أرضًا كانت وادعة.
ارتبكَتْ لغة جسدها، ارتعدت أصابعها وحركة يدها، تلعثمّتْ فى الكلام، نهضت واقفة لتسحبَ مقعدها إلى الأمام ثم تعيده للخلف دونما سبب وتعود لتجلس.
تبدَّدَ جمال المكان وصوت الموسيقى الهادئة، لم أعد أسمع إلا صَخبًا يطنُّ فى أذنى، وعصفُ ريح يضرب فى قلبى، والخضرة كعصفٍ مأكول لا جمال فيه ولا نفع له.
تذكرتُ حين كنا نُرتِّب أوراقه ومكتبته ذات يوم؛ ووجدتُ صورة له مع زملائه فى الجامعة .. كانت تقف إلى جواره .. تبسَّم يومها وحكى لى عن مشروع خطبتها الذى لم يتم .. لم أعبأ حينذاك بما سمِعتُ، ولكنى أستطيع الآن تفسير أمر هذه الصورة، ولماذا أعادها مرة أخرى إلى مكانها على الرغم من تمزيقه لصور أخرى كثيرة ؟ فهل جاء هذا اللقاء – بحق – مصادفة؟
كادت الأفكار أن تعصف بذهنى، تعللتُ بصداع شديد مفاجىء ضرب رأسى، انصرفنا فور تناول الغداء، استمر يمازحنى وهو يقود السيارة، كان مزاحا مُصطنعا لما استشعر تلك الحيلة التى اخترعتُها لننصرف، لقد لاحَظ على وجهها هو الآخر آثار تلك النظرة التى سدَّدها فى شبِاك عينيها فأتت على اتزانها.
لم تغادرنى التساؤلات طيلة الطريق:
- هل قبل الدعوة لمَّا علِم أنها زوجة الداعى؟ أم كان يتابع أخبارها وسعى هو إلى اللقاء لما عرف أنها هنا؛ ثم صوَّر لى الأمر باعتباره لقاء عابرا مع زوجها؟ راح عقلى يرسم آلاف السيناريوهات لما حدث.
عَبثًا حاولتُ استبعاد شكوكي، كيف وهو لم يذكرها مرة واحدة طيلة العشرين سنة الماضية؟ ولم يقل أن زوجها يعمل منذ عامين هنا؟
وأعود فأقول؛ ربما لأنه لم يكن يعلم أين هى، ربما إمعانًا فى التعتيم كى لا ألاحظ شيئا، وربما لما تحرَّكتْ جذوة الحب القديم تحت ركام النسيان وعاوده الحنين لم يستطع كبح جماح مشاعره.
كادت الظنون أن تقتلنى، كل ما يحدث يمكن أن يُشعِل نيران الشك فى نفسى، ومن الممكن أيضا ألا يكون كذلك.
فى البيت لاحظَ وُجومًا يلفُّنى .. استمر فى التَّلطف معى .. ولكنَّ شرودًا عجزتُ عن تبديده بدا واضحًا على ملامحى.
ادَّعيتُ الرغبة فى النوم مبكرا هربًا من انفجار دموعى، كان يريد السَّهَر فاعتذرتُ وسبقتُه إلى حجرة النوم .. امتعض وجهه وشعرتُ بأنه قد استوعب جيدا كل ما ألمَّ بى.
لحق بى متظاهرًا بأنَّ لا شىء غير عادى يحدث، حاول أن يضاحكنى ويمازحنى مرة أخرى، كنتُ واجمة، لا شك أنها مجرد محاولات عابثة ليصرفنى بها عن تفكيرى .. ثم ما الذى يُضحكه؟ ليته كان واجمًا مثلى .. وحتى لو كان كذلك لظننتُ أنه حزين على حبه الذى ضاع منه يوما؛ ثم عادت بطلته لتُطل عليه مرة أخرى عَبْر نافذة الزمن.
لم أحتمل استمراره فيما يصطنع لإضحاكى .. انفجرتُ غاضبة :
- دعنى وشأنى .. ألأنَّ الفرحة تقفز من عينيك لما رأيتها؛ تُضاحكنى دون أن أرغب؟
اتسعَتْ عيناه فى نظرة ثابتة وجَّهها إلى عينىّ وبقى واجمًا على هذه الصورة لبرهة ثم انصرف.
بات ليلته فى غرفة أخرى؛ وفى الصباح لم يذهب إلى العمل، بعد مغادرة أطفالنا إلى مدارسهم جاء ليحدثنى :
- ما بكِ ؟
- لا شىء
- نعم هو لا شىء .. ولكنها أشياء كثيرة.
قالها وظل صامتا ينظر فى عينى نظرة لاحظتُ فيها إشفاقا، غلبنى البكاء فانخرطتُ فيه كمن استجمع كل أحزانه فى لحظة واحدة وانتصبت كالمارد أمام عينيه.
صمَّم على أن أتكلم، بُحتُ بكل ما ساورنى منذ أول دقيقة فى الغَداء حتى هذه اللحظة، ربتَ بحنان على كتفي، قال وهو يبتسم :
- إنها حساسية حُبكِ الزائد؛ وغيْرتكِ التي لا تُغضبنى .. سأسألك سؤالا واحدا:
- هل أحسستِ لعشرين سنةٍ مضت؛ ما يدعوكِ للشك فى حبى؟
أطرقتُ خجلا .. وقلتُ :
- لا.
ابتسم واستكمل بصوت دافىء :
- لا تجعلى أحداثا لا معنى لها تتدحرج ككرة الثلج حتى تكبر أوهامها بداخلك .. أو تُشتت أفكارك كضاربة ودع؛ يصلح كلامها لكل تأويل .. أما تلك الصورة المُهملة التى تتحدثين عنها؛ فلا تَعنى شيئًا .. أنتِ حبيبتى ولا أحد غيرك، ولن يكون.
مسح على رأسى بحنان .. قبَّل جبيني ..ضَمَّني بحب وغادَرنى بابتسامة رقيقىة .. لحقتُ به فى غرفة مكتبه لأعتذر .. لمحتُه وقد أمسك بالصورة ينظرُ فيها لثوان..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى