محمد بنيــس - بيْنَ أبنَاء السُّودان

1.
لم أكن أتخيل يوماً أن أزور السودان. بلد بعيد، كما لو كان في آخرة الدنيا. الحروب والصراعات السياسية العنيفة، منذ عقود، هي ما أكاد أظفر به من أخبار في وسائل الإعلام. كتابه وفنانوه، الذين سعدتُ بمعرفتهم، يقيمون في الغرب، بين فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة. ولا شيء يقع بين يديّ مما يكتب وينشر هناك. ثم إن آلة الدمار، التي تطحن العالم العربي، هي نفسها التي تتردد أصداء فواجعها، في دولة الشمال كما في دولة الجنوب. الدم والجوع والسلام المفقود. هذه هي السودان، التي لا سبيل إليها. تركتُ لسنوات ما كنت أحلم به من رغبة قديمة في مشاهدة النيل بلونيه الأزرق والأبيض، أو الوقوف على بقايا حضارة النوبة، أو اللقاء بأحفاد المتصوفة المغاربة ومريديهم. كان ذلك حلماً غامضاً، وشيئاً فشيئاُ عاينت امّحَاء أثره.
لم أكن أتخيل. لكن الواقع أقوى أحياناً من الخيال. هكذا فوجئت، وأنا أرفع سماعة الهاتف، بصوت أعرفه. إنه صوت الصديق برينو أوبيـر، سفير فرنسا في الخرطوم. كلمات التحية التي تعودنا عليها. وبسرعة خبرٌ عن الدعوة التي يودّ المعهد الفرنسي أن يوجهها لي بقصد زيارة السودان وإحياء أنشطة شعرية وثقافية. عند الوهلة الأولى استولى عليّ الصمت. لم أصدق ما أسمع. وعندما نطق بعبارة "أتسمعني؟" أجبت "بلى، بلى، أسمعك، أسمعك جيداً." وعلى إثر المكالمة توصلت بدعوة، تعبر فيها السيدة دلفين غيرار، مديرة المعهد، عن رغبتها في دعوتي. لم أكن أحتاج إلى تفكير. أنا هكذا عندما أجدني أمام إمكانية تحقق ما لم يكن من قبل ممكناً. أتنازل عن الشروط الأولية. أتخيّلني أغادر البيت متوجهاً إلى المطار. وفي ذهني صور مشتـتة، هي الأزمنة كلها. نشوتي تغمر الصدر والأنفاس. الأرض التي سأتوجه إليها ألوان وأصوات وروائح لم أسعد بها من قبل. وفي الطريق لا أنظر إلى الوراء.

2.
دعوة المعهد الفرنسي تم التنسيق لها مع اتحاد الكتاب السودانيين، ومع مركز عبد الله الطيب، ومنتدى دال الثقافي، والمكتبة الوطنية السودانية. أنشطة متكاملة، يلتقي فيها الشعر مع الفنون، الثقافة مع الحوار، الإنصات مع حرية التعبير. وفي مقدمة الأنشطة لقاء مع شاعر السودان الكبير محمد المكي إبراهيم، المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.
رحلة طويلة ومتعبة. نهار وليل، من الدار البيضاء إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى الخرطوم. وأنا غير عابئ بشيء من ذلك. أطمئن نفسي وأنا أناجيها. "الرحلة إلى السودان في زمننا أيسر مما تحمّله أجدادي المغاربة، الذين رحلوا، منذ القرن الخامس عشر، إلى هناك وأصبحوا من أهله، ينشرون بينهم الإسلام بكل تلقائية وعفوية." آنذاك، كان كل متصوف يعرف بحدسه من هم محبّوه، وحين يعثر عليهم يعيش بينهم، ومعهم يبدأ حياة جديدة. لست متصوفاً، وزمني لم يعد زمن السفر عبر الصحراء. إلى هناك سأذهب لأيام، بدون عمامة ولا جلباب. في الذهن أفكار مشوشة عن الزمن الذي نعيش فيه، دون أن يكون لنا خيار. نحيا بجسد منهوك وأنفاس متوترة. وأنا أتوجه إلى الخرطوم، في رحلة كأنها تقود إلى آخرة الدنيا.
ما أعرف هو أن المعهد الثقافي الفرنسي في السودان حريص على احترام ما أراه ضرورياً لتحقيق لقاء مفيد مع جمهور لم يسبق لي أن التقيت به، وأشك في أنه يعرفني. من جهتي حاولت التزود بمعلومات جديدة عن الشعر والثقافة في السودان. فتشت في مكتبتي، ودونت ملاحظات. لا أنسى بطبيعة الحال الشاعر محمد الفيتوري، الذي تعرفت على شعره في أوائل الستينيات، عندما كان مقيماً في القاهرة، ثم الروائي الطيب صالح، الذي كنت قرأت في مجلة "حوار" روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" سنة 1969 فيما أعتقد، وأنا لا أزال في بداية دراستي الجامعية. كانت الرواية ثورة في الأدب العربي، وهو كان يعيش في لندن. في المقاهي أصبحت الرواية مدار أحاديثنا، التي امتدت إلى ما يزيد عن سنة. وفي التسعينيات تعرفت على الطيب صالح في طنجة، خلال مشاركاته في مهرجان أصيلة. وكنت قبل ذلك تعرفت، في أواسط الثمانينيات في القاهرة، على الشاعر هو محمد عبد الحي. كان آنذاك أخبرني أنه هيأ رسالة عن أثر الشعر الإنجليزي والأمريكي في الشعر الرومانسي العربي. أما الرسامون، فقد كنت أعرف بعضهم، ومنهم الفنان محمد عمر خليل، المقيم في الولايات المتحدة. وهو أيضاً من أصدقاء أصيلة ومهرجانها.

3.
ثمة جانب مؤلم في الرحلة إلى السودان. فالبلد يعاني من حروب على ثلاث جبهات، ومن غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان. تقسيم البلد آلمني كثيراً، رغم أني غير محيط بما يكفي من المبررات. لكني، منذ صباح اليوم الأول من وصولي إلى الخرطوم، أحسست بأن هناك شيئاً غير عادي في الحياة الثقافية. دلتني الكلمات الأولى على أن هناك شعراء وكتاباً ومثقفين وفنانين يقيمون في البلد وآخرين يفدون إليه، وأن ثمة حركة من أجل تنفّـس هواء الحرية والإبداع. وفي وقت وجيز أصبحت أندمج في الجو الثقافي. أمسية أولى منفتحة في دار اتحاد الكتاب السودانيين. مقر بسيط جداً، يحتضن معرضاً للكتب جلت فيه بكل انتباه. عثرت على عناوين مفيدة عن السودان وحركته الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأخرى من الأدب السوداني الحديث، وبعض المترجمات. ذلك المعرض كان مقدمة صامتة للدخول إلى عالم لا أعرفه. فالسفر يعني بالنسبة لي مناسبة للتعلم، وليس هناك أهمّ من الأعمال الأدبية والفنية نفسها للقاء بأي بلد وثقافته وشعبه.
في الأمسية الشعرية تقدم د. أحمد الصافي بكلمة صادرة عن المحبة. ثم استمعت إلى قصائد شعراء، من بينهم أيقونة الشعر السوداني الحديث، محمد المهدي المجذوب، الذي قرئت بعض قصائده وذكره الشعراء بكل تمجيد، ثم قرأ محمد المكي إبراهيم وكمال الجزولي وإلياس فتح الدين وآخرون. القصائد تتوالى، وأنا أنصت إليها، فيما ذهني موزع بين الأزمنة والجغرافيات الأدبية. شعر وطني، يستعيد ثلاثة أو أربعة عقود من الشعر السوداني الحديث.
مع الشعراء الشبان كان لي لقاء في اليوم التالي نظمته مؤسسة الدكتور عبد الله الطيب في قاعة الشارقة. كان اليأس يستبد ببعض الشبان، الذي لم يكن يخفي عني هواجسه وآراءه في الثقافة السودانية ومثقفيها. حديث حاد، لا يجامل في قول أو حكم. وأنا أنصت. أليس من حق الشبان أن يعبروا عن آرائهم بكل حرية ؟ أنا من المدافعين عن حرية الرأي والتعبير، بل أذهب إلى أبعد من ذلك مع هؤلاء المحرومين من الكلام والحوار. لذلك تضامنت بكل وضوح، مع تأكيدي على أن كل فرد يجب أن يتشبث بالحياة وأن يعيشها إلى آخر رمق، وإن يئسنا فليكنْ يأسُنا خلاقاً.
بعد الغروب، حضر إلى المعهد الفرنسي جمهور متنوع، من أجيال مختلفة، ليتابع الأمسية الشعرية. اضطربت في البداية، لأن عطش الحاضرين يطالبني بما أعرف وما لا أعرف. وهي مخاطرة بالكلام وفي الكلام. مع ذلك هدأت نفسي عندما ساد الصمت واتسعت القاعة للإنصات. كنت أتخيلني، أثناء القراءة، كما لو كنت في جلسة ودية مع أشخاص أعرفهم منذ زمن بعيد. وما كذبت علي خيالاتي. لست أدري كيف أحسست أن هؤلاء الناس أهلي وإخوتي. الأسئلة التي تلت القراءات كانت ترغب ببراءة في توضيح قول أو تقريب فكرة أو صورة. ثم إن اللغة الحميمة التي كانت تنتقل بين الشفاه أصبحت كلها قريبة مني. لا أحد منا يطالب الآخر بغير ما يحب. إلحاح على معرفة هذا الذي يحدث في القصيدة العربية، خارج ما كان الشعراء يكتبونه في السبعينيات أو الثمانينيات. والآلام العربية ماثلة في الوجوه وفي الأسئلة. ليس من عادتي أن أدلي بأجوبة لا تصدر عن قناعة، وفي الوقت نفسه أتجنب ما يمكن أن يجرح أي شخص.

4.
كثيراً ما ترددت، أثناء الأحاديث، أصداءُ القاهرة وموسكو، مثلما ترددت أصداءُ باريس وروما وإنجلترا. فهذه المراكز الثقافية كانت، منذ ما قبل الاستقلال سنة 1956، أمكنة مفضلة لمتابعة الدراسات أو للتكوين الفني والإقامة، طلباً للحرية وإمكانية الانخراط في الحركة الفنية العالمية. والمثقفون السودانيون، من هذه الناحية، يشبهون سواهم من مثقفي البلاد العربية الأخرى، في المغرب والمشرق. فلم تكن لتغيب عني خطاطة الوضع الثقافي. إنها نفس خطاطة وضع المحيط الثقافي، الذي ظل يفتقد شروط التحديث. من هنا كان الحوار مع الشعراء والمثقفين السودانيين سلساً، لأنني أنا الآخر قادم من المغرب الذي عاني من وضعية المحيط. تفهمت القضايا التي تمت إثارتها بخصوص الهوية، في مدار التجديد الشعري باسم "مدرسة الغابة والصحراء"، التي سعت إلى الإجابة عن التركيبة ما قبل الحديثة للمجتمع السوداني، بين الشمال والجنوب، بين العربي والإفريقي. ومع إثارة موضوع الحداثة، تفهمت الاستشهاد في الأسئلة بكتابي "حداثة السؤال" الصادر منذ ثلاثين سنة، أو "بيان الكتابة"، أو حتى "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"، الصادران منذ خمس وثلاثين سنة.
طبيعي أن يكون الذين نجحوا في الوصول إلى المراكز الثقافية أن يتخطوا العوائق التاريخية لبلدانهم. محمد الفيتوري في القاهرة، ثم الطيب صالح في لندن. وهما نموذجان رفيعان للمثقف، ليس السوداني فقط، بل العربي، الذي نجح في اختراق الحواجز التي تحد من الإبداعية. وبالمعنى نفسه أسعفني الحظ بلقاء شخصيتين متميزتين هما د. نورالدين محمد حمد ساتي ود. منصور خالد. إنهما من مستوى دولي في الحياة الثقافية والسياسية. وفي الحديث معهما يأخذ السودان معنى آخر. فالدكتور ساتي معنيٌّ بإرساء البنيات الثقافية. وهو مشغول ببناء مقر جديد للمكتبة الوطنية. أما د. خالد منصور فخبرته الدولية تجعلك تنصت إلى رؤية موسعة ومعمقة للواقع السوداني، من شماله إلى جنوبه، ومن حاضره إلى ماضيه، ومن داخله إلى خارجه. في تبادل الحديث عن الوهابية بين المشرق والمغرب، أخبرني بما يعرف عن المتصوف المغربي أحمد بن إدريس الفاسي، الصوفي المصلح. أما بيته فعالم تؤلفه مجموعة من الأعمال والتحف الفنية الإفريقية، التي علمتُ أنه رصدها لإنشاء متحف للفن التشكيلي، سيكون مفتوحاً للعموم. وفي الأحاديث كان اسم محمد محمود طه، المفكر الشهيد، يعود ليتفرع الحوار عن الإسلام والدولة، أو الإسلام والنقد، أو الإسلام والاجتهاد. محاور للاقتراب من قضايانا اليوم.

5.
للنيل في الخرطوم مظهر الجلال. نيل أزرق ونيل أبيض، ينفذان إلى أرض الخرطوم وأم درمان، ثم يلتقيان في دورة حول جزيرة توتي، ومنها يتوحدان ويسافران إلى مصر. أنظر إلى عظمة النهر، ومع الغروب تنعكس الشمس الذهبية على الماء في صورة تنسى معها ما يحيط بك. مشهد من مشاهد الخلود، كما تعلمنا أبجديته من الحضارة الفرعونية. النيل في الخرطوم يحتفظ بضفتيه الطبيعيتين. نادراً ما تشوش عليه البنايات. نهر وحشي، يجري اليوم، كما كان في قديم الزمان يجري. وفي المركب، الذي أقلنا في نزهة، لم أستجب لأي حديث في البداية. كنت أريد أن أنفرد بهذا الشاسع الجليل، وهو يتقدم هادئاً، منساباً، بسطحه الأملس. رحلة نهرية، ثم تلتها جولة بالسيارة حول جزيرة توتي. والماء ينساب في لونين. الأزرق (الذي يعني الأسود) والأبيض الرملي. وأنا الفاني أنظر إليه. في البعيد أسمع الآذان يرتفع من جهات تتراءى لي وكأنها تتنافس في علوها نحو السماوات.
وهل يمكن أن تزور الخرطوم دون أن تصل إلى الشيخ حمد النيل ؟ أبداً. قلت للصديق. أريد أن أزور هذا الضريح لأعرف وجه السودان عبر تاريخه الإسلامي. اجتزنا إلى أم درمان، هذه المدينة المسكونة بالأطلال وبالغبار والفقر. اخترقت السيارة شوارع أولى، وبعد المنعطف توقفت أما جمهرة من البشر. "هنا حمد النيل" قال لي. كنت كمن يقف أمام يوم الحشر. مع الخطوات الأولى برزت آثار المقابر. ركام من التراب وحجرة عند الرأس أو شاهدة من حجر أو حديد، كتب عليها اسم الميت وسنة الوفاة. كدت أجمد في مكاني. هذا المدى من أشباه قبور لم يبق منها سوى حفنة من تراب وأحجار وغبار. بعض المقابر مسورة بحاجز حديدي. وعلى بعد مسافة منا أضرحة خضراء. كل ضريح له قبة عالية وبعض عناصر التزيين. الأعلام خضراء. خضراء. ومن البعيد دقّات الطبول المتوازنة. أعرف هذا الإيقاع. إنه إيقاع ذكر وشطح الدراويش. مع كل خطوة يشتد الزحام وتضيق الممرات. وجوه غربية وأسيوية وسط أهل البلد الموزعين عبر الطريق إلى مكان الذكر والشطح. ترتفع دقّات الطبول، ومعها ترتفع أصوات الدروايش. الله، الله، الله. دائرة ترتج بالنفوس الواثقة، المتجهدة. غبار وأصوات تتلاحق في فضاء من أضرحة وقبور.
وقفت لأشاهد هذا التي تعودت على مشاهدته. ربما كان هؤلاء عيسويين. أتتبع مشهد الدراويش في حلقة واسعة. في الوسط عدة شيوخ بلباس أخضر ومسبحات معلقة حول الرقبة، وفوق رؤوس بعضهم عمائم ذات طبقات من الألوان. بصوت واحد، وبنفس النغمة، يجهرون. لكن لكل واحد شطحته. إنه مأخوذ بالحال، لا أحد يملي عليه كيف يجب أن يتحرك ولا ما الذي ينطق أو لا ينطق به.
أقترب مني شيخ وسيم، ذو سحنة منشرحة، يلبس عباءة خضراء. عندما سألته عن الطريقة قال إنها القادرية. "وأين التيجانية ؟" سألت، فأجاب بأنها هناك. وأشار لمرافقي إلى حيث يوجدون. من القادرية إلى التيجانية، هذا مفيد. والطريقتان مختلفتان. ذكر لي مرافقي أن السلفيين يهجمون أحياناً على أصحاب الطريقتـين معاً عندما يقيمون حلقات الذكر. ذلك شأن السلفيين في كل البلاد الإسلامية، منذ ظهور السلفية، بل منذ ظهور الوهابية. وتاريخ السودان مدموغ بهذه الطرق الصوفية القادم بعضها عن طريق اليمن، أما أغلبها فقد وصل من المغرب، كما هي عليه حال الطرق الصوفية في أكثر من منطقة إسلامية، ومنها مصر.

6.
وجدت نفسي في الخرطوم بين أبناء السودان، من فئات متباينة. عبر الطرق تتنوع جلسات السيدات اللواتي يهيئن الشاي في مقاه على الأرصفة. ألواح خشبية أو مقاعد من مواد بلاستيكية أو من علب القصدير. رواد هذه المقاهي الشعبية جالسون يتفيأون الأشجار، أو يقضون وقت العشي والغروب. في بعض الأحيان ألمح مجموعة تتبادل الأحاديث والضحكات. لباس النساء يغطيه ثوب ألوانه ورسومه زاهية. أحسب هؤلاء النساء من الصحراء المغربية أو موريتانيات. بينـهن شبه كبير في الزي وانتقاء الألوان. وعندما ألمح امرأة فاتنة أستعيد حكاية تاجوجا. الغبار في جميع المناطق التي اجتزتها، حتى بعض المكتبات التي زرتها كان الغبار يعلو الكتب والمطبوعات. لا أستطيع أن أسميها مكتبات. هي عبارة عن مخازن توضع فيها الكتب فوق ما يشبه الرفوف. وأغلب الكتب المعروضة دينية أو قديمة.
لدى "دار مدارات"، لصاحبها إلياس فتح الرحمن، مناخ متحضر، أنيق. في الطابق السفلي مكتبة، تعرض كتباً، بعضها صادر عن الدار وبعضها من بيروت والقاهرة. وفي الطابق العلوي إدارة، هي عبارة عن متحف. جميع تجهيزاتها من صنع صاحب الدار ومساعديه ومجموعة من الفنانين. هنا تطلع على تاريخ الثقافة الوطنية في السودان، بتياراتها وممثليها، ومن خلال صور لكتاب وفنانين. وفي نفس إلياس، كما في كلمات صديقه د. أحمد الصافي، تعابيـر عن الشوق إلى لحظة حرة في السودان، وإلى ثقافة تكون للسودانيين منارة توجههم نحو المكان الذي هو المكان الآمن.
ويلتقي الجميع في المعهد الثقافي الفرنسي. فهو مفتوح للجميع، بدون أي شرط. العربية تتجول في أنحائه إلى جانب الفرنسية. والمثقفون والفنانون يرتادونه ليلتقي بعضهم ببعض. في آخر أمسية لي قبل الوداع، فرحت بحضور افتتاح معرض للفنانة كمالا إبراهيم إسحاق، أستاذة الأجيال. سيدة مدهشة بتجربتها الفنية، التي راكمتها في منفاها اللندني. حضر المعرض كتاب وفنانون. كانت النساء يحطن بها، وهنّ سعيدات بافتتاح معرضها.

7.
في كل لحظة من لحظات الزيارة كنت أكتشف عمق الروابط الثقافية والإنسانية بين الكتاب والفنانين. حوار مفتوح بينهم. والحديث عن الحاضر موصول بالعودة إلى الذكريات. كنت أنصت إلى نهر الكلمات متدفقـاً بعفوية بين أبناء السودان، ومن خلال الأحاديث أستحضر أنا الآخر صوراً من انفتاح الحياة الثقافية والجامعية في السودان خلال الخمسينيات والستينيات. عندها تساءلت في صمت : هل هي صدفة الحياة أن أزور الخرطوم في فترة لا يمكن أن تكون الزيارة ممكنة ؟ أم الأهم هو أن أدرك إلى أي حد يحتاج أبناء السودان إلى ثقافة حديثة، قريبة من حلمهم بحياة حرة، وبالعيش في سلام لا تشوش عليه عقلية اللامبالاة والطغيان ؟ سلام على السودان، سلام على أبنائه، سلام عليك.
*

محمد بنيس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى