ابن بطوطة - تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار‏ .. الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الفقيه العالم الثقة الناسك الأبر وفد الله المعتمر شرف الدين المعتمد في سياحته على رب العالمين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله ورضي عنه وكرمه آمين.

الحمد لله الذي ذلل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلا فجاجا، وجعل منها وإليها تاراتهم الثلاث نباتا وإعادة وإخراجا. دحاها بقدرته فكانت مهادا للعباد، وأرساها بالأعلام الراسيات والأطواد، ورفع فوقها سمك السماء بغير عماد، وأطلع الكواكب هداية في ظلمات البر والبحر. وجعل القمر نورا والشمس سراجا، ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد الممات. وأنبت فيها من كل الثمرات. وفطر أقطارها بصنوف النبات، وفجر البحرين عذبا فراتا، وملحا أجاجا، وأكمل على خلقه الإنعام بتذليل مطايا الأنعام، وتسخير المنشئات كالأعلام لتمتطوا من صهوة القفر ومتن البحر أثباجا.

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أوضح للخلق منهاجا. وطلع نور هدايته وهاجا. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين واختاره خاتما للنبيين وأمكن صوارمه من رقاب المشركين حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وأيده بالمعجزات الباهرات، وأنطق بتصديقه الجمادات، وأحيا بدعوته الذمم الباليات، وفجر من بين أنامله ماء ثجاجا.

ورضي الله تعالى عن المتشرفين بالانتماء إليه أصحابا وآلا وأزواجا، المقيمين تقاة الدين فلا تخشى بعدهم اعوجاجا، فهم الذين آزروه على جهاد الأعداء، وظاهروه على إظهار الملة البيضاء، وقاموا بحقوقها الكريمة من الهجرة والنصرة والإيواء، واقتحموا دونه نار اليأس حامية، وخاضوا بحر الموت عجاجا، ونستوهب الله تعالى لمولانا الإمام الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين المجاهد في سبيل الله المؤيد بنصر الله - أبي عنان فارس ابن موالينا الأئمة المهتدين الخلفاء الراشدين نصرا يوسع الدنيا وأهلها ابتهاجا، وسعدا يكون لزمانة الزمان علاجا، كما وهبه الله بأسا وجودا لم يدع طاغيا ولا محتاجا، وجعل بسيفه وسيبه لكل ضيقة انفراجا.

وبعد، فقد قضت العقول، وحكم المعقول والمنقول، بأن هذه الخلافة العلية، المجاهدة المتوكلة الفاسية. هي ظل الله الممدود على الأنام، وحبله الذي به الاعتصام، وفي سلك طاعته يجب الانتظام، فهي التي أبرأت الدين عند اعتلاله، وأغمدت سيف العدوان عند انسلاله، وأصلحت الأيام بعد فسادها، ونفقت سوق العلم بعد كسادها، وأوضحت طرق البر عند انتهاجها، وسكنت أقطار الأرض عند ارتجاجها، وأحيت سنن المكارم بعد مماتها، وأماتت رسوم المظالم بعد حياتها، وأخمدت نار الفتنة عند اشتعالها، وأنقضت حكام البغي عند استقلالها، وشادت مباني الحق على عماد التقوى، واستمسكت من التوكل على الله بالسبب الأقوى، فلها العز الذي عقد تاجه على مفرق الجوزاء، والمجد الذي جر أذياله على مجرة السماء، والسعد الذي رد على الزمان غض شبابه، والعدل الذي على أهل الإيمان مد يد أطنابه، والجود الذي قطر سحابه اللجين والنضار، والبأس الذي فيه غمامة الدر الموار، والنصر الذي تفض كتائبه الأجل، والتأييد الذي بعض غنائمه الدول، والبطش الذي سبق سيفه العذل، والأناة التي لا يمل عندها الأمل، والحزم الذي يسد على الأعداء وجوه المسارب، والعزم الذي يفل جموعها قبل قراع الكتائب، والحلم الذي يجني العفو من ثمر الذنوب، والرفق الذي جمع على محبته بنات القلوب، والعلم الذي يجلو نوره دياجي المشكلات والعمل المفيد بالإخلاص والأعمال بالنيات.

ولما كانت حضرته العلية: مطمح الآمال، ومسرح همم الرجال، ومحط رحال الفضائل، ومثابة أمن الخائف، ومنية السائل، توخى الزمان خدمتها ببدائع تحفه، ورائع طرفه، فانثال عليها العلماء انثيال جودها على الصفات، وتسابق إليها الأدباء تسابق عزماتها إلى العداة، وحج العارفون حرمها الشريف، وقصد السائحون استطلاع معناها المنيف، ولجأ الخائفون إلى الامتناع بعز جنابها، واستجارت الملوك بخدمة أبوابها، فهي القطب الذي عليه مدار العالم، وفي القطع بتفضيلها تساوت بديهة عقل الجاهل والعالم، وعن مآثرها الفائقة يسند صحاح الآثار كل مسلم، وبإكمال محاسنها الرائقة يفصح كل معلم.

وكان ممن وفد على بابها السامي، وتعدى أوشال البلاد إلى بحرها الطامي، الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق، جوال الأرض، ومخترق الأقاليم بالطول والعرض، أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي المعروف بابن بطوطة المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين، وهو الذي طاف الأرض معتبرا، وطوى الأمصار مختبرا، وباحث فرق الأمم، وسبر سير العرب والعجم، ثم ألقى عصا التسيار بهذه الحضرة العليا، لما علم أن لها مزية الفضل دون شرط ولا ثنيا، وطوى المشارق إلى مطلع بدرها بالغرب، وآثرها على الأقطار إيثار التبر على الترب، اختيارا بعد طول اختبار البلاد والخلق، ورغبة اللحاق بالطائفة المثلى، التي على الحق فغمره من إحسانه الجزيل، وامتنانه الحفي الحفيل، ما أنساه الماضي بالحال، وأغناه عن طول الترحال، وحقر عنده ما كان من سواه يستعظمه، وحقق لديه ما كان من فضله يتوهمه، فنسي ما كان ألفه من جولان البلاد، وظفر بالمرعى الخصب بعد طول الإرتياد، ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي ما شاهده في رحلته من الأمصار، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار، ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار، وعلمائها الأخيار، وأوليائها الأبرار، فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر، وبهجة المسامع والنواظر، من كل غريبة أفاد باجتلائها، وعجيبة أطرف بانتحائها.

وصدر الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم، المنقطع إلى بابهم المتشرف بخدمة جنابهم. محمد ابن محمد بن جزي الكلبي، أعانه الله على خدمتهم، وأوزعه شكر نعمتهم، أن يضم أطراف ما أملاه الشيخ أبو عبد الله من ذلك مشتملا في تصنيف يكون على فوائده مشتملا، ولنيل مقاصده مكملا، متوخيا تنقيح الكلام وتهذيبه، معتمدا إيضاحه وتقريبه، ليقع الاستمتاع بتلك الطرف، ويعظم الانتفاع بدرها عند تجريده من الصدف. فامتثل ما أمر به مبادرا، وشرع في منهله ليكون بمعونة الله عن توفية الغرض منه صادرا، ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه، فلم أخل بأصله ولا فرعه، وأوردت جميع ما أورده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك، وخرج عن عهدة سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك وقيدت المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقط، ليكون أنفع في التصحيح والضبط، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء العجمية، لأنها تلتبس بعجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس، وإنا فنرجو أن يقع ما قصدته من المقام العلي، أيده الله بمحل القبول، وأبلغ من الإغضاء عن تقصيره المأمول، فعوائدهم في السماح جميلة، ومكارمهم بالصفح عن الهفوات كفيلة، والله تعالى يديم لهم عادة النصر والتمكين ويعرفهم عوارف التأييد والفتح المبين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى