د. جورج سلوم - القلادة الذهبية

دائماً تتلاعب بها وهي تتدلّى على صدرها ، قلادتها الثقيلة معلّقة بسلسال ثقيل ..وأحياناً لثقلها تغور خلف فرجة قميصها ، وتتذكّرها فجأة وتسحبها لتظهِرَها وتعود لتتلاعب بها .
تنجذب عينه إلى قلادتها التي تشغلها ، فيدقّق النظر فيها ، كأنها كتابٌ مغلق بدفّتين ولها قفلٌ يبدو ظاهراً ، قد تكون بداخلها تعويذة ما ، تلجأ لها كلما أحرجَها بحديثه .
وقد تكون تتفاخر بها لأنها من ذهب ، إذ لا تحمل قرطاً ولا خاتماً إلا محبسها الرقيق .
تعرّف على تلك الإمرأة بواسطة الانترنت ، وعلى صفحات التواصل ، ووافق على طلب صداقتها ، إذ عادة لا يرفض رجلٌ طلبَ صداقةٍ من امرأة ، لكنه يتوجّس في البداية إذ قد يكون طالبُ الصداقة رجلاً متخفّياً بلبوس امرأة ، ويحاول الاصطياد بالماء العكر .
لذا فتح صفحتها ليأخذ فكرة عمّن تحاول صداقته ، وكانت فارغة إلا من صورة تجمعها وزوجها وابنة رضيعة ، وحاول معرفة تركيبة أصدقائها فكانوا رجالاً بمعظمهم .
لذا ما إن افتتح الحديث معها كتابةً حتى طلب رقم هاتفها ، ووافقت بسرعة . إنه صوت امرأة بالفعل على الهاتف ، وصوتٌ جذّاب أيضاً ، وترحيبٌ بصداقته ..هي ليست مسرحية إذن للإيقاع به .
عندما طلب أن يراها ، وكان يظن أنها ستتمنّع ، فوجئ بموافقة مباشرة .
قالت له على الهاتف ..إنها استطلعت صفحته وتعرف عنه كل شيء إن كان ما نشره صادقاً .
وقالت له من ضمن ما قالت ..أنها متزوجة ، ويجب أن يكون عازباً .. وأصرّت أن يكون صادقاً في كونه عازباً ..لا يضرّ إن كان مطلّقاً أو أرملاً ..المهم أنه وحيدٌ الآن .
وأومأ برأسه موافقاً ولم يجب صوتياً ..ونسي أنه يتكلّم على هاتفٍ غير مرئي ..واعتبرت السيدة صمته نوعاً من عدم الجواب ..فأعادت السؤال :
-أنت (غير متزوّج الآن) أليس كذلك ؟
ضحك ، واستغرب طريقة الاستجواب تلك ، واستخفّ بتلك الزوجة التي تضع عزوبيته شرطاً للقياه ، أو لاستمرار صداقتهما .
فأجاب ساخراً :
-هل تبحثين عن زوج ثانٍ أيتها الزوجة ؟
وانتهى حديثهما بما يشبه التهكّم على صداقة افتراضية قد تكون للتسلية فقط .. وطلب منها صورةً خاصة ترسلها له ، وكان يظن أن هذا الطلب سيجعلها تنفر من تسرّعه ..لكنها أجابت :
-ما دمنا اتفقنا على موعد للقاء قريب ، فما من داعٍ للصور .

نعود إلى قلادتها تتلاعب بها ، وتجذب أنظاره نحوها .
سيدة ثلاثينية ، يبدو أنها بالغت في تبرّجها قبل لقائه . كان مجلسهما في مكان عام ، وكان يشعر في قرارة نفسه بأنه أمام مغامرة مع امرأة دونيّة تبحث عن زبون تستدرجه لتبتزّ أمواله .
لذا قطع الطريق عليها بإظهار فقره ، وبأنه موظفٌ بسيط ، قد يصلح لاستمرار صداقة مجانية على الانترنت مع امرأة ..ليس إلا .
ومن ضمن ما قال :
-أنا بالكاد أدفع إيجار شقتي الصغيرة وثمن دخاني ومصروفي ، وقد أنكسر في بعض الشهور فأستدين ..لا تأمَلي منّي الكثير
قال ذلك ، وهو يعتقد بقرارة نفسه أنها ستنفر منه فوراً ، لكنها استمرّت بالجلوس وهي لا تنفكّ تلعب بقلادتها .
فاستطرد قائلاً :
-وماذا تنتظرين من صداقة رجل مثلي (أيتها الزوجة) ؟
وكان يصرّ على تسميتها بالزوجة ، وكأنه يضع خطاً تحتها لو كان يكتب . وكانت تبتسم له إذ ينعتها بالزوجة ، فتزيد من تلاعبها بقلادتها وقد أطرقت إلى طاولتهما وتتأمّل ارتباكه من فرط إيماءاته بأصابعه ، وتقلقله بمقعده ، وتبتسم من طريقة شربه للقهوة برشفات مسموعة تدلّ على عفويّته .
قالت بهدوء :
-أنا فعلاً متزوجة يا صديقي ، واسمح لي أن أناديك باسمك .
وانتظرت موافقته بهزيز رأسه المتوالي ، وتابعت :
-متزوجة أنا ، وزوجي الآن في البيت ، وهو يعلم أني وإياك على موعد .

وأجفل الرجل ، وتلفّت حوله ، إذ خشي من عيونٍ تراقب ، أو أحد ما يداهمه وينقضّ عليه ..كأنه في كمينٍ منصوب .. ونفض من رأسه تلك الفكرة لأنه بمكان عام وعلى الملأ ، وجاءته بملء إرادتها .
وابتسم إذ راودته فكرة أن يكون زوجها ديّوثاً يشغّلها باصطياد الزبائن ، وابتسم أيضاً بلا مبالاة إذ أن صيدهم الآن سيكون تافهاً ، إذ لو عصروه لن يجدوا معه ما يبلّ الريق من فلوس .
منتوفٌ أنا أيتها المسكينة ، وإن كنت أبدو بثياب أنيقة ، وعطر أستعمله للمناسبات ، وعلبة دخان أجنبية اشتريتها خصيصاً لهذه الجلسة ، أما الحقيقة فأنا أدخن ما تيسّر من أرخص الأنواع ..كلها كلمات يجب التصريح بها ..وما زالت في غير وقتها
كان يبتسم ، وعينه لا تفارق قلادتها التي اعتبرها أيضاً ذهباً مزيّفاً ، وقد تكون فارغة المحتوى ، ولا ينصرفنّ ذهنك إلى تعاويذ سحرية أو مصحفاً مجهرياً ..أنت أمام مغامرة أشبه بالمكيدة ولكن ليس لديك ما تخسره ..فلنستمرّ إذن في لعبتنا ..وتوطّنت أفكاره على ذلك .
وأضاف متهكّماً ليقطع صمتهما واعتمال أفكارهما:
-أنا سعيد بصداقتك أيتها الزوجة (المخلصة )..إذ أنك من النوع الذي يروق لي شكله ، ولا أتقن فن المغازلة ، فلا تنتظري مني إطراءً أكثر من ذلك ، لأني لا أحب الكذب .
-وهذا ما يعجبني فيك ، صدْقُك ، فأنت حقيقةً نسخةً واقعيّة عن المعلومات التي كتبتها عن نفسك بالفيس بوك ..أنت فعلاً لا تكذب ، وهذا ما يزيد إعجابي ويعمّق ثقتي بك .

وأحسّ بأنه احمرّ خجلاً ، إذ لم يسمع إطراءً من امرأة قبلها بهذه الطريقة ، ووجهاً لوجه ..وعرف بأنه أمام امرأة ذات خبرة في الإيقاع بالرجال .. وعادت الهواجس تتناهبه ..وماذا تريد مني ؟..لا شك بأنها تحاول تجنيدي في منظمة سرّية ، وزوجها الذي يقبع في البيت وعلى علم بموعدها المرتّب معه ، زوجها ذاك ينتظر النتيجة بأن تسوقه خلفها طيّعاً مطواعاً لينفّذ مهمة انتحارية ..وما تلك المرأة إذن إلا من مجنّدات جهاد النكاح .
وليلة واحدة معها يا مسكين ، وسيصير جسدك هباءً منثوراً .
اختاروك بعناية ..فقير وعاجز مادياً عن الزواج وعازب ومدمن انترنت ..أي أنه جائع للنساء ..وهو المطلوب .
كان يودّ أن يهمّ بالقيام وينصرف ..وتمتم في قلبه .. لست أنا ممّن تعتقدين ..ولا جوع عندي للنساء ، فلدي كل المواقع الإباحية ، وفيها من هنّ أجمل منك وأرخص وأكثر انفتاحاً ..والزواج التقليدي بمجمله مشروعٌ مؤجّل .
كان يغيب عنها بأفكاره ، وهي ما تزال تدقّق النظر في وجهه .
ويعود إليها ، ويدها لا تفارق قلادتها تتلاعب بها ، عفواً ، إنها الآن تصوّبها نحوه ، قد تكون بداخلها آلة تسجيل أو تصوير ، وإلا ما السرّ الذي يجعلها لا تتركها مذ جلست إليه ..أتذكُرْ أنها كانت غائرة بين نهديها وسحبتها وأظهرتها عندما جلست قبالتك؟ ..إنها آلة نقل للحدث تسجّل وتنقل مباشرة لزوجها الذي يجلس أمام كاميرات المراقبة ، ويراقب ويعطي أوامره ، قد تكون تلك المرأة محروسة برجالٍ متخفّين يجلسون هنا وينتظرون الأمر بالتدخّل السريع .
أنت في معترك فيلمٍ بوليسي يا صديقي ..هكذا قال لنفسه ..انجُ بنفسك يا رجل قبل الوقوع في المصيدة .
لذلك ..همّ بالقيام معتذراً ..وقال إنه كان سعيداً بلقائها ..لكنها وقفت وأمسكته من ذراعه :
-أرجوك ..لقد وجدت ضالتي فيك ..من فضلك عد معي إلى البيت ليراك زوجي ..بيتنا قريب ..ربع ساعة فقط إن سرنا على أقدامنا .

وجد نفسه يسير معها متمنّعاً على رغبة بالمزيد ، وكان يبتعد عن محاذاتها ومسايرتها ، لكنها كانت تقترب منه ، كأنها تقيس خيالاتهما على الأرض ..ابتسمت إذ قالت ..أنت أطول مني قليلاً وذلك أمرٌ محبب إذ أن زوجي قصير القامة .
سار معها ، وكأنه مسيّرٌ رغماً عن إرادته ، كان يحسّ بأن قدميه تقودانه إلى التهلكة ، لذا رأى الطريق أطول مما قالت .
عرف أنه اقترب من بيتها في الحي الشعبي ، لأنها بدأت تلقي السلام على المارة المشاة ويردّون السلام ، وكانوا يتفحّصونه إذ أنها كانت مصرّة على ملازمته بمشيتها ، وآمن أنه دخل عش الدبابير ، ولم يبق إلا أن يدوس على القفير لتبدأ المسرحية الهزليّة .
كان خائفاً فعلاً ، لذا آثر أن يتصل بصديقه ليقول له بصوت مسموع إنه في حيّ العصافير بزيارة قصيرة ، وطلب منه أن يتصل به كل عشر دقائق للاطمئنان عليه .
وكانت تضحك من تصرفاته ، وتعتبرها براءة الغرّ الذي لا يخيف أحداً ، وما زادها ذلك إلا اقتراباً منه حتى كادت تتأبّطه لو رضي بذلك .

وصَلْنا الآن ... وفتحَتْ الباب بالمفتاح ، ودخلت قبلَه وهي تقول :
-هذا البيت نقله زوجي لاسمي ، وأنا الآن مالكته الوحيدة .

لا يعنيه الأمر ، فمثلها قد يملك عشرات البيوت .
وأضافت وهي تقوده كالمنوّم مغناطيساً :
-وهذه غرفة النوم ..وهذا زوجي الحبيب !
قالت ذلك وهي تدفعه أمامها دفعاً .
وجد نفسه أمام سريرٍ عليه رجلٌ مدنَف ، ضعيف وهزيل وبالكاد ترى رأسه فوق الملاءات التي تغطيه ، شاحب مع ميل للزرقة ، وكأنه أحد المومياءات المقمّطة بالأربطة ، كأنه رجل محنّط لولا عيونه التي تخفق ، وفمه الذي يبتسم كطفل بريء عاجز .
قال الرجل المريض :
-أهلاً بك ..توقّعت من صفحتك على الفيسبوك بأنك الرجل المطلوب وصدَق حدْسي ..وعرفت أن زوجتي ناديا ستختارك ، ونِعمَ الاختيار .
تفضل اجلس على الرحب والسعة ..كانت جلستكما سريعة ولا أظن بأنها شرحت لك ، سأشرح لك الأمر إن أسعَفَتْني قدرتي على الكلام ..ولا أظنك إلا مسعفاً ومنجداً لي ..وموافقاً على رغبتها ، ورغبتي .
وطبطب الضيف المذهول على يد المريض ، وانفرجت بعض أساريره إذ وجد الأمر عكس ما أضمرَتْ نفسه .
عندما تزوّج الضيف بناديا بعد أشهر ، كانت كل التفاصيل المبهمة عنه قد انجلت ، لذا رضي بالزوجة السابقة زوجة له بعد أن طلقها زوجها بحضوره ، لأنه كان قد وعدها بأن يسلمها لرجل من بعده يعرف قدرها ويؤمَن جانبه وتختاره بمحض إرادتها .
شرح الزوج القديم قبل وفاته كيف ضحّت ناديا بسنيّ زواجهما تخدمه بعد أن شُلّ شللا رباعياً ، وقال إنه عاش معها كإنسان متكامل لشهر واحد كان كافياً لتحميلها بابنتهما الوحيدة ، ثم ابتليَ بعجزه المعنّد على الشفاء بسبب سرطانٍ في الدماغ ، وعِرفاناً منه لجميلها قال بأنه سيهبها كل ما يملك ويحرم ورثته الآخرين ممن عافوه في محنته ، وبأنه سيشاركها في اختيار البديل الذي يجعله يرتاح في تربته .
أما الزوج الجديد ..فقد اكتشف مؤخّراً وبعد أشهر من زواجه سر القلادة الذهبية التي ما فتئت ولا انفكّت تتلاعب بها بحضرته ..كانت فعلاً كدفتي كتاب موصد وفيها صورتان ..صورة زوجها الفقيد (المرحوم )..وصورة ابنتها الرضيعة التي ستتربّى في كنفه ..ولم يشأ الزوج الجديد حتى الآن تغيير محتوى القلادة الذهبية .
**************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى