مسعد بدر - رفح، صوت القهر!

نشرتُ على الفيس صورة لعبد الله ابني وهو يحمل فِراشه على ظهره ويرحل من (رفح الخالدة) تنفيذا لقرار الدولة بإقامة منطقة عازلة على الحدود مع فلسطين، منطقة تمتد خمسة كيلو متر خالية من السكان!
كثيرون رأوا الصورة فأثّرت فيهم وتأثروا بها؛ فعلقوا عليها أو صمتوا أمام جلال المشهد، وللرحيل حَرَمٌ جليل! أما (الشاعر) عماد قطري (الإنسان) فقد رأى وتأثر وعبّر؛ لأنه شاعر يملك أدوات التعبير، ويُتقن إجراءاته.
عَنوَن قصيدته عنوان إنسان متعاطف: رفح! وصدّر لها بإهداء فيه تواضع النبلاء: "إلى سيدي عبد الله"! قال:
رفح
(إلى سيدي عبد الله مسعد أبو بدر)
سيقولُ عبدُ الله يا أبتِ انتبه
لا صوتَ يعلو فوقَ صوتِ القهرِ
إن قُلنا: رَفَح
ضِدَّانِ ..
في عامِ الرَّمادةِ ما استغثنا
إن أغثنا جاءَ طوفانُ التَّرح
فرحاً رقصنا ما انتكسنا رغم جُرحٍ
نحن صناعُ الفَرَح
***
هل كان مقهى يا أبي ؟
وأنا استبقتُ السوطَ بالرقصِ اللعين
ورميتُ أحجاراً بطاولتي ولم أسألْ
لماذا يسكبُ الخلانُ أغنيةً
على رملِ الطريق
ما كان مقهى يا أبي..
والراقصون على الرمالِ بلا غناءٍ يرقصون
أقدامُهم تلك التي أودى بها اللغم الجبان
تموتُ في اللحنِ الغبي بلا عزاء
وأنا أعيدُ الرقص مذبوحاً
فظنَ القومُ أغنيتي الخلاص
قل لي بربك يا أبي
من أين يبتدئ الرحيلُ إلى الرحيلِ ولا مناص
أي الدروبِ إلى البلادِ تعيدنا للدَّارِ
والمقهى
وبئرٌ لم تخنْ دلوَ البنات؟
هل كان مقهى يا أبي ؟
والنارُ أطفأها الجنودُ
وبعثروا صخبَ المساءِ على النواصي..
ما رأوا فستانَ رضوى
فوق أسلاكِ العويل؟
والتينِ والزيتونِ يا وجعَ البداوةِ
زيتُنا .. دمُنا المراقُ على النخيل
قالت سُليم أنا التي...
وأنا التي ...
والعابرون تدرعوا صمما..
وما سمعوا انهمارَ الدَّمعِ من سقفِ البيوت الخاوية
هل كان بيتاً يا أبي؟
كان اشتعالُ الصبرِ في جمرِ التصحُّرِ
رقصةَ الممسوسِ بالوطنِ البعيد
هل كان بيتاً يا أبي؟
في الركنِ ذاك المستريحُ إلى الظلالِ طفولتي
أين الظلالُ وأين رقصُ حصانيه؟
كانت هناك على الجدارِ حقيبتي
خرَّ الجدارُ فهل قرأتَ على الطلولِ كتابيه؟
ما كان بيتا يا أبي؟
ورفات جدي ..
هل سألت الرملَ عن تلك الرفات تفتتت ؟
يا ليتها ردَّت جوابَ سؤاليه؟
أبتي ..
وهذا الشلو بعض مصيبتي
في الفجر هل يوماً تُعيد القُبّراتُ غنائيه؟
لا ديكَ يصدحُ في الصباح
وثلةُ الرقصِ ابتهاجاً غالها القِدْرُ اللعين
هل ذقتُ لحمَ الصَّبرِ
معجوناً بعجزِ الحرفِ عن قول الحقيقةِ للسماء؟
صنفان من وجعٍ وآخرُ مؤلمٌ
فابدأ رحيلك ...
أنت أنت المجرمُ
ضِدَّانِ فيك..
وجنتانِ بصدركَ الرَّملي
نامت في الضلوع جهنمُ
كيف استطعت العيش تركض حاملا
ريح التصحر..
والنخيل مُقَدَّمُ
من يسرقُ النارَ اقتداراً من سماءِ الغاصبين
يبيعها للبحرِ نورا ..
آثم؟
ضِدَّانِ فيكَ...
حمامتان ..
وغصونُ زيتونٍ يحومُ به الرَّصاصُ ويرجمُ
يا أيها البدويُ في الرملِ المؤرّقِ بالرَّحيل إلى متى؟
هل جاء من سبأٍ نبأ ؟
سيفانِ والنَسّر المحلقُ والظنون
ووجهكَ المسروقُ والقتلُ الخطأ
صنفانِ من وجعٍ وآخرُ قاتلُ
والباقياتُ على الثرى أطلالُ ظل
لا محالةَ زائلُ
أضغاثُ أحلامٍ إذا مرَّت بكَت
ويثورُ فينا الحنظلُ
يا حنظله..!!
أنَّى تسيرُ فثمَ جرحٌ في فؤادِكَ يصهلُ
ما كان مقعدك المهدَّمُ سوءة
أو كان في الرَّملِ المُسَجّى المرجلُ
كانت هنا زيتونةً
حُبلى بصمتِ الصَّامدين
وزيتها دمي المؤرخُ للبلاد
فَلِمَ اجتثثتَ الجذرَ
م ز ق ت الرُّؤى
وأنختَ في السَّاحِ العداوةَ والرُّكام؟
***
هل كان مقهى يا أبي؟
وجريدةُ الكذب اللعين تسومُني سوءَ الكلام
وأنا الذي ما خنتُ هذا الرَّمل
قالوا مجرم يأبى السَّلام
أواه يا أبتِ انتبه
سيفانِ في صدري ومن خلفي الجدار
والبحرُ ذاك المستريحُ على دمي
شطٌ .. وما شطٌ كدار
ليس العراءُ مصيبتي
إن المصيبةَ أن نموتَ بلا قرار
إن المصيبةَ أن نموتَ بلا قرار
هذه هي القصيدة التي علا فيها صوت القهر؛ فإنه "لا صَوْتَ يَعلُو فَوْقَ صَوْتِ القَهْر"!
وصوت القهر شنيع فظيع ما في ذلك شك. قد يكون صرخة يتيمة مدوّية، تصك أسماعنا أو تبلغ سويداء قلوبنا، ثم تمضي هي ونمضي نحن حاملين من أثرها بقدر ما نحمل من إنسانية بين جنبينا. لكن صوت القهر في القصيدة هو صوت متطاول متمادٍ، يرسل إلى أعماق (الإنسان) صرخة تلو صرخة؛ فلا نمل سماع هذا الصوت البليغ رغم ما يصوّر من قبح الواقع، ولا نزهد فيه؛ لأن (الشاعر) استطاع إيصاله إلينا عبر قنوات شائقة ومؤثرة هي الإجراءات الفنية التي نهضت عليها القصيدة.
أولا- الغنائية والسردية:
جاءت هذه القصيدة في نفَس غنائي عاطفي تؤازره بنية سردية قصصية، كنموذج يستثمر ما في المحورين (الاستبدالي) و(السياقي) من عناصر متكافئة، ويوظفهما في خلق صراع حيّ بين البنية القصصية والبنية الغنائية، بما يحكم عملية إنتاج الدلالة ويضمن وحدة القصيدة.
(أ) أما من ناحية الغنائية العاطفية؛ فإن القصيدة تصور موقفا عاطفيا صادقا نحو رفح، تتفرع منه عواطف جزيئة متجانسة ومتكاملة تنبع من القهر وتصبّ فيه أيضا؛ فكان كل مقطع هو بمنزلة أفق شعوري يلتحم بالآفاق الشعورية الأخرى، ويخلق للقصيدة جوا انفعاليا متآزرا.
وأما محور الانحراف الاستبدالي؛ فهو سر من أسرار الشعر الحقيقي الذي يجاوز اللغة التقريرية إلى مستوى اللغة الإيحائية. فالخطاب الشعري، في جوهره، يلتزم (مسلكا أسلوبيا) يقوم على (الانحراف) أو على (المخالفة) التي يمثل لها (ريفاتير) بهذه المعادلة:
نسـق أصغـر + مخالفة = مسلك أسلوبي
أما رأوا فستان رضوى فوق أسلاك + العويل = صورة تشبيهية
وعلى هذا المحور جاءت تعبيرات شعرية بليغة على هيئة "نموذج منكسر بعنصر غير متوقع"، وَفق (ريفاتير)؛ مما يخلق فينا الدهشة المثيرة للانفعال والتعاطف. والملاحظ أن معظم هذه الإجراءات الاستبدالية خلقت صورا خيالية معبرة ومؤثرة: "لماذا يسكب الخلان أغنية"، أغنية في وجه السوط والرصاص، أغنية رغم القهر! "والعابرون تدرعوا صمما/ ما سمعوا انهمار الدمع من سقف البيوت الخاوية"! فالصمت رديف القهر، وهو درع تقيك المساءلة. وصوت انهيار السقف استحال دموعا انهمرت لا يستمع إليها أحد؛ فغدَا الصوت دمعا أو غدَا الدمع صوتا في تراسل للحواس مثير للدهشة يكتمل بجعل الصمت حَملا بلا مخاض، يطول ما طال عمر الزيتون، ويتمادى فيغشى الإنسان وسائر الجماد: "كانت هناك زيتونة حُبلى بصمت الصامدين"، والرمال "يا ليتها ردَّت جوابَ سؤاليه"!
وقد يكون الانزياح/ الانحراف الاستبدالي آلية لرسم صورة حقيقية، روعتها في شموليتها ودقة تتبع التفاصيل، فيبرز وجه القهر القبيح ويعلو صوته الأوحد: "فرحا رقصنا ما انتكسنا رغم جرح" القهر البليغ. "وأنا استبقت السوط بالرقص اللعين"! "والراقصون على الرمال بلا غناء يرقصون/ أقدامهم تلك التي أودى بها اللغم اللعين". وهذه المشاهد جميعها تدور حول قُطب التضاد الثنائي: فرحا/ جرح، رقصنا/ انتكسنا، السوط/ الرقص، الغناء/ الصمت، الرقص/ القدم المبتورة. وهذه الثنائيات لون من ألوان (تكنيك التبادل) بين عناصر متناقضة أو متغايرة في دلالتها وتأثيرها الشعوري على القارئ الذي يقف دَهِشا أمام هذه المفارقات المؤلمة نفسيا، الممتعة فنيا!
(ب) قلنا إن القصيدة تقيم علاقة متوترة بين المستوى الاستبدالي الشعري والمستوى القصصي الموضوعي. وتحدثنا عن الأول؛ فكيف جاء المستوى الثاني؟
ليس مطلبا حتميا من قصيدة غنائية أن تُبنى بنية قصصية درامية، يكفي القصيدة أن تقتبس بعض إجراءات السرد القصصي. "والشعر حين يتكئ نسبيًا على هذا المحور (السردي) لا يَسَعُه أن يكون ساذجا ولا بسيطا ولا ذا نغم مفرد وحيد، بل يحاول الإفادة من تقنية القصة الحديثة بعرض أحداث متقطعة متوازية متباعدة في أحيان كثيرة، وعرض مقدمات دون نتائج، أو تركيز صور تدعم النتائج دون التعرض لتفصيلات مسبقة"، غير أن هذه الأحداث الحركية المعتمدة على تكنيك المشاهد المتباعدة نسبيا "يحكمها إيقاع واضح وهدف مركزي متبلور يضمن اتساق تأليفها"، ويضمن أيضا اتساق دلالتها على القهر! (والاقتباسان من صلاح فضل).
وهذه البنية السردية تبرز فيها ثلاثة إجراءات مهمة وحاسمة في أداء الدلالة، وهي:
1- إذا كانت الحكايات الشعبية المألوفة تبدأ بـ(قال الراوي)؛ فإن مطلع قصيدتنا يصنع، مع هذا الاستهلال الحكائي التراثي، تناصا "بإعادة إنتاج السابق بطريقة تصله به وتفصله عنه... (والتناص) وسيلة من الوسائل التي ينفتح بها النص على مراح الدوال الذي لا يمكن أن يكون إلا في اختلافها"، أي اختلاف النص الأول عن النص الجديد، (والاقتباس من جابر عصفور). فكيف بدأ (عماد) الحكاية؟
"سيقول عبد الله"، وهذا الاستهلال المتناص مع (قال الراوي) خالف الموروث وبدأ بحرف يفتح النص على تأويلات عديدة؛ فإن سين الاستقبال يمكن بقوة أن نعدها علامة سيموطيقية، بل مؤشرا سيموطيقيا على وجه الدقة. ويُقصد بالمؤشر إقامة علاقة سببية بين واقعة لغوية وبين شيء تدل عليه هذه الواقعة. فهذا الحرف الصغير يختزل زمنين ويعززهما بثالث؛ فقد قال عبد الله، وما زال يقول، وسيقول، ما دام القهر!
2- تقوم القصيدة على الحوار بين الفتى عبد الله وأبيه، (كاتب هذه السطور)، لكنه حوار من طرف واحد، حوار أعرج يحيلنا على القدم التي أودى بها اللغم اللعين، ويحيلنا على الصمت "معجوناً بعجزِ الحرفِ عن قول الحقيقةِ للسماء"، حوار مع الأب الذي تدرع صَمَمًا مع العابرين. والصمم والصمت معادلان موضوعيان للقهر، فما أقسى صمم الأب وصمته حين البأس!
3- تقمّص الشاعر شخصية عبد الله، وجعله هو الراوي الذي يحكي التفاصيل؛ فيا للعجب، كيف جاءت الوقائع حرفية كأن الشاعر هو الفتى الذى رأى وعاين!
تحدث النص عن الرقص، وألح عليه كثيرا؛ فهل كان (عماد) مع الفتى وهو يرى إحدى جداته ترقص رقصتها البدوية وهي تستمع إلى "انهمار الدمع من سقف البيوت الخاوية"؟ هل كان معه؟ فقد حدث ذلك حقا وصدقا.
وقرينُ الرقصِ الغناءُ، ولقد أسندت عجوزنا تلك رأسها إلى رأس جارتها تغنيان ذاك النواح البدوي الحزين، وآلات الهدم تُفني الحياة! "فلم اجتثثت الجذر؟ م زّ ق ت الرؤى"؟!
أم هل كان (عماد) يشهد تلك الزيتونة الشامخة أمام الدار؟ حين كان الفتى صغيرا كان فيها حبل أرجوحته، وحين شب عن الطوق رآها "حُبلى بصمت الصامدين"؛ حتى إذا دنت منها آلة الموت استقبلتها في خشوع ومهابة؛ فلم تندّ عنها إلا آهة كظيمة حزينة حين كسرت الآلة الصماء صُلبها! هل كان (عماد) مع الفتى؟ فلله دَرّ شاعر أسعفه خياله فعاش الوقائع عن بُعد كأنه يراها رأي العيان!
ثانيا- استحضار التراث:
يعايش (عماد) الصيغ التراثية المستقرة في الوجدان العربي معايشة حميمة، ويتكئ عليها كثيرا لا في هذا النص فحسب، بل في مجمل قصائد (التغريبة السيناوية).
لكنه لا يُعيد هذه الصيغ إعادة من يتذكّر فيدوّن حَرفيا، ولا يستحضر التراث لمجرد الزينة أو الاستعراض الثقافي، ولا يسمح لصياغته أن تكون محاكاة سطحية لما مضى، بل هو يتفاعل مع التراث تفاعلا بنّاء يثريه ويضيف إليه؛ فقد جعل السيف سيفين: "سيفان في صدري ومن خلفي الجدار"! أي قهر هذا!! "وأنا أُعِيْد الرقص مذبوحا"؛ فإن كان الطائر القديم (يرقص فرحا وهو مذبوح)، فهنا إعادة للرقص اللعين واستمرار له. أو يعطي طوفان الماء بعدا آخر: "جاء طوفان الترح"! أو يجعل للأطلال ظلا أو للظل أطلالا: "والباقيات على الثرى أطلال ظل/ لا محالة زائل"! يا للقسوة! لا طلل بقي، و لا حتى ظل طلل!!
في هذا السياق أشعر أن (عمادا) ربما استحضر الصيغ التراثية عشقا لها من جانب، ولتحمل عنه عبء التعبير من جانب آخر: "لا محالة زائل"، والتعبير من بيت (لبيد بن ربيعة). و"عام الرمادة" وهو تعبير مختصر أراح الشاعر وعبر بدقة عما عانت رفح من جوع حقيقي. "والتين والزيتون يا وجع البداوة"!.
وأراه في أحيان أخرى يلجأ إلى ألفاظ التراث عشقا ووَلَعًا بها، ولا أرى غير ذلك: "لا مناص"، "كتابيه"، "القبّرات". ويلح في ذلك إلحاحا متصلا أصبح ظاهرة بارزة في مجموع قصائد (التغريبة)، فما تأويل ذلك؟ هل هو إجراء "يعمّق الحس بالعجز عن مواجهة الأحداث ويطمس إمكانية التغلب عليها"؟ وفق رؤية لصلاح فضل في موقف مشابه؟ أم هو إحساس الشاعر بعجز اللغة المعاصرة أن تفي بمطلوبه؟ أرى كلا الأمرين جائزا.
ثالثا- توظيف الرمز:
يقول عماد: "من يسرق النار اقتدارا من سماء الغاصبين/ يبيعها للبحر نورا/ آثم"؟ وهو هنا يوظّف الأسطورة اليونانية (برومثيوس) الذي تحدّى قهر الآلهة وتعاطف مع البشر المقهورين؛ فسرق لهم النار ومنحهم الدفء والضياء، وهو ما جعل الآلهة تعده آثما. والظروف لا تبيح لنا قولا أكثر!
كما استخدم عماد رمزية "التين والزيتون" و"النخيل"، لكنه لم يوظفها توظيفا فنيا كاشفا عن موقفه، وإن كان عوّض ذلك قليلا بتشبيه معبر: "زيتنا دمنا المراق على النخيل". أما رمزية "حمامتان/ وغصون زيتون يحوم به الرصاص ويرجم"؛ فقد أوحت إيحاء قويا بواسطة هذه الصورة التي جعلت الرصاص يحوم بالغصن بدل الحمائم! و"هل جاء من سبأ نبأ" يقين؟ إن كان نبأ الهدم والرحيل؛ فنعم يا عماد. وإن كان غيره؛ فلعل الهدهد يأتي به ولو بعد حين!
أما رمزية (حنظلة) ذلك الفتى الفلسطيني المطرود من أرضه؛ فهي تعبير حرفي عن حالة الفتى عبد الله. ومع حَرْفيته جاء موحيا إيحاء قويا بحالة الضياع والقهر والرفض الصامت، مشيرا إلى تشابه المآسي، ووحدة الشعور الإنساني.
رابعا - الاختزال:
والاختزال نوع من الصمت. والصمت معادل موضوعي للقهر، قلنا. ولئن كان (عماد) يتكئ على الصيغ الموروثة كثير، إن الاختزال بأنواعه هو سمة تعبيرية تتكرر في قصائد (التغريبة) حتى لقد بات ظاهرة أسلوبية، وهذان عنصران كاشفان عن شدة التجانس في أعماله، وفي ذلك علامة على قدرة الشاعر على رسم عالمه الخاص، وعلى تشربه أدوات فنية بعينها.
والاختزال، عموما، "يلغي الثرثرة التي لا طائل من ورائها، يعود باللغة إلى حالتها الأولى، إيجازها لا إلغازها، إفهامها دون تمددها المادي الكثيف إلى قدر من شعريتها المتمثلة في الإيماء غير المخل إلى أقصى حد". (والاقتباس من صلاح فضل).
يسوق (عماد) الاختزال في صورة الصمت في غير موضع: "والعابرون تدرعوا صمتا"، و"يا ليتها ردت جواب سؤاليه"، و"لا ديك يصدح في الصباح"، و"معجونا بعجز الحرف عن قول الحقيقة للسماء"، و"حبلى بصمت الصامدين". وهذا التكرار آلية تولد الإشباع الدلالي بعمق المأساة!
وقد يأتي الاختزال في صورة (السكوت)، ومنه السكوت المتمثل في قطع الصلة بين الحرف وأخيه، مثل: "م زّ ق ت"؛ فهو من تقنيات القصيدة المعاصرة التي توسّلت بالكتابة؛ فاستغنت عن الصوت المجهور والمهموس معا، معتمدة على جمالية مضادة للإنشاد ومرتكزة على شكل الحروف وتكويناتها المرئية. فهذه الحروف التي تفتـتـت هي منفذ تشكيلي يلفت النظر إلى هذا الاضطراب والتشتت والتمزق الذي خلفه الرحيل. وهو صورة تشكيلية ناجمة عن (انحراف) بصري في شكل الرسم الكتابي المألوف والمتعارف عليه، هذا الانحراف يعبّر عن البعد النفسي لدلالة المفردة المقطعة التي تتسق مع حالة الذات المنتجة التي تعاني؛ بتأثير الرحيل، ألوانا من الألم النفسي ومن التفتت والضياع المؤطّرَين بالقهر والعجز التامّين!
ومن صور السكوت حذف جزء من كلمة، مثل: "سُليم"، وتمامها (سُليمى)، وهو ترخيم يجوز في الشعر دون نداء، ولا يصح في سواه. أو حذف جملة كاملة: "قالت سُليم أنا التي .../ وأنا التي ..."! وهذا السكوت صادر عن جدل عميق في مكنون الذات، بين حركة نفسية مرتاعة تسكنها وبين حالة ساكنة، تألم الذات حين تراها مستهينة بهذه الحالة الإنسانية التي لا تتكرر كثيرا في التاريخ البشري كله! إنه الألم النبيل الذي يستدعي سكوتا يليق به. والسكوت، في حَرَم الألم، أبلغ تعبيرا وأعمق تأثيرا.
وإذا كان لا بد من نهاية؛ فإن النهاية صمت عن محاور كثيرة اشتملت عليها قصيدة تحتاج إلى قراءات وقراءات؛ فشكرا (عماد) على إنسانيتك الباذخة، وفنّك الآسر.

مسعد بدر – شمال سيناء

تعليقات

أعلى