خوسيه ساراماغو - رواية العمى .. فصل من ترجمة: خضير اللامي

ظهر السفاحون مرة ثانية ، في اليوم الرابع . جاؤوا في الموعد المحدد لاستلام ما استحق على النساء اللاتي في الردهة الثانية ، بيد أنهم توقفوا لهنيهة أمام باب الردهة الأولى ليستفسروا إن كان نساؤها قد تعافين من عربدة الجنس الجماعي لليلة الفائتة ، كانت ليلة حمراء ، تماما سيدي ، قال أحدهم باندهاش وهو يلعق شفتيه ، تناغم الآخر معه ، هؤلاء النساء السبع يعادلن أربع عشرة امرأة ، صحيح ، كانت إحداهن لم تستجب كثيرا ، لكن من يعير انتباها وسط ذلك الصخب كله ، كان رجالهن محظوظون ملعونون ، إن كانوا حقا رجالا في عيون نسائهم . من الأفضل ألاَ يكونوا كذلك ، ليكوننَ أكثر شبقا . من الزاوية القصية في الردهة ، قالت زوجة الطبيب ، لم نعد سبع نساء ، هل رحلت إحداكنَ ، أجاب أحد المجموعة ضاحكا ، أنها لم ترحل ، أنها ماتت ، يا للجحيم ، إذن ، في هذه الحالة ، أنتنَ محظوظات ، لتقومنَ بمضاعفة المهمة في المرة القادمة . إنَها لا تشكل خسارة كبيرة ، لأنها لم تتقن المهمة في الفراش ، ردَت عليه زوجة الطبيب . إرتبك السفاحون ، لم يعرفوا كيف يردوا عليها ، فما قد سمعوه قد أصعقهم بوصفه عهرا ، الى حد أن َبعضهم انتهى به التفكير الى استنتاج أنَ جميع النساء هنَ عاهرات ، ومن قلة الاحترام ، الإشارة الى امرأة مثلها لأنَ مجرد حلمتيها كانتا في غير موضعهما ، ولا تملك أستا تتباهى به . حدقت زوجة الطبيب بوجوههم ، بينما هم يحومون حول الباب ، مترددين ، يحركون أجسادهم مثل دمى آليَة . شخصتهم ، كان ثلاثة منهم قد قاموا بإغتصابها ، في نهاية الأمر ، ضرب أحدهم بهراوته على الأرض ، قال ،هيا ، دعونا نغادر . راحت صرخات تحذيرهم وطرقات هراواتهم تتلاشى وهم يشقَون طريقهم باتجاه الممر، احذروا ، احذروا ، أننا قادمون ، ثم خيَم الصمت ، ثمة أصوات غامضة ، كانت النساء تستقبل أوامر باستعدادهن بعد الغداء، آتية من الردهة الثانية . مرة أخرى ، كانت طرقات أصوات الهراوات تسمع ، احذروا ، احذروا ، ومرت ظلال الرجال ألعمي الثلاثة من عتبة الردهة وراحت تتلاشى رويدا رويدا .

رفعت زوجة الطبيب ، التي كانت تسرد حكاية للطفل الأحول يدها ، دون أن تنبس بكلمة ، تناولت المقص الذي كان معلَقا بواسطة مسمار . قالت للطفل ، سأقصَ عليك بقية الحكاية فيما بعد . ليس ثمة أحد في الردهة ليسألها لماذا تحدثت باحتقار مع تلك المرأة العمياء التي تعاني من الأرق . بعد فترة قصيرة ، نزعت حذاءها وراحت تطمئن على زوجها ، لن أتأخر كثيرا ، أنني سأعود مباشرة . اتجهت نحو الباب . هناك توقفت وبقيت تنتظر . بعد عشر دقائق ظهر النساء العمياوات من الردهة الثانية في الممر . كن خمس عشرة إمرأة . بعضهن كان يبكي . لم يكنَ في نسق واحد ، لكنهنَ كنَ على شكل مجموعات ، مربوطات بعضهنَ البعض بقطعة قماش يبدو من الواضح ، أنها معمولة من ملاءات شراشف الأسرَة . حينما اجتزن ، تبعتهنَ زوجة الطبيب . لم يدركن أنَ هناك من يرافقهنَ . لكنهنَ يعرفن من ينتظهرنَ ، ولم تعد أخبار اغتصابهن التي يعانين منه سرَا على أحد ، ولم تعد كذلك أخبارا جديدة ، ويبدو أنَ العالم تبدَا لهنَ هكذا . ما يرعبهنَ ليس هو المزيد من الاغتصاب ، ولكن ما يرعبهنَ حقا هو العربدة الجنسية ، والعار ، وما تضمره لهنَ هذه الليلة من رعب ، خمس عشرة امرأة يتمددن على الأسرَة وعلى الأرض ، وينتقل الرجال من سرير إلى آخر ، ينخرون كالخنازير ، قالت امرأة عمياء لنفسها ، إنَ أسوا شيء سأشعر نه ربما هو اللَذة . حين دخلن الممر الذي يؤدي الى الردهة التي إتجهن إليها ، نبَه الرجل الأعمى الحارس ، أنني أسمع أقدامهن ، سيكوننَ هنا في أية لحظة. وأزيل السرير الذي كان يستخدم كبوابة ، ودخلت النساء واحدة بعد الأخرى ، أوه ، أنه عدد كبير ، اندهش المحاسب الأعمى ، وهو يعدهنَ بحماس ، إحدى عشرة ، أثنتا عشرة ، ثلاث عشرة ، أربع عشرة ، خمس عشرة، خمس عشرة ، أنهنَ خمس عشرة امرأة . غادر بعد آخر إمرأة ، وضع يده المتلهفة على تنورتها ، يبدو أنها لعوب ، أنها حصتي . وانتهوا من قياسات تلك النساء ، لمواصفاتهن الجسدية . في الواقع ، إذا كن جميعن سيواجهن قدرا واحدا ، فمن العبث مضيعة الوقت والحد من شبقهم في اختيارهم على وفق الطول و قياس الصدر والعجز . سرعان ما أخذونهن إلى الأسرَة وعرُوهنَ بوحشية، لم يمض طويل وقت حتى سمعت أصوات البكاء وطلب الرحمة ، لكن الإجابة تأتي كما هي متوقعة ، إذا أردتنَ أن تأكلنَ ، أفتحن سيقانكنَ . ثم فتحن سيقانهنَ ، بعضهم أمروهنَ بأن يرضعن كتلك المرأة التي انحنت على ركبتيها بين ساقي قائد هؤلاء الأوغاد، بيد أنَهن لم يعترضن . دخلت زوجة الطبيب الردهة ، تسلَلت بهدوء بين الأسرَة، ويبدو أنها لم تكن بحاجة الى تلك التحذيرات ، ولم يسمعها أحد حتى لو كانت ترتدي قبقابا ، ولكن ، إذا ، مسكها في خضم هذه الشجارات أحد الرجال ألعمي ، وعرف أنها امرأة ، فإنهم سيضمونها إلى الأخريات ، لم يدرك الأمر أحد ما ، وفي وضع مثل هذا ، فليس من السهل أن يكون ثمة اختلاف بين العدد خمسة عشر والعدد ستة عشر .

ما يزال قائد هؤلاء السفاحين يحتفظ بسريره في الزاوية القريبة من الردهة حيث تتكدس حاويات الطعام . رفعت الأسرَة القريبة من سريره ، لأنَ هذا الرجل يرغب أن يتحرك بحرية ، ودون أن يصطدم بجيرانه من العمى . من السهولة بمكان قتله . بينما كانت زوجة الطبيب تتقدم ببطء عبر ممر الجناح الضيق ، راحت تدرس حركات الرجل الذي تنوي قتله ، وكيف راح يرمي رأسه إلى الخلف وهو يستمتع ، كما لو أنه يعرض رقبته لها ، إقتربت منه ببطء ، أدارت السرير وتموضعت خلفه ، كانت المرأة العمياء مستمرة في القيام بما هو متوقع منها . رفعت زوجة الطبيب المقص بهدوء ، كان نصلا المقص مفترقين بحيث ينفذان كخنجرين . فقط الآن ، في هذه اللحظة الحاسمة ، بدا الرجل الأعمى يشعر بحضور شيء ما ، بيد أنَ رعشة الجماع قد حوَلته عن عالم الإحساسات الاعتيادية ، وحرمته من أي قدرة على الانتباه ، لم يكن لديك متسع للوقت لتبلغ ذروتك الجنسية هذه، فكرت زوجة الطبيب وهي تنزل بذراعها إلى الأسفل بكل ما أوتيت من قوة . أنغرز المقص عميقا في حنجرة الرجل الأعمى ، واستدار نصلا المقص حول نفسيهما دائرة واحدة وراحا يتصارعان مع الغضاريف والأنسجة الغشائية لحنجرة الأعمى ، وراحا يعمقان بقوة شديدة في الفقرات العنقية . كانت صرخته مخنوقة وتكاد لا يسمعها أحد ، مثل حيوان يصدر صوتا وهو على وشك القذف ، كما كان يحدث لبعض الرجال العمي ، راح الدم يشخب في وجهها ، في الوقت ذاته أستقبل فم المرأة العمياء مني الرجل . أفزعت صرختها بقية الرجال العمى . كانوا متعودين على الصراخ ، بيد أنَ هذه الصرخة لا تشبه تلك الصرخات . كانت من المحتمل ، دون أن تعرف من أين أتى هذا الدم ، فإنها قامت بتنفيذ ما خططت له ، بقطع قضيبه . ترك الرجال العمى النساء ، اقتربوا متلمسين طريقهم ، وهم يتساءلون ، ماذا يجري هنا ، ما كل هذا الصراخ ، بيد أنَ في هذه الأثناء ثمة يد وضعت على فمها ، وهمس شخص ما في أذنها ، اهدئي ، ثم سحبها بهدوء الى الخلف ، لا تقولي أي شيء ، كان صوت امرأة ، وهدأت ، هل م من الممكن في مثل هذه الظروف الموجعة من يبادر الى طمأنتها. وصل الرجل المحاسب الأعمى مباشرة الى الآخرين ، كان أول رجل يلمس الجسد المقلوب من على السرير ، وأول شخص يمرر يده عليه ، إنَه ميت ، قال ذلك باندهاش مفاجئ . كان رأسه متدل من على أحد جوانب السرير ، ما زال الدم يشخب من الجسد ، قال ، إنَهم قتلوه . توقف الرجال العمي في طريقهم ، لم يصدقوا آذانهم ، كيف قتلوه ، من قام بهذه الفعلة ، أحدثوا جرحا غائرا في حنجرته ، لا بد وأن تكون تلك المرأة العاهرة التي كانت معه في الفراش ، يجب أن نلقي القبض عليها ، تحرك الرجال العمي وببطء هذه المرة ، كما لو أنهم كانوا يخافون من الاقتراب من ذلك النصل الذي قتل زعيمهم . لم يستطيعوا رؤية الرجل الأعمى المحاسب الذي راحت يداه تبحثان بسرعة في جيوب الرجل الميت ، أزاح مسدسه جانبا وفيه حقيبة صغيرة تحتوي على أطلاقات. أنتابهم اضطراب وذعر وقلق حينما سمعوا صيحات عالية من النساء العمياوات اللاتي كنَ في ذلك المكان ، فقد بعضهن الحركة للوصول الى باب الردهة ، وخرجن في الإتجاه المعاكس وارتطمن بالرجال العمي الذين اعتقدوا أنهن على وشك مهاجمتهم بينما وصل اضطراب الأجساد الى درجة عالية من الهيجان . في نهاية الردهة كانت زوجة الطبيب تنتظر بهدوء اللحظة المناسبة لهروبها . كانت تمسك بقوة المرأة العمياء ، وفي اليد الأخرى بالمقص استعدادا للانقضاض على أي رجل أعمى يحاول الاقتراب منها . وللحظة كان الفضاء متسعا أمامها ، بيد أنها أدركت أنها ليست قادرة على التريث . ووجد عدد من النساء طريقهن الى الباب ، بينما الأخريات نازعن من أجل تحرير أنفسهن من أيدي الرجال العمى . ثمة المرأة الغريبة التي ما زالت تحاول خنق عدوها لتضيف جثة أخرى . صاح المحاسب الأعمى صيحة من يريد فرض الهدوء على الرجال العمي ، أهدؤوا ، لا تفقدوا أعصابكم ، أننا على وشك أن نصل إلى خيوط القضية ، ولكي يعيد الهدوء وينفذ أمره ويقتنع الجميع أطلق رصاصة في الهواء . كانت النتيجة عكس ما توقع تماما . ويا للمفاجأة ، أنهم اكتشفوا أنَ المسدس كان في يد أخرى ، وكان ثمة اعمى آخر على وشك ان يعلن نفسه قائدا ، وتوقف السفاحون العمي عن الصراع مع العمياوات ، وتخلوا عن محاولة السيطرة عليهن ، وخاصة حينما تخلى أحد الرجال العمي عن النزاع معهن لأنه مات مخنوقا . في هذه اللحظة قررت زوجة الطبيب أن تتحرك . انطلقت وهي توجه الضربات يمينا ويسارا ، وفتحت مسارا . شرع الآن السفاحون بالصيحات ، وقد اصطدم أحدهم فوق الآخر ، وتسلَق بعضهم فوق بعض ، ومن يستطيع من بين العمي أن يرى هذا المشهد سيدرك ، مقارنة بما سبقه من مشاهد وسيعلق عليه أنَه كان عبارة عن مزحة . فزوجة الطبيب لم تكن لديها نيَة في القتل ، وكل ما أرادته هو الخروج بأسرع ما يمكن ، وفوق ذلك ، لا تريد أن تترك خلفها أي إمراة ، وهذه المرة لن يدعوها تفلت من أيديهم حيَة ، عنَت لها هذه الفكرة حينما كانت تطعن بالمقص صدر زعيم السفاحين . سمعت إطلاق رصاصة أخرى ، لنخرج ، لنخرج ، قالت زوجة الطبيب ، وهي تدفع أي إمرأة تصادفها أمامها . كانت تبذل جهدا واضحا في إنهاض بعضهن على أقدامهن ، وهي تردد ، بسرعة ، بسرعة ، والآن جاء دور المحاسب الأعمى ليصيح في نهاية الردهة ، أقبضوا عليهنَ ، لا تدعوهنَ يهربن ، بيد أن صرخته جاءت بعد فوات الأوان ، فإنَ النساء العمياوات استطعن الخروج من الممر ، فقد هربن وهنَ يترنحن إحداهنَ فوق الأخرى ، نصف عاريات ، يمسكن بأسمالهن بكل ما استطعن من قوة . وقفن أمام الردهة . صرخت زوجة الطبيب بغضب ، تذكروا ما قلته لكم أنني لن أنسى ذلك الوجه ، ومن الآن فصاعدا فكروا بما أقوله لكم جيدا ، أنني لن أنس وجوهكم أيضا . ستدفعون غاليا ثمن اغتصابكم لنا ، مهددة بذلك المحاسب الأعمى ، أسمع ، أنت ورفاقك ، والذين يسمَون رجالك ، أنكم لن تعرفوا من أنا ومن أين أتيت ، أنت من الردهة الأولى في الجانب الآخر ، هددها المحاسب الأعمى ، وتطوع أحد الرجال لاستدعاء النساء ،وأضاف المحاسب ، لا يمكن أن أخطا في تمييز صوتك ، أنك ما أن تتفوهي بكلمة واحدة بحضوري حتى تجدي نفسك في عداد الموتى ، وقد سبق من كان يردد مثل هذا الكلام وتحوَل إلى جثة الآن ، أنني لست عمياء مثله أو مثلك ، حينما أصبتم بالعمى ، كنت أعرف كل شيء عن هذا العالم ، أنك لن تعرف أي شيء عن عماي . أنت لست عمياء ، لا تحاولي خداعي ، ربما أنني الأكثر عمى بينكم ، بيد أنني استطعت أن أقتل ، وسأقتل مرة أخرى إذا اضطررت لذلك ، أنك أول من يموت من الجوع ، ومن اليوم فصاعدا لن تذوقوا طعم الأكل ، حتى وإن جئتن جميعا لتعرضنَ ثقوبكنَ الثلاث على صينية. إنَ أي يوم تحرموننا من الطعام سيكون أحد رجالكم كبش فداء بمجرد خروجه الى عتبة باب الردهة ، لم يكن بمقدوركنّ فعل ذلك ، أوه ، سترين ذلك ، ومن الآن فصاعدا نحن سنجمع الطعام ، وستقتاتون على مخزونكم من الطعام ، عاهرة ، العاهرات ، لسن من النساء ولا من الرجال ، إنهن عاهرات حسب ، أنكم تعرفون قدرهنَ الآن ، وانتابه السخط ، وأطلق المحاسب الأعمى النار باتجاه الباب ، وأزَت الرصاصة وهي تعبر من فوق رؤوس الرجال العمى دون أن تصيب أي أعمى من الرجال ، واستقرت في ممر الباب . قالت زوجة الطبيب إنك أخطأتني ، وخذ حذرك ، إذا نفدت ذخيرتك ، فثمة آخرون مثلك هنا سيرغبون أن يكونوا قادة مثلك أيضا .

تحركت زوجة الطبيب ، مشت خطوات عدة ، ما زالت ثابتة ، ثم تقدمت باتجاه الممر ، كانت في الغالب منهكة ، وفجأة خارت قوى ساقيها ، وسقطت على الأرض . غامت عيناها ، وقالت ، إنني سأعمى ، بيد أنها أدركت أنَ الوقت لم يحن بعد ، هذه دموع تغشي رؤيتها حسب، إنني لم أذرف مثل هذه الدموع في كل حياتي ، فضلا عن ذلك إنني قتلت رجلا ، قالت بصوت خفيض ، أردت قتله ، فقتلته ، وأدارت رأسها باتجاه باب الردهة ، إذا جاء الرجال العمي الآن ، فإنها لن تكون قادرة في الدفاع عن نفسها . كان الممر مهجورا ، واختفت النساء ، مازال الرجال العمى يرتعبون نتيجة إطلاق النار وكثرة زيادة الجثث من رجالهم العمى ، لم يجرؤوا على الخروج ، واستعادت قوتها تدريجيا ، مازالت عيناها تغرقان بالدموع ، ببطء ولكن أكثر صفاء ، كما لو أنها تواجه شيئا غير قابل للعلاج . وصارعت كي تقف على قدميها ، كان ثمة دماء تلطخ يديها وملابسها ، وفجأة أوحى لها جسدها أنها أمست عجوزا . عجوزا وقاتلة في الوقت ذاته ، قالت مع نفسها ، بيد أنها عرفت إن كان من الضروري ، أن تقتل مرة أخرى ، ومتى تحكم الضرورة في القتل ، قالت هذا واتجهت نحو الممر ، وأجابت هي على السؤال ، حينما سيكون الحي ميتا . هزَت رأسها وهي تفكر ، وماذا يعني ذلك ، كلمات ، لا شيء غير الكلمات ، وراحت تمشي وحدها . واقتربت من الباب الذي يؤدي الى الباحة الأمامية ، بين درابزين البوابة استطاعت أن تكتشف ظل الجندي الذي كان يقوم بالحراسة . ثمة أناس هناك ، يبصرون . أرعبتها أصوات أقدام خلفها ، أنهم العمى السفاحون ، فكرت واستدارت بسرعة والمقص بيدها استعدادا لأي حركة محتملة . كان زوجها . حينما عادت النساء من الغرفة الثانية اللاتي كنَ يصرخن بما قد جرى في الجانب الآخر ، إنَ امرأة طعنت زعيم السفاحين وأردته قتيلا وجرى إطلاق نار ، لم يسألهن من هي المرأة ، ربما تكون زوجته ، فقد سبق لها أنها أخبرت الصبي الأحول أنها ستحكي له بقية القصة بعد عودتها ، وماذا جرى لها ، ربما هي الأخرى ماتت ، قالت ، إنني هنا ، وجرت نحوه واحتضنته ، ولم تلاحظ أنها ستلطخه بالدم ، أو أنها لاحظت ولكنها لم تعره انتباها ، وحتى الآن مازالا يشاركان في كل شيء ، سأل الطبيب ، ماذا حدث ، يقولون إنَ ثمة رجلا قد قتل ، نعم ، أنا التي قتلته، لماذا ، كان يجب أن يقتله شخص آخر ، أليس هناك غيرك من يقوم بذلك ، والآن ، الآن نحن أحرار ، وهم يعرفون ماذا ينتظرهم إن حاولوا الإساءة إلينا مرة أخرى، من المحتمل أن تكون ثمة معركة ، أو حربا ، فالعمي هم دائما في حالة حرب ، هل ستقتلين مرة ثانية ، نعم ، إن اضطررت الى ذلك ، إنني لن أتحرر من هذا العمى ، وماذا عن الطعام ، سنجلبه ، أنا أشك إن كانوا يجرؤون في المجيء الى هنا مرة ثانية ، على الأقل في الأيام القليلة القادمة أنهم سيخافون ما قد يحدث لهم مرة أخرى ، أنَ نصلي هذا المقص ستنفذان الى حناجرهم ، أننا أخفقنا في تصعيد المقاومة ضدهم ورضخنا الى تنفيذ طلباتهم حينما جاؤوا الينا أول مرة ، بالطبع ، كنا خائفين والخوف لا يعد دائما استشارة حكيمة ، دعينا نذهب ، لكي نؤمَن على أنفسنا يجب أن نحكم متراس باب الردهة ، ونضع الأسرَة بعضها فوق بعض ، كما يفعلون ، اذا وجب أحدنا أن ينام على الأرض ولم يستطع النوم ، فإنه أفضل له من الموت جوعا .

وفي الأيام التي تلت ، سألوا أنفسهم ، اذا كان ذلك وشيكا أن يحدث لهم ، فإنهم لم يفاجأووا في بداية الأمر، أنهم منذ البدء اعتادوا عليه ، وكان ثمة دائما تأجيل في استلام الطعام ، وكان السفاحون العمي على صواب حينما كانوا يقولون إنَ الجنود يؤخرون وقت التسليم ، لكنهم حرَفوا هذا التبرير بتغيير لعبة أصواتهم ، وقد أكدوا في ذلك أنهم ليس لديهم خيارا بإستثناء فرض تقسيم الحصص ، هذه التزامات مؤلمة لأولئك الذين عليهم أن يقوموا بالمهمة . في اليوم الثالث حينما لم تكن المؤونة أكثر من كسرات خبز وفضلات أخرى ، خرجت زوجة الطبيب يرافقنها بعض العمياويات الى الباحة الأمامية للردهة وسألت ، هيه ، لماذا هذا التأخير، مهما يكن من أمر، أننا لم نذق طعم الأكل منذ يومين . تقدم ضابط من الدرابزين لم يكن ذلك الضابط الأول ليعلن لها أنَ الجيش ليس مسؤول ، وليس ثمة من يختطف لقمة الخبز من الأفواه ، والشرف العسكري لن يسمح بذلك أبدا ، إذا لم يكن ثمة طعام ، فهذا يعني ليس ثمة طعام ، وابقوا جميعكنَ في مكانكنَ ، وأنَ من يتقدم فإنه يعرف القدر الذي يتنظره ، لم تتغير الأوامر . كان هذا التحذير كافيا لهن ليتراجعن الى الخلف ، ويتشاورن فيما بينهن ، والآن ماذا نفعل إذا لم يجلبوا لنا طعاما ، ربما يجلبونه غدا ، أو بعد غد ، أو حينما لا تكون لدينا القدرة أن نتحرك . علينا أن نخرج ، أننا لن نستطيع أن نخرج أبعد من هذه البوابة ، ولكن إذا كنا نبصر، إذا كنا نبصر فإننا لن نهبط الى هذا الجحيم . إنني أتساءل ما هو شكل الحياة في الخارج الآن ، ربما أنَ أولئك السفَاحين سيعطوننا شيئا نأكله اذا ذهبنا إليهم وسألناهم ، وبعد كل ذلك إن كان ثمة شحة في طعامنا فهذا يعني ،هم أيضا سيعانون من شحة طعامهم في نهاية الأمر ، لهذا السبب ليس من المحتمل أن يعطونا أي شيء يحصلون عليه ، وقبل أن يشحَ طعامهم فإننا سنكون على أبواب الموت بسبب المجاعة ، إذن ، ماذا سنفعل ، جلسوا على الأرض ، تحت ضوء المصباح الوحيد الباهت الذي يميل للصفرة ، مشكلين دائرة الى حد ما ، الطبيب ، وزوجته ، والرجل العجوز الأعمى ذوالعصابة السوداء على إحدى عينيه ، بين نساء ورجال آخرين ، واحد أو اثنان من كل ردهة ، كلاهما من الجناح الأيسر، فضلا عن رجل أعمى من الجناح الأيمن ، بعد ذلك ، وحدث ما يحدث دائما ، في عالمنا الأعمى هذا ، قال أحد الرجال العمي ، كل ما أعرفه هو إننا لن نجد أنفسنا أبدا في مثل هذه الحالة اذا لم يقتل زعيمهم ، ماذا يهم إذا ذهب النساء معا إليهم مرتين في الشهر ليمنحن أولئك الرجال ما قد تمنحه الطبيعة إيَاهم ، أنني أتساءل مع نفسي . بعضهم وجد هذا الكلام نوعا من التسلية ، بعضهم أرغم على الابتسام ، إمَا أولئك الذين ينزعون للاحتجاج أثنتهم بطونهم الجائعة على السكوت . وألحَ نفس ذلك الرجل الأعمى ، ما أريد أن أعرفه ما الذي قام بطعنه ، وأقسمت النساء اللتئي كنَ هناك بأن ليس من بينهن من قامت بطعن زعيم السفاحين . ما ينبغي أن نقوم به هو أن نضع القانون بين أيدينا ، ونقدم الفاعل للعدالة ، إذا عرفنا من هو الجاني ، ونقول لهم ، هذا هو المتهم الذي تبحثون عنه ، والآن إعطونا الطعام . إذا عرفنا من هو المسؤول . أحنت زوجة الطبيب رأسها وراحت تفكر ، أنه على صواب ، اذا كان على أي أحد هنا أن يموت جوعا فهذه كانت غلطتي ، بيد أنها أصغت الى نداء الغضب يغلي في داخل تناقضاتها لقبول تنفيذ فعلتها ، لكن دعوا هؤلاء الرجال يموتون جوعا أولا وربما تدفع جريمتي ثمن جرائمهم ، رفعت ، عينيها ، إذا أخبرتهم الآن ، أنا التي قتلته ، فإنهم في هذه الحالة سيسلمونني ، مع علمهم أنهم يسلمونني الى الموت . إن كان موتا بسبب الجوع أو بسبب الفكرة المفاجئة التي أغرتها مثل لجَة في جهنم ، راح رأسها يدور كمغزل كما لو أنها في حالة توهان ، تحرك جسدها بالرغم عنها ، وانفتح فمها لينطق ، أمسك شخص ما بذراعها وعصره ، تطلعت إليه ، كان الرجل ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ، إنَ أي شخص يستسلم سأقتله بيدي هاتين ، وتساءل الرجال الذين كانوا يشكلون دائرة عن السبب ، لأنه اذا بقي العار يحتفظ بمعنى له في هذا الجحيم الذي نعيشه نتوقع أن يتحول الى جحيم الجحيمات ، إننا يجب أن نقدم عرفاننا الى ذلك الشخص الذي امتلك الشجاعة وأقدم على قتل الضبع في عرينه . أتفق معك ، ولكن العار لن يملأ أمعدتنا ، مهما كنت ، فإنك مصيب في كل ما قلته ، وهناك من تمتلئ بطونهم لأنهم لا يشعرون بالعار ، لكننا نحن ، نحن الذين لا نملك غير إحساسنا بالكرامة ، دعونا نظهر على الأقل أننا ما زلنا قادرين على الحرب من أجل حقوقنا ، ماذا تحاولون أن تقولوا ، غير أنكم بدأتم بإرسال النساء العمي من أجل أن تملؤوا بطونكم على نفقاتهن مثل سماسرة رخيصين ، وقد حان الأوان لإرسال الرجال العمي ، اذا تبقى ثمة رجال ، أوضح عمَا تبطنه من كلام ، ولكن أخبرنا قبل هذا من أين أنت ، أنا من الردهة الأولى التابعة الى الجناح الأيمن ، استمر إذن ، الموضوع بسيط جدا ، دعونا نذهب ، ونجمع الطعام بأيدينا ، ولكن أولئك الرجال مسلحون ، وبقدر علمنا ، أنهم يملكون مسدسا وذخيرتهم على وشك النفاد عاجلا أو آجلا ، ولكنهم متأكدون تماما أنهم سيقضون على بعضنا قبل نفادها ، والآخرون ماتوا من أجل لا شيء ، ليس لديَ إستعداد أن أضحي بحياتي من أجل أن يأكل الآخرين . ولكن هل أنك مستعد أن تموت جوعا ، من أجل أن يضحي شخصا ما كي يوفر لك الطعام ، قال الرجل ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه بسخرية ، ولاذ الآخرون بالصمت .

في مدخل الباب الذي يؤدي الى الردهات في الجناح الذي يقع على الجهة اليمنى ، ظهرت امرأة كانت تصغي إلى حواراتهم كانت مختبئة ، كانت المرأة التي شخب الدم على وجهها ، وهي ذات المرأة التي تلقت مني الرجل في فمها ، وهي المرأة التي همست في أذنها زوجة الطبيب وقالت ، اهدئي ، والآن فكرت زوجة الطبيب ، من هنا من المكان الذي أجلس فيه بين هؤلاء الناس ، لا يمكنني أن أقول لك اهدئي ، لكن لا تفضحيني ، مما لا شك فيه أنك عرفت صوتي ، ومن المستحيل أنك قد نسيته ، ووضعت يدي على فمك ، وجسدك ملاصقا لجسدي ، وقلت لك ، اهدئي ، وجاءت اللحظة لتعرفي من أنقذك حقا ، وكي تعرفي من هو ، وهذا هو الذي يدفعني على الكلام الذي أنا على وشك أن أقوله ، وهو السبب أيضا الذي يدعوني أن أقول بصوت عال ، بصوت واضح لا غبار فيه ، ربما تتهميني ، إن كان هذا قدري وقدرك ، أنني الآن أقول ، ليس على الرجال أن يذهبوا فقط، ولكن على النساء أن يذهبن أيضا ، إننا سنعود الى ذلك المكان الذي امتهنونا فيه كي نزيل ذلك الامتهان عن جباهنا ، وهكذا ربما نحرر أنفسنا منه في الوقت عينه نبصق بوجوههم كما قذفوا منيهم في أفواهنا . تفوَهت بهذه الكلمات وانتظرت ، أجابت تلك المرأة ، سأذهب معك أينما تذهبين ، هذا ما قالته لها . وابتسم الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ، وتبدو أنَها كانت ابتسامة فرح ، كانت ابتسامة فرح ، ولكن لم يحن الوقت لتسأله ، وكان من الممتع جدا أن تلاحظ تعبير الدهشة مرسومة على وجوه العمي الآخرين ، كما لو أنَ شيئا ما كان يمر من فوق رؤوسهم ، طير ، غيمة ، أول رعشة ضوء مترددة . مسك الطبيب يد زوجته ، من ثم ، سأل ، هل ما يزال ثمة أحد ينوي أن يكتشف من هو قاتل ذلك الفلو ، أو هل نحن متفقون جميعا أنَ اليد التي طعنته هي يد الجميع ، أو بمعنى أدق ، أنها يد كل واحد منا . لا أحد يرد . قالت زوجة الطبيب ، دعونا نمنحهم فترة أطول ، اذا لم يجلب الجنود طعامنا غدا ، في هذه الحالة ، علينا أن نتقدم . ثم نهضوا . ذهب كل في طريق ، بعضهم الى الجهة اليمنى والآخر الى الجهة اليسرى ، و بسبب طيشهم لم يفكروا ربما أنَ بعض العمي من ردهة السفاحين كان يصغي الى حديثهم الآن، ولكن من حسن الحظ أنَ الشيطان لم يكن دائما متوار خلف الباب ، ربما أنَ هذا القول لا يمكن ان يكون أكثر من مناسب . والأقل من مناسب الى حد ما ، هو ذلك الدويُ القادم من مكبر الصوت ، الذي كان ينطق في أيام محددة ، وفي أيام أخرى كان يصمت ، ولكنه دائما ما يأتي في الوقت ذاته ، وقد اعتادوا عليه ، ويبدو من الواضح أنَ ثمة توقيتا مسجلا في آلة إرسال ، يبدأ في لحظة محددة عبر شريط مسجل ، بيد أننا لا نعرف عطله الذي يحدث بين فترة وأخرى ، وهذه شؤون العالم الخارجي ، وهي على أية حال مسألة خطيرة ، طالما أنها معطلة لحساب الأيام ، وبالتالي ثمة عمي موسوسون بها ، أو متعلقون بنظامه ، بمعنى آخر صيغة متواضعة للوسواس ، وحاولوا بتحرج أن يتابعوا ذلك النظام بخلق عقد صغيرة وربطها بخيط صغير، يقوم بها أولئك الذين لا يثقون بذاكرتهم ، كما لو أنهم يدونون مذكراتهم . الآن انفلت الزمن من عقاله ، ويجب أن تتحطم الميكانيزمية ، ودعونا نفترض أنَ المسجل لن يعود الى سابق عهده ، ويبدأ من جديد أبدا ، وهذا ما يزيد الطين بلَة ، في عمانا وجنوننا. في هذه اللحظة ، كان قد ارتفع صوت عال ، أجش ، قادم من شخص ما ، يبدو لصاحبه أنه كان اعتاد على إبداء الأوامر . ينطلق من مكبر صوت مثبت في أعلى الباب التي دخلوا من خلالها . وقد لفظ كلمة إنتباه ثلاث مرات ، ثم شرع الصوت بالكلام ، تأسف الحكومة أنها مرغمة أن تمارس هذه الضرورة بما يعتبر من واجبها التام ، كي تحمي الناس بكل الوسائل المتاحة الآن لهذه المشكلة .حينما ينتشر شيء مع كل أعراض وباء العمى ، معروف طبيا بالمرض الأبيض ، فإننا نعول على روح المصلحة العامة ، وتعاون كل المواطنين لمقاومة ، لمقاومة أي عدوى وبائي ، مفترضين أننا نتعامل فعلا مع مرض وبائي ، فضلا عن ذلك ، لن نبقى نتفرَج ببساطة مكتوفي الأيدي إزاء هذا الوباء المتعذر اقتلاعه من الجذور . إنَ قرار حشد هؤلاء الموبوءين معا في مكان واحد ، وعلى مقربة من بعضهم بعضا ، وفي مقرات منفصلة ،عن أولئك الذين لهم اتصال مع أي من هؤلاء الموبوءين ، فإنَ القرار لا يتخذ دون اعتبارات مهمة . فالحكومة مدركة تماما لمسؤوليتها وتأمل من أولئك الذين توجه لهم هذه الرسالة مباشرة بوصفهم مواطنين واعين ، وهم دون شك ايضا ، يتحملون مسؤولياتهم، ويضعون في بالهم ان هذا العزل الذي يجدون أنفسهم فيه أنه سيمثل ، فوق أي اعتبار شخصي ، فعل التضامن مع المجتمع الوطني . وهذا يعني ، أننا نطلب من أي شخص أن يصغي بانتباه الى المعلومات التالية ، أولا ، إنَ الضوء سيبقى مشتعل في كل الأوقات ، وأنَ أية محاولة تلاعب بمفاتيح إشعاله أو إطفائه ستكون مسألة عبثبة ، تؤدي الى تعطيله ، ثانيا ، أن مغادرة البناية دون تخويل سيعني النهاية السريعة لحياته، ثالثا ، ثمة هاتف في كل ردهة يمكن استخدامه فقط بالحصول على طلب نافد من الجهة المعنية لغرض صحي ، رابعا ، سيكون المعتقلون مسؤولين عن غسل ملابسهم بأيديهم ، خامسا ، بناء على ذلك ، إن ممثلي الردهة يجب أن ينتخبوا من بين زملائهم ، هذه توصية أكثر مما هي أمر ، على المحجورين أن ينظموا أنفسهم كما يرون ذلك مناسبا ، وأن يذعنوا للأوامر آنفة الذكر وتلك التي أعلناها ، سادسا ، ستقدم ثلاث وجبات طعام للمحجورين تودع قرب الباب الرئيسي ، على الجهة اليمنى والجهة اليسرى ، يقصده المصابون وأولئك المشكوك بإصابتهم به ، سابعا ، كل ما تبقى من الطعام يجب أن يتلف أو يحرق ، ليس الطعام حسب ، بل كذلك الحاويات ، والصحون وسكاكين المائدة ، المصنوعة من المواد القابلة للاحتراق ، ثامنا ، يجب أن ينفذ الحريق في الساحات الداخلية للبناية ، أو الساحة الرياضية ، تاسعا ، أن المحجورين مسؤولون عن أي دمار تسببه النيران ، عاشرا ، في حالة حدوث حريق ، يندلع خارج نطاق السيطرة ، إن كان بسبب حادثة أو عملية مقصودة ، لن يسمح لرجال الحريق بالتدخل ، حادي عشر ، وبموازاة ذلك ، فإنَ المحجورين يجب أن يستثنوا من أي تدخل خارجي يؤدي الى انتشار الوباء ، ولا يتدخلون في حوادث العصيان أو العدوان ، ثاني عشر ، في حالة الوفاة ، مهما كان السبب ، فيجب على المحجورين دفن الجثة في ساحة البناية دون أي مراسم بذلك ، ثالث عشر ، إنَ الاتصال بين جناح العمي والمشكوك بهم ، يجب أن يكون في الصالة المركزية التي دخلوا من خلالها . رابع عشر، إنَ الذين يحملون عدوى العمى ويصابون به فجأة يجب أن ينقلوا حالا الى جناح آخر ، خامس عشر ، إنَ هذه الإيصالات يجب أن تعتمد يوميا في نفس الوقت على القادمين الجدد . إن الحكومة ، وفي هذه الأثناء ، انقطع التيار الكهربائي ، وصمت مكبر الصوت . ودون اكتراث ، ربط رجل أعمى عقدة في خيط صغير كان قد علقه بيده ، وحاول عد العقد ، والأيام ، بيد أنه تخلى ، لأنَ العقد قد تشابكت ، إنها عقد عمياء . قالت زوجة الطبيب الى زوجها ، أنقطع التيار الكهربائي ، ربما هناك خلل في صمام أحد المصابيح ، بيد أنهم أصيبوا بالدهشة الى حد ما حينما وجدوا أنَ جميع المصابيح قد انطفأت ، لأنها بقيت مشتعلة طيلة هذا الوقت ، ربما أنَ المشكلة خارجية ، لكنك عمياء مثلنا ، سأنتظر حتى بزوغ الشمس ، خرجت من الردهة ، عبرت الممر ، نظرت الى الخارج . كان قسم من المدينة يسوده الظلام ، ومصابيح الجنود منطفئة أيضا ، ربما مرتبطة بالشبكة الكهربائية العامة ، ويبدو الآن ، من خلال هذه المظاهر ، ان الطاقة الكهربائية معطلة .

في اليوم التالي ، نهض بعض العمي مبكرا ، وبعضهم متأخرا ، لأنَ الشمس لم تبزغ في الوقت نفسه على أولئك العمي ، وهذا يعتمد غالبا على رهافة سمع كل منهم ، وراح الرجال العمي والنساء العمياوات من مختلف الردهات يتجمعون قرب العتبات الخارجية للمبنى ، ولا حاجة بنا أن نقول ، ما عدا الردهة التي يشغلها السفاحون ، الذين كانوا يتناولون فطورهم في هذه الساعة . كانوا ينتظرون أن يفتح السفاحون البوابة ، من خلال سماع صوت مفاصلها الحادة لعدم إدامة تزييتها ، وأعلنت أصوات وصول الطعام ، بعدها جاء صوت الضابط ، لا تتحركوا من مكانكم ، لن يقترب أحد منكم ، كانوا يسمعون الجنود وهم يجرون بخطاهم ، وأصوات حاويات الطعام الثقيلة ، التي ترتطم على الأرض ، وانسحابهم السريع ، والأكثر من هذا قرقعة صوت البوابة ، وأخيرا ، صوت الآمر ، والآن ، بإمكانكم التقدم ، بقي ينتظرون الى منتصف النهار ومنه إلى وقت العصر ، لا أحد ، بما في ذلك ، زوجة الطبيب ، يسأل عن الطعام . وبقوا مدة طويلة لا يسألون فيها لأنهم لا يريدون ان يسمعوا كلمة لا ، المرعبة ، وبقوا فترة طويلة لم يسمعوا هذه الكلمة المرعبة ولا كلمات مرادفة لها لأنهم لم يسألوا ، الطعام آت ، الطعام آت ، اصبروا ، تحملوا الجوع قليلا ، بعضهم أراد ، أن يقول ، إنهم لن يستطيعوا التحمل أكثر من هذا ، وأغمي عليهم كما لو أنهم غطوا في سبات ، ومن حسن حظهم كانت زوجة الطبيب هناك لتقديم إسعافات لهم ، لا أحد يصدق ، كيف تتدبر تلك المرأة كل ما يحدث ، ربما أنها موهوبة بحاسة سادسة ، أو نوع من الرؤية دون عينين ، والفضل يعود لها لأنَ أولئك المساكين البؤساء لم يبقوا تحت أشعة الشمس المحرقة ، وسرعان ما نقلوا إلى داخل ردهاتهم ، ومع مرور الوقت ، ورش الماء عليهم ، والربت الخفيف على وجوههم استعادوا في نهاية الأمر وعيهم . ولكن ، ليس بالإمكان الاعتماد عليهم في الحرب في نهاية المطاف ، لأنهم لم يعد بمقدورهم الإمساك بقطة من ذيلها ، ويضرب هذا المثل حينما يكون من المستحيل على المرء أن يقوم حتى لو بأمر بسيط . وأخيرا ، قال الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ، لم يأت الطعام ، الطعام لن يأت . دعونا نذهب لنجلب الطعام . نهضوا ، الرب وحده يعرف ، وذهبوا للاجتماع في الردهة البعيدة عن معقل السفاحين ، كي لا يكرروا حماقاتهم التي قاموا بها في اليوم السابق ، ومن هناك أرسلوا جواسيس الى الجناح الآخر، هم نزلاء في ذلك الجناح وأكثر ألفة معهم ، وفي لحظة الشك الأولى ، عادوا ليحذرونا . ذهبت معهم زوجة الطبيب وعادت تحمل معلومة مثبطة ، أنهم أقاموا حواجز من الأسرَة في مدخل الجناح إذ وضعوا بعضها فوق البعض الآخر ، كيف عرفتم عدد الأسرَة ، سأل أحدهم ، ليس بالأمر الصعب ، فقد عرفتها عن طريق التلمس ، وهل شخَصك أحدهم ، لا أعتقد ذلك ، ماذا سنفعل الآن ، دعونا ننطلق ، قال الرجل الأعمى ذوالعصابة السوداء ، مكررا كلامه ، وننفذ ما قد قررناه ، أو نحكم على أنفسنا بالموت البطيء . سيموت بعضنا إذا ذهبنا إلى هناك ، قال الرجل الأعمى الأول ، أي واحد يفكر بالموت فهو ميت، دون أن يشعر ، أننا سنموت عاجلا أو آجلا أننا نعرف هذا منذ اللحظة الأولى التي ولدنا فيها ، لذلك ، وبطريقة ما ، كما لو أننا ولدنا أمواتا ، علقت الفتاة ذات النظارات السوداء ، كفى ثرثرة ، أنني لن أذهب وحدي إلى هناك ، ولكن إذا تراجعنا من حيث كنَا اتفقنا عليه ، في هذه الحالة أنني سأستلقي على سريري وأموت بالطريقة التي أشاء ، كل امريء يموت في يوم أجله ، ولا شيء آخر غير هذا ، قال الطبيب ، وهو يرفع صوته ، على كل من يريد أن يذهب عليه أن يرفع يده ، هذا ما يحدث لأولئك الذين لايفكرون مرتين قبل أن يتكلموا ، فما فائدة رفع الأيدي اذا لم يكن هناك من يستطيع أن يعدَها ، وهكذا ، كان يعتقد عموما ، وبعد ذلك ، قال ، ثلاثة عشر ، في هذه الحالة ، من المؤكد سيشرع نقاش ، يتأسس في ضوء المنطق ، ليأخذ اتجاها صحيحا ، فيما اذا كانوا بحاجة الى متطوع آخر ، لتجنب الرقم المشؤوم 13، أو تجنبه عن طريق إنقاصه رقما واحدا ليكون إثني عشر، بعد إجراء القرعة لإسقاط أسمه ، بعضهم رفعوا أيديهم بقناعة واهية ، تصاحبها إيماءة من الشك والتردد المضلل ، إن كان ذلك بسبب إدراكهم للخطر الذي سيعرضون أنفسهم اليه ، أو بسبب إدراكهم لعبثية هذا النظام . ضحك الطبيب ، كم كان الأمر سخيفا أن أسالكم أن ترفعوا أيديكم ، دعونا نتعامل مع الأمر بطريقة أخرى ، لندع أولئك الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في الانسحاب ، ويبقى الآخرون ليقرروا ما الذي سيفعلونه . ثمة حركة ، صوت أقدام ، دمدمة ، تنهدات ، وانسحب الضعفاء والمتنرفزون تدريجيا ، كانت فكرة الطبيب رائعة وأصيلة ، وبهذه الطريقة سيكون من السهولة بمكان أن نعرف من الذي يبقى ومن الذي لا يبقى . عدَت زوجة الطبيب الذين قرروا المواجهة ، كان عددهم سبعة عشر رجلا وحسبت نفسها فضلا عن زوجها . ومن الردهة التي تقع على الجانب الأيمن ، كان الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينية ، ومساعد الصيدلي، والفتاة ذات النظارة السوداء ، وجميع المتطوعين من الردهات الأخرى هم من الرجال ، ما عدا المرأة التي قالت لزوجة الطبيب، أينما ذهبت ، سأذهب معك ، كانت هنا أيضا . شكلوا طابورا عبر الممر ، عدَهم الطبيب ، سبعة عشر ، نحن سبعة عشر، لم يكن عددا كبيرا ، لاحظ مساعد الصيدلي، لسنا قادرين على تحقيق ما نصبوا اليه ، فجبهة الهجوم ، إذا جاز لي استخدام هذا المصطلح العسكري ، ستكون ضيقة ، قال الرجل ذو العصابة السوداء على إحدى عينية ، يجب أن نكون قادرين على الدخول من خلال الباب ، أنا مقتنع أنَ الأمر سيكون أكثر تعقيدا اذا دخلنا بعددنا هذا ، وسنكون هدفا سهلا ، وافقه رجل آخر ، ويبدو أنهم كانوا مسرورين جدا في نهاية الأمر أنَ عددهم كان أقل .

وانتزعت أيديهم قضبان الأسرَة ، التي يمكن أن تستخدم كعتلات ورماح بكل سهولة ، وطبقا لما تستخدمان من وسيلة هجوم وفي تقدمهم في المعركة . واقترح الرجل العجوز ذوالعصابة السوداء على إحدى عينيه ، والذي تعلَم في شبابه شيئا عن التكتيكات ، أن يسيروا باتجاه واحد في مواجهة المعركة ، لأنَ هذه الطريقة هي الوحيدة لتجنب مهاجمة بعضهم البعض ، ويجب أن يتقدموا بصمت مطبق ، لذا من الممكن أن يفيد الهجوم عنصر المباغتة ، دعونا ننزع أحذيتنا . عقَب أحدهم من الصعوبة أن نجدها ونميز بعضها بعضا ، وعلق آخر ، أنَ أي حذاء يكون زائدا او مختلفا عن أحذيتنا في هذه الحالة يكون أصحابها من الاعداء الذين لقوا حتفهم ، ما هذه الثرثرة عن أحذية الأموات ، فالمثل يقول ، إنَ من ينتظر حذاء الميت يقبض الريح ، لماذا ، لأن الأحذية التي تدفن مع الأموات هي مصنوعة من ورق الكارتون ، وقد تكون إستنفدت غرضها ، لأنَ الأرواح لا تملك أقداما ، وبقدر ما نعلم ، ثمة موضوع آخر ، قاطعه الرجل الأعمى ذوالعصابة السوداء على إحدى عينيه ، حينما نكون هناك ، سيقوم ستة منا ، ستة من الذين يشعرون أنهم شجعان ، على رفع الأسرَة في داخل الردهة بقدر استطاعتهم ، وبهذا يمهدون لدخولنا جميعا ، في هذه الحالة ، يجب أن نرمي أسلحتنا ، لا أعتقد أنَ ذلك ضروري ، ربما تساعدنا ، إذا رفعناها إلى الأعلى , توقف ثم قال ، وكانت نبرة واضحة في صوته ، وفوق ذلك كله ، ينبغي ألاَ نتفرَق ، واذا تفرقنا فإننا سنكون في عداد الموتى ، وماذا عن النساء ، قالت الفتاة ذات النظارة السوداء ، لا تنسوا النساء ، هل أنتنَ مستعدات أيضا ، سألهن الرجل العجوز ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ، أنني أخشى ذلك ، لماذا ، أريد أن أعرف ، أنكن شابات ، في هذه الحالة ، نستثني العمر وكذلك الجنس ، إذن ، لا تنسوا النساء ، كلا ، لن أنسى صوت الرجل العجوز ذا العصابة السوداء على إحدى عينيه والذي تفوَه بهذه العبارات وكأنها آتية من حوارات أخرى ، كانت كلمات جاءت في مكانها ، وعلى العكس ، اذا كانت إحداكن ترى ما لا نراه نحن ، فقودنَنا الى المنعطف الصحيح ، ونحن نحمل رماحنا عاليا نحو حناجر الوحوش ، تماما كما فعلت تلك المرأة ، أنك تطلب المزيد ، اذ لا يمكننا تكرار ما قمنا به حاليا ، فضلا عن ذلك ، من يقول إنها لم تمت هناك ، لم نسمع أخبارا عنها ، وذكرتهم زوجة الطبيب ، تستولد النساء إحداهن من الأخرى ، فالعاهرات يستولدن شريفات ، والعكس صحيح ، فالمرأة الشريفة تستولد كما هو الحال عاهرة ، قالت الفتاة ذات النظارة السوداء . وعقب ذلك صمت طويل ، فقد قالت النساء كل ما يريدنَ قوله ، وعلى الرجال أن يجدوا الكلمات ، وأدركوابعد ذلك ، أنهم لن يستطيعوا أن يقوموا بذلك .

انطلقوا مشكلين بذلك طابورا واحدا في مقدمته العمي الستة الأشجع ، كما جرى الأتفاق ، بينهم الطبيب ومساعد الصيدلي ، ومن خلفهم البقية ، وهم مسلحون بقضبان حديدية اقتلعوها من الأسرَة، كانوا فرقة بائسة ، رماحها مثلَمة ، وبينما هم يجتازون ممر الردهة سقط سلاح أحدهم مما أحدث صوتا مدويا على بلاط الأرض مثل انفجار بندقية ، فإن سمع السفاحون هذا الصوت وعلموا بنيتنا ، لأنتهى بنا الأمر الى الفناء . جرت زوجة الطبيب الى الأمام وتطلعت الى الممر، دون أن يعلم بها أحد ، بما في ذلك زوجها ، وبعد ذلك تباطأت ، مقتربة من الجدار ، وانسحبت الى مدخل الردهة تدريجيا ، وأصغت بانتباه الى الأصوات ، التي يبدو أنها لم تأخذ حذرها . تراجعت وأنبأتهم بأن كل شيء على ما يرام ، ودون تأجيل ، استأنفوا تقدمهم . وبصرف النظر عن الصمت والبطء ، تقدم الجيش ، كانت ردهتا النزلاء تقعان في مقدمة معقل السفاحين ، كانوا يدركون أنَ ثمة شيئا ما وشيك الوقوع ، لذا تجمعوا بالقرب من عتبات الأبواب كي لا يفقدوا صخب الحرب الوشيكة ، وكان بعضهم على وشك الانفجار ، وقد أثارتهم رائحة بارود المسدس الذي يوشك على الاشتعال ، قرروا في اللحظة الأخيرة أن يرافقوا المجموعة ، بعضهم عاد ليسلح نفسه ، لم يبلغ عددهم أكثر من سبعة عشر أعمى ، قد تضاعف عددهم ، بالتأكيد إنَ هذه التعزيزات لن ترضي الرجل الأعمى ذي العصابة السوداء ، لكنه لم يكن يعرف أنه كان يقود كتيبتين لا كتيبة واحدة. تخلَل النوافذ القليلة التي تطل على الباحة الداخلية توهج آخر لضوء رمادي لليل يحتضر ، ثم سرعان ما تلاشى متسللا الى أعماق سواد بئر الليل . وبغض النظر ، عن الحزن الذي لا عزاء له الذي يسببه العمي والذي يعانون منه باستمرار دون مسوغ ، كان النزلاء العمي ، قبل هذا الوباء في الماضي البعيد ، لن يدخروا جهدا في مواجهة أي أسى ، أو أي متغيرات مشابهة أخرى ، كانت تسبب أعمالا لا تحصى من الإحباطات ، حينما وصلوا عتبة الردهة الملعونة ، سرعان ما حل الظلام ولم تعد زوجة الطبيب معه رؤية ثمانية أسرَة بدلا من أربعة شكلت حاجزا ، ويبدو أنَ عددها تضاعف مع تضاعف المهاجمين ، ومع تزايد العواقب السريعة المتلاحقة ، وسرعان ما سيتأكد لنا ذلك . كان الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ، أطلق صرخة ، كانت بمثابة أوامر ، لم يتذكر التعبير الاعتيادي ، هجوم ، أو ربما تذكر الكلمة ، أو أراد ألاَ يقحم نفسه في التعامل مع مصطلحات عسكرية ، أمام أسرَة قذرة ، مليئة بالقمل وبطانيات تحولت الى خرق ، لم يعد لونها يكتسب اللون الرمادي ، بل تحمل جميع الألوان التي تثير الغثيان ، وسرعان ما أدركت هذا زوجة الطبيب ، لا تريد أن تنظر الى هذا المشهد ، وإلى متاريس التعزيزات . وتقدم النزلاء العمي كملائكة تحيط بهم أبَهتهم ، ارتطمت أسلحتهم التي تحملها أذرعهم عموديا كما اقتضت التعليمات بذلك الحاجز ، بيد أنَ الأسرَة لم تتزحزح ، لا شك أنَ قوة هذه الطليعة الشجاعة لم تكن تفوق قوة أولئك الضعفاء الذين يدعمونهم من الخلف ويحملون الرماح على ظهورهم ، مثل شخص يحمل صليبا على ظهره ، وينتظر صلبه عليه . تلاشى الصمت ، أخذ العمي في الخارج يزعقون ، تجاوب معهم من كان في الداخل ، ومن المحتمل أن لا أحد لاحظ من العمي كم هي مزعجة تلك الصرخات في مثل هذا اليوم ، ويبدو أنهم يصرخون دون مسوغ كاف ، نريد منهم أن يلتزموا الهدوء وأن يكفوا عن الصراخ ، ليبدأ دورنا ، وكل ما هو مطلوب هو أن نكون عمي ايضا، وسيأتي ذلك اليوم . اذن ، هذا هو الوضع ، بعضهم يصرخ وهو يهاجم ، البعض الاخر دفاعا عن النفس ، بينما المهاجمون الآخرون في الخارج ، أصيبوا بالإحباط لأنهم لم يستطيعوا إزاحة الأسرَة ، ألقوا برماحهم مرغمين ، بيد أنهم وعلى حين غرة ، وعلى الأقل أولئك الذي استطاعوا أن ينحشروا قرب الممر ، وأولئك الذين لم يستطع أحد منهم أن يفسح مجالا أو مكانا راحوا جميعا يدفعون أولئك العمي الذين هم في المقدمة ، شرعوا يدفعونهم ويدفعونهم وتبدى لهم أَنهم على وشك النجاح في مهمتهم ، تزحزحت الأسرَة قليلا ، فجأة ودون سابق إنذار أو تهديد ، انطلقت ثلاث رصاصات ، كان الرجل المحاسب الأعمى هو الذي يهدف إلى الأسفل، سقط إثنان من المهاجمين ، أصيبا بجروح ، تراجع الآخرون متفرقين بسرعة ، تعثروا على القضبان المعدنية ثم سقطوا ، كما لو أنَ جدران الممر فقدت صوابها وضاعفت من صراخهم ، أخذت صراخات أخرى تأتي من الردهات الأخرى . وسرعان ما حل ظلام دامس ، وكان من المستحيل معرفة من الذي أصيب بالرصاص ، لكن من الواضح ، بإستطاعة المرء أن يسأل عن مسافة بعيدة ، من أنت ، لكن لا يبدو هذا مناسبا الآن ، ينبغي معالجة الجرحى ، باحترام وباهتمام ، وينبغي الوصول إليهم ومعاملتهم بلطف ، ونضع لمساتنا على جباههم ، إذا لم تكن لسوء الحظ اخترقتها رصاصة ، علينا أن نسألهم بصوت خفيض كيف يشعرون الان ، ونطمئنهم أنَ الأمر ليس خطيرا ، وأنَ نقالات الإسعاف سرعان ما تصلهم ، وأخيرا ، نقدم لهم الماء ، باستثناء إن كانت الإصابة بالمعدة ، كما جاء في معلوماتنا عن الإسعافات الأولية . ماذا علينا أن نفعل الآن ، سألت زوجة الطبيب ، ثمة جريحان مستلقيان على الأرض ، لكن لا أحد سألها كيف عرفت أنهما إثنين ، ذلك لأن الإطلاقات كانت ثلاث وليست إثنتين ، ودون حساب تأثيرات ارتداداتها ، إن كان ثمة ارتداد قد حصل لها . يجب أن نذهب للبحث عنهما ، قالت زوجة الطبيب ، أجابها الرجل الاعمى ذو العصابة السوداء بجزع، هذه مخاطرة كبيرة ، بعد أن رأى الكارثة نتيجة تكتيكاته الهجومية ، اذا شكوا أنَ ثمة أناسا هنا فإنهم سيصوبون النار نحونا مرة ثانية ، توقف ثم أردف متنهدا ، لكن علينا أن نذهب الى هناك ، أنا شخصيا ، سأذهب ، قالت زوجة الطبيب ، وأنا سأذهب أيضا ، ولم يكن ثمة خطر علينا اذا زحفنا عليهم ، والمسالة المهمة هو أن نكتشفهم بسرعة ، قبل أن يتاح الوقت لهم ليقوموا بمبادرة مضادة ، انا سأذهب معكم ، قالت المرأة التي أفصحت سابقا أنها ستذهب معها أينما ذهبت ، ولكن لا أحد يعرف ما هو عدد الجرحى ، أو بالأصح ، عدد الجرحى والقتلى معا، في هذه اللحظة بالذات لا أحد يعرف تماما ، ويكفينا هذا الكلام أنا أذهب ، أنا لا أذهب ، أما الذين لا نسمع أصواتهم أما موتى أو جرحى .

هكذا انطلق المتطوعون الأربعة بالزحف ، المرأتان في الوسط ويحوطانهما رجل في كل جانب ، لم يتصرفا بذلك بدافع غريزة اللياقة الذكورية أوالنبالة كي تشعر المرأتان بالحماية ، والحقيقة أنَ كل شيء يعتمد على زاوية إطلاق الرصاصة ، فإذا أطلق المحاسب الأعمى مرة ثانية ، وبعد كل ذلك ، ربما لم يحدث شيء ، وقد عنَت للرجل الأعمى ذي العصابة السوداء قبل انطلاقهم فكرة ، ربما تكون أفضل من اقتراحاته السابقة ، هي على أولئك المرافقين لهم هنا أن يشرعوا بالكلام بصوت عال جدا، وأن يصرخوا أيضا ، فضلا عن ذلك أنَ لديهم الأسباب في ذلك ، وبهذه الطريقة يحتوون الضوضاء عن تقدم وتراجع المنقذين ، كذلك لكل ما يحدث في الوقت المعين من جلبة ، وفي النهاية ، الله ينصر . بعد لحظات قليلة ، وصل المنقذون الى المكان المراد ، وقد عرفوه حتى قبل احتكاك الأجساد ، الدم الذي كانوا يزحفون فوقه كان بمثابة رسالة تقول لهم ، أنا حي ، ولا شيء خلفي ، يا إلهي ، قالت زوجة الطبيب ، كل هذا الدم ، كان حقيقة ، إنه بركة دم كثيفة ، والتصقت أيديهم وملابسهم بالأرضية ، وكأن الأرضية وآجرها قد غطيتا بمادة لاصقة . نهضت زوجة الطبيب متكئة على مرفقيها ، واستمرت في التقدم ، وكذلك الآخرون . مادين أيديهم إلى الأمام ، وأخيرا وصلوا الجثث . إمَا رفاقهم في المؤخرة شرعوا بإثارة الضوضاء قدر ما يستطيعون ، والآن ، بدوا يطلقون أصواتا أشبه بأصوات من احترف مهنة النواح والغثيان . مسكت يد زوجة الطبيب والرجل الأعمى ذو العصابة السوداء كاحلي إحدى الجثتين ، وبدورهما مسكت يد الطبيب والمرأة الأخرى ساعد وساق الجثة الأخرى ، الآن ، حاولوا سحبهما خارج خط النار . ليس من السهولة بمكان انجاز هذه المهمَة ، إذ يجب عليهم أن يرفعوا أنفسهم الى الأعلى قليلا ، لينهضوا على الأربع ، وهذه ي الطريقة الوحيدة لاستخدام ما تبقى لديهم من قوة ، وانطلقت رصاصة ، لكن هذه المرة لم تصب أحدا . لم يدفعهم هذا الرعب الهائل الهرب ، إنما العكس ، ساعدهم على استنهاض آخر طاقة لهم في إنجاز المهمَة . في اللحظة الأخيرة ، تجاوزوا نقطة الخطر ، حاولوا قدر طاقتهم الاقتراب من الجدار الذي يوصلهم الى باب الردهة ، ويمكن لرصاصة تائهة فقط أن تنوشهم ، لكن من المشكوك فيه أنَ الرجل المحاسب الأعمى لا يمكن أن يكون راميا ماهرا ، حتى الرماة العاديون في مثل هذه الحالة . حاولوا أن يرفعوا الجثتين ، بيد أنهم تخلوا عن الفكرة لثقلهما، لم يكن بمقدورهما غير سحبهما ، ومع نصف تخثر الدم ، الذي رسم أثرا على الأرض كما تفعل حادلة في نثر التراب على الأرض ، وبقي دم ، ما زال طريا ، يسفح من الجروح . من هم ، سأل أولئك الذين كانوا ينتتظرون ، كيف نعرف ونحن عمي ، قال الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ، لا يمكننا البقاء هنا ، قال رجل آخر ، إذا قرروا أن يشنوا هجوما سيزداد عدد جرحانا اكثر من إثنين ، وعقَب آخر ، وربما جثث ، قال الطبيب ، على الأقل لا أستطيع جس نبضهما . مثل جيش في حالة انسحاب ، حملوا الجثتين بموازاة الممر ، وعند اقترابهم من الردهة تقريبا توقفوا ، كما لو أنَ أحدهم قال علينا أن نخيم هنا ، بيد أنَ حقيقة الأمر كان مختلفا ، فما قد حدث هوانهم قد استنفدوا كل طاقتهم ، أنني سأبقى هنا ، لا أستطيع الذهاب أبعد من هذا ، حان الوقت كي نعترف أنَ العمي السفاحين يثيرون دهشتنا ، كانوا عدوانيين ومتغطرسين جدا ، سابقا ، فإنهم يظهرون عربدتهم القاسية الآن بسهولة ، وهم يدافعون عن أنفسهم برفع المتاريس وتوجيه النار من الداخل على وفق هواهم ، كما لو أنهم يخشون الخروج ويقاتلون في حقل مفتوح ، وجها لوجه ، وعينا لعين . مثل أي شيء آخر في هذه الحياة ، وهذا له تعليله ، فبعد الموت التراجيدي لقائدهم ، قد تلاشت كل روح الطاعة والانضباط في الردهة ، فالخطأ الفادح الذي قام به المحاسب الأعمى دفعه الى الاعتقاد أنَ حيازة مسدس واحد كاف لاغتصاب سلطة ، بيد أنَ النتيجة كانت معكوسة تماما ، ففي كل مرة يطلق فيها النار ، ترتد تلك النار عليه ، بمعنى آخر ، أنَ كل رصاصة كان يطلقها يفقد فيها جزء من سلطته ، دعونا نتأمل ماذا حدث حينما استنفد ذخيرته ، تماما مثلما أنَ العادة في العبادة لا تخلق كاهنا ، كذلك أنَ الصولجان لا يخلق من الإنسان ملكا ، وهذه حقيقة ينبغي الاَ ننساها ، وإذا كان المحاسب الأعمى الآن حقا يمسك الصولجان بيده ، ومع أنَ الكلام يغري المرء بالقول ، إنَ الملك رغم موته ورغم دفنه في ردهته ، وبطريقة سيئة في حفرة عمقها ثلاثة امتار تحت الارض ، يبقى الناس يتذكرونه ، وستظل رائحته النتنة تبعث بقوة على حضوره . في هذه الأثناء طلع القمر . ومن خلال الممر الذي يؤدي الى الردهة التي تشرف على الباحة الخارجية دخل ضوء وراح يسطع تدربجيا ، ثمة أجساد على الأرض إثنان منها جثتان مسجاتان ، والبقية أحياء ، وأخذت الإحجام ، والإشكال ، والملامح ، والمميزات ، وكل كتل الرعب التي لا تحمل أسماء تتوضح ببطء ، وفهمت زوجة الطبيب ، ليس ثمة لديها إحساس ، كالذي كان يراودها سابقا ، للتظاهر بالعمى ، إذ من الواضح جدا ليس هناك من يتعلَق بطوق النجاة ، وتحول هذا العمى ، الى عالم تلاشى فيه أي بصيص للأمل . كانت تتساءل في هذه الأثناء ، من هو الميت ، هذا هو مساعد الصيدلي ، وهذا الشخص الذي قال إنَ السفاحين يوجهون النار عشوائيا ، وكان كلاهما على صواب في هذه المسألة ، ولا تزعجوني بالسؤال كيف عرفتهما ، والجواب بكل بساطة ، أنني أرى . وكثير من الحاضرين العمي هنا يعرفون هذه الحقيقة وفضلوا الصمت ، البعض منهم خامرهم الشك لبعض الوقت ، وبدت شكوكهم أنها صحيحة ، ودهشة الآخرين كانت غير متوقعة ، رغم ذلك ، لو فكرنا مليَا ، فربما ستتلاشى دهشتنا ، لكن لو كنا بحنا به في حينه لتسبَب في ذلك كثيرا من الرعب ، وهياجا لا يمكن السيطرة عليه ، كم أنت محظوظة ، كيف استطعت الهرب من هذه الكارثة الشاملة ، ما هو إسم القطرات التي تضعينها في عينيك ، أعطيني عنوان الطبيب الذي يعالجك ، ساعديني على الهروب من هذا السجن ، والآن وصلنا الى الشيء ذاته ، فالموت ، هو ، يكون العمى واحدا للجميع . وما لم يستطيعوا القيام به هو البقاء هنا ، في الردهة ، عزَل ، غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم ، حتى القضبان التي انتزعوها من أسرَتهم خلَفوها وراءهم ، وقبضاتهم غير قادرة على القيام بأي شيء . وسحبوا الجثتين بتوجيه من زوجة الطبيب الى الباحة الخارجية ، وهناك تركوهما تحت ضوء القمر ، تحت بياضه الحليبي ، أبيض في الخارج ، وأسود في الداخل . دعونا نعود الى الردهات ، قال الرجل ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ، ولنر اخيرا ماذا نستطيع القيام به . هذا ما قاله ، كانت عبارته مجنونة بيد لا أحد أعارها انتباهه . ولم يتوزعوا طبقا للطريقة التي جاؤوا فيها ، تقابلوا وعرف أحدهم الآخر في الطريق ، بعضهم إتجه الى الجناح الأيسر، والآخر الى الجناح الأيمن ، واصطحبت زوجة الطبيب المرأة التي قالت لها إنني سأذهب معك أينما تذهبين ، وهذه لم تكن الفكرة التي تحملها في ذهنها الأن ، إنما العكس تماما ، بيد أنها لا ترغب في مناقشتها ، فالوعود لا تتحقق دائما ، لأسباب كثيرة ، أحدها الضعف ، وأحيانا بسبب قوة خارقة في وقت معين ، لم يكن المرء يضعها في حساباته .

ومضت ساعة ، طلع القمر ، واستمر الرعب والجوع يحكمان قبضتهما ضد النوم ، فالردهة بأكملها مازالت مستيقظة . ولكن لم يكن هذا هو السبب الوحيد . إن كان بسبب هيجان المعركة ، رغم فاجعتها ، أو بسبب شيء ما لا يمكن تحديده هنا ، ظل النزلاء العمي قلقين ، ولا أحد منهم يستطيع الخروج الى الممرات ، لكن في داخل كل ردهة من الردهات ثمة شبه خلايا نحل تقطنها يعاسيب تئز وحشرات تطن ، وكما يعلم الجميع ، لا يتوفر هناك الحد الأدنى من النظام أو المنهج ، وليس ثمة ما يشير إلى أنهم قاموا بأي شيء لتنظيم حياتهم ، أو إشغال أنفسهم بالحد الادنى من التأمل ايضا في المستقبل ، أنهم مخلوقات بائسة، وليس من الإنصاف أن نتهمهم ، أنهم مستغلون وطفيليون ، لكي نطلق عليهم هذه التسمية لإستغلاهم ما يسمى بفتات الخبز ، و ما يسمى بالطعام ، وعلى المرء أن يكون دقيقا في مقارناته ، كي لا تبدو تلك المقارنات في نهاية الأمر تافهة . على كل حال ، ليس هنالك قاعدة دون إستثناء ، وهذا لا ينقصنا هنا ، ففي شخص المرأة التي دخلت الردهة الثانية التي تقع على الجهة اليمنى ، شرعت فجأة تبحث في أسمالها حتى وجدت شيئا صغيرا ضغطت عليه براحة يدها ، كما لوأنها كانت متلهفة لإخفائه عن عيون الآخرين الفضولية ، ومن الصعوبة بمكان أن تموت العادات المتجذرة بسهولة ، حتى حينما تأتي اللحظة التي نكون فيها قد اعتقدنا أنها تلاشت إلى إلأبد . هنا ، ينبغي أن يكون الواحد للجميع ، والجميع للواحد ، وقد شهدنا كيف أنَ القسوة اللامتناهية للسفاحين صادرت لقمة الخبز من أفواه الضعفاء ، والآن تذكرت هذه المرأة أنَ لديها ولاَعة سيجائر في حقيبتها اليدوية ، اذا لم تفقدها في زحمة الهيجان ، بحثت عنها بلهفة ، والآن أخفتها خلسة ، كما لو أنَ حياتها تتوقف عليها ، وهي لا تعتقد أنَ احد رفقائها التعيسين ربما يملك آخر سيجارة ، ولا يستطيع تدخينها لأنه لا يملك أداة إشعال صغيرة لها ، وربما لا يملك الوقت ليطلب نارا لتدخينها . وخرجت تلك المرأة دون أن تتفوه بكلمة ، ولا كلمة وداع ، ولا مع السلامة ، شقت طريقها عبر الممرات المهجورة ، واجتازت من عتبة باب الردهة الأولى ، ولم يلحظ أحد وهي تمر من قربهم داخل الردهة ، ورسم هبوط القمر وراءه أثرا يشبه ركوة الحليب على قرميدها . والآن ، وصلت تلك المرأة الى ردهة أخرى ، وكان أمامها ممرا ، وكانت وجهتها تقع في نهاية تلك الردهة ، وبإتجاه مستقيم ، لا يمكن أن تنحرف عن طريقها . فضلا عن ذلك ، لم يكن بمقدورها سماع أصوات مجازية تناديها ، ما كانت تسمعه هو جلبة أصوات السفاحين في نهاية الردهة ، كانوا يحتفلون بإنتصارهم ، يأكلون ويشربون من أعماق قلوبهم ، تجاهلوا المبالغة المتعمدة ، دعونا ألاَ ننسى أنَ كل شيء في الحياة هو نسبي ، أنهم ببساطة يأكلون ويشربون ما هو متناول في أيديهم ، كي نديمه طويلا في الحياة ، كيف يحب الآخرون مشاطرتهم في هذه الوليمة ، أنهم لا يستطيعون ، اذ بينهم وبين هذه المائدة حاجز يتآلف من ثمانية أسرَة ، ومسدس محشو بالعتاد . ركعت المرأة على ركبتيها في مدخل باب الردهة ، تماما أمام الأسرَة ، وسحبت ببطء الملاءات ، ثم نهضت على قدميها ، ثم قامت بسحب السرير العلوي ، ثم الثالث ، ولم تستطع يداها أن تنوش السرير الرابع ، ليس مهمَا ، فالفتائل جاهزة ، والآن ، لم يتبق غير إشعالها . كانت تتذكر كيف تتحكم بالأمر كي تهيء فتيلة طويلة الإشتعال ، أوقدتها ، رسم اللهب شكل خنجر صغير الحجم ، ينير كنصلي المقص الحاديَن . وبدأت مع السرير المرتفع ، راحت ألسن اللهب تلعق بجدية ملاءات الأسرَة القذرة ، وبعد ذلك إشتعلت ، بدأت بالسرير في الوسط ، ثم تلاه الأسفل ، وشمت المرأة هسيس شعر رأسها ، كان يجب عليها أن تكون حذرة ، فهي المرأة التي عليها أن تشعل الحريق ، وليس عليها أن تموت ، كانت تسمع صراخ الأوغاد ، وفي تلك اللحظة عنَت لها فكرة سريعة ، إفترضت أنهم يملكون ماء وبإمكانهم إطفاء الحريق ، وزحفت تحت السرير يلفها اليأس ، أخذت تشعل بالولاَعة الملاءات جمبعها ، هنا ، هناك ، وفجأة تضاعف اللهب ، وتحَول الى ستار هائل من النار ، وتدفق الماء من أمامه ، وجاءتها رشقة ، ولكن دون جدوى ، فقد تحوَل جسدها طعاما للنار . ما الذي هناك ، لا أحد يستطيع أن يخاطر في الدخول ، ولكن يجب على مخيالنا أن تنقذنا بشيء ما ، فالنار تسري بسرعة من فراش الى فراش ، كما لو أنها تريد أن تشعلهم جميعا في الوقت ذاته ، ونجحت ، وفقد السفاحون بطريقة عشوائية ما تبقى ما بحوزتهم من الماء ، والآن يحاولون الوصول الى النوافذ ، وتسلَقوا أعلى الأسرَة بإرتباك التي لم تنشها النار بعد ، ولكن سرعان ما وصلت النار ، تزحلقوا ، سقطوا ، مع كثافة حرارة اللهب أخذ زجاج النوافذ يتشقق ، ويتشظى ، وهبَ الهواء يصفر عذبا مما زاد من اشتعال اللهب ، نعم ، أنهم لن ينسوا ، صرخات الغضب والخوف ، وعواءات الألم وسكرات الموت ، وهنا ، الشيء بالشيء يذكر ، وعلى كل حال ، انهم سيموتون تدريجيا ، وسكتت المرأة وما زالت تمسك بيدها ولاعة لبعض الوقت .

في هذا الوقت هرب النزلاء العمي الآخرون برعب بإتجاه الممرات التي ملأها الدخان ، وهم يصرخون ، حريق ، حريق ، وهنا ، يمنحنا شكل الأجساد المحترقة صورة جلية عن سوء تخطيط وتنظيم هذه المؤسسات الإنسانية ، مثل الملاجيء ، والمستشفيات ، والمصحات العقلية ، ونلاحظ كل سرير قائما ، بإطاره المعدني ، وقضبانه المدببة ، كان بالإمكان تحويله الى مصيدة قاتلة ، ولاحظ العواقب المرعبة من خلال وجود باب واحد فقط يؤدي الى جميع الردهات التي يشغلها أربعون فردا ، بغض النظر عن أولئك الذين يفترشون الأرض ، فإذا اندلعت النار أنهم سيكونون الضحية الأولى ، من بعد ذلك لن يهرب منها أحد . ومن حسن الحظ ، كما يقدم لنا تاريخ البشرية ، فإنه ليس من المعتاد أن يدرَ الشر خيرا ، وكما يقال إنَ القليل من الخير المتأتي من الشر هو نابع أصلا من الخير . مثل هذه المتناقضات في عالمنا ، ثمة مسوغات لحالة ما تكون أكثر من الحالات الأخرى ، وفي هذه الحالة فإنَ الخير يأتي اذا أردنا حصر الحقيقة أن ثمة بابا واحدا لكل غرفة ، ويعود الفضل الى هذا العامل ، فإنَ النار التي اندلعت جعلت السفاحين يتلكؤون هنا لفترة ، فإذا لم تزد الفوضى من سوء الوضع ، لما تفجَعنا حزنا على فقدان حياة الآخرين . ومن الواضح ، فإنَ كثيرا من النزلاء العمي قد سحقتهم الأقدام ، والتدافع بالمناكب ، وهذا هو نتيجة طبيعية للذعر ، وربما يدفعكم القول إنَ طبيعة الحيوان شبيهة بهذا ، وكذلك طبيعة النباتات تتصرف تماما بهذه الطريقة ، لولم تكن كل هذه الجذور تمتد عميقا في الأرض ، وكم هو رائعا أن نرى أشجار الغابة تولي هاربة من لهب النار . ويخطر ببال النزلاء العمي لإستغلال الحماية التي تقدمها لهم الباحة الداخلية لفتح النوافذ التي تطل على الممرات . ويقفزون ، ويتعثرون ، ويسقطون ، وهم يبكون ويصرخون ، لكنهم نجوا في نهاية الأمر ، دعونا نتأمل ، أنَ هذه النار ستسبب بسقوط السقف ومن بعد ذلك ستحوله الى سويرات وجمرات من اللهب تتصاعد الى عنان السماء حاملها الهواء ، وتنسى تصاعدها الى قمم الاشجار . أما في الجناح الآخر فإنَ الهلع لن يقل كثيرا في هذا الجناح ، وعلى الأعمى أن يشم رائحة الدخان ليتخيَل حالا أنَ لهب النار آت اليه لا محالة ، وهذا ربما لا يتحقق ما في مخياله ، وسرعان ما احتشدت الممرات بالناس العمي ، فإذا لم يكن ثمة احد يفرض النظام ، سيكون الوضع كارثيا . وفي هذه اللحظة ، تذكر احدهم أنَ زوجة الطبيب تحتفظ ببصرها ، أين هي ، سأل شخص ما ، ستخبرنا ما ذا يحدث الآن ، أين سنولي وجوهنا الآن ، أنا هنا ، أنني استطعت الخروج الآن من هذه الردهة ، أما الطفل الأحول فان اللوم لا يقع عليه لأنه ليس هناك من يعرف أين ذهب ، هو الآن هنا معي ، وأنني ماسكة بذراعه بقوة ، ولن أتركه حتى لو قطعوا ذراعي ، وفي الوقت ذاته أنني أمسك ذراع زوجي ، ثم جاءت الفتاة ذات النظارة السوداء ، بعد ذلك جاء الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه ،ومن بعدهم الرجل الأعمى الأول ، ثم زوجته ، وتتابعوا أحدهم بعد الآخر ، والجميع ، مضغوطين مثل ثمرة شجرة الصنوبر ،وأعتقد تماما لن تفتحها حتى مثل هذه الحرارة . في هذه الاثناء ، حذا بعض النزلاء العمي مثلما حذا اولئك العمي في الجناح الاخر ، قفزوا الى الباحة الداخلية ، ولم يكن بمقدورهم أن يشاهدوا أنَ الجزء الأعظم من البناية التي تقع في الجانب الآخر ، تشب فيها نار كبيرة ، بيد أنَهم شعروا أنَ الحرارة القادمة من هناك تلفح وجوههم ، وما زال السقف حتى هذه اللحظة يقاوم التداعي ، وكانت أوراق الأشجار تتجعَد ببطء . وصرخ أحدهم ، ماذا سنفعل هنا ، لماذا لا نخرج ، وجاءه الجواب ، من بين هذا البحر من الرؤوس ، أننا بحاجة الى أربع كلمات ، أنَ الجنود هم هناك ، ولكن ، قال الرجل الاعمى ذو العصابة السوداء ، من الأفضل أن يطلق علينا الرصاص بدلا من الموت في هذا الحريق ، وبدا أنَ صاحب الصوت يملك خبرة ، وربما لم يكن هو المتكلم ، وربما تكلمت بلسانه تلك المرأة التي تملك ولاعة السيجائر ، التي لم يحالفها الحظ لتموت بآخر إطلاقة من مسدس المحاسب الأعمى ، ثم قالت زوجة الطبيب ، دعوني أمرَ ، سأتكلم مع الجنود ، كي لا يدعوننا نموت بهذه الطريقة ، فهم بشر ولديهم مشاعر . وهذه المشاعر تبعث فينا الأمل ، وانفتحت لها ثغرة صغيرة ، دفعت زوجة الطبيب أن تتقدم بجهود جديرة بالإهتمام ، مصطحبة مجموعة من العمي معها . كان الدخان يضع حاجزا بينها وبين الرؤية ، وسرعان ما شعرت أنَها عمياء كما هم ، وكان من المستحيل عليها أن تدخل الطريق المفضي الى الجنود . فضلا عن أنَ الابواب التي تؤدي الى الباحة المفتوحة قد تحطمت تماما ، أما النزلاء العمي الذين التجؤوا بسرعة هناك ، سرعان ما أدركوا أنَه غير آمن . حاولوا أن يخرجوا منه ، وتدافعوا بأقصى ما يمكنهم ، بيد أنَ أولئك العمي في الجانب الآخر قاوموهم ، وتماسكوا بأقصى قدر ممكن ، وفي هذه اللحظة إزدادت مخاوفهم من الجنود الذين يمكن أن يظهروا ، بينما راحت قوتهم تضعف وراحت النار تنتشر قربهم ، أثبت الرجل الأعمى ذو العصابة السوداء على إحدى عينيه أنه على صواب ، انه من الافضل له أن يموت برصاصة . وقد عيَل صبره ، واستطاعت زوجة الطبيب في نهاية الأمر أن تخرج الى الرواق ، وكانت نصف عارية ، ويداها مشغولتان اذ من النادر عليها أن تحارب الذين يريدون الإنضمام الى مجموعتها الصغيرة وهي تتقدم ، للحاق بالقطار المتحرك ، وحينما رأتها عيون الجنود الجاحظة تظهر أمامهم بصدرها شبه العاري ، لم يكن هذا بسبب ضوء القمر الذي أنار فضاء شاسعا من الفراغ الذي إمتد ليصل البوابة ، ولكن بسبب وهج الحريق الساطع . وصرخت زوجة الطبيب ، من فضلكم من أجل إنقاذنا لا تطلقوا النار عليَ ، دعونا نخرج لا تطلقوا علينا النار . لم يأتها رد منهم . ما زال نور المصباح اليدوي منطفئا ، وليس ثمة نأمة . هبطت بعصبية درجتين ، وسأل زوجها ماذا يجري هنا ، لم تجبه ، لم تصدق عينيها . وهبطت بقية الدرجات ، ومشت باتجاه البوابة ، وهي ما زالت تسحب الطفل الأحول خلفها ، يتبعها زوجها ومجموعة من العمي ، مما لا شك فيه أن الجنود قد غادروا ، أو نتيجة إصابتهم بالعمي إقتيدوا الى مكان آخر ، وربما لم يبق احد لم يصب بالعمى .

وبعد ذلك ، ولكي نبسط المسألة ، فقد حدث كل شيء بهذه السرعة ، وأعلنت زوجة الطبيب بصوت عال أنَهم أحرار الآن ، وقد تداعى سقف الجناح الأيمن متزامنا مع حدوث ضجة عالية من الرعب ، ناشرا السنة اللهب في كل الإتجاهات ، مما أدى الى إندفاع النزلاء العمي الى الباحة الخارجية ، وهم يصرخون بأعلى أصواتهم ، وبعضهم بقي ملازما مكانه صامتا ، طحنتهم الجدران ، والبعض الأخر داستهم الأقدام وحولتهم الى هياكل لا شكل لها ، وتحول الدم الى كتل كبيرة ، وسرعان ما انتشر هشيم النار وحول كل شيء الى مجرد رماد . وانفتحت البوابة على مصراعيها ، وهرب المجانين بجلودهم .



خضير اللامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى