إدريس على بابكر - موازين المعادلة.. قصة قصيرة

كم كنت بهيجآ و سعيدآ بعد مشوار طويل من الكد و الجد، حققت حلم أبي الذي علق آماله قلادة في رقبتي، الابتسامه تضئ وجهه المنكمش بفعل جبروت الحياة لقد تعلمت منه التحدي و المثابرة و الحب، زرعني أبي بذزة في الواقع الصلب و سقتها أمي بحنانها و دموعها بعد تعب السنين هما الان يجنيان الثمار، اهديهما اليوم شهادتي الجامعية بتقدير جيد جدا من ام الجامعات، هي شعلتي التى تضئ ظلام الطريق أمني نفسي ان اعوضهما ما فاتهما في محطات العمر من أحلام شاردة.
حلمي وظيفة ثم التدرج في السلم الوظيفي حتى اغدو كبيرآ و كبيرآ، كنت فخورآ بشهادتي طرقت أبواب التوظيف و المعاينات لكني لم احظي بفرصة واحدة، اتصدمت بواقع كئيب غير صادق بالمرة لم أكن اتخيله لم تكن الوظيفة العامة بالجدارة و الاستحقاق اعاقني متاريس من المحسوبية و المجاملات، كانت إعلان الوظائف صورية في الإعلام بينما المقاعد محجوزة لفئة بعينها إنها مسرحية سخيفة سيئة الإخراج.
اتذكر يوم من الأيام قدمت لوظيفة عند شركة بترولية اجتزت كل الاختبارات المهنية بثقة لم تدوم فرحتي لبضعة دقائق، فاجاني المعين بلهجة فظة إقرأ لنا سورة النساء اندهشت لسؤاله العجيب، قلت له بعفوية تامة ما علاقة السورة الكريمة بالعمل المهني!!، هاج الرجل غاضبآ في وجهي حتى ظننت أنه سوف يخرج مسدسه من جرابه، اسأني بكل وقاحة و اتهمني بالزندقة لم يبقى له شئ إلا أن يهدر دمي أمام الناس، طردني بشر الإهانة و قذف أوراقي في وجهي لملمتها حزينآ و ضاق صدري من الحسرة خرجت مفزوعآ من الباب الضيق، و لكني لن أنسى صورة هذا الرجل المتعالي طيلة حياتي.
منذ ذلك اليوم المشؤوم لم تستهويني اي وظيفة جديدة في بلادي، علقت شهادتي الجامعية على جدران غرفتي تغطيها ذرات الغبار العالقة جوار صورة التخريج التذكارية ركلت أحلامي الوردية و تصالحت مع واقع الحياة، امتهنت بلا استحياء كثيرآ من المهن الهامشية القاسية إلى أن استقر بى المقام بائعآ للخضروات في السوق الشعبي، أقدر تضحيات أسرتي تجاهي لذا اساعدهم بقدر ما اتكسب من قوت يومي الضئيل، كان بعض زبائني البسطاء يسخرون من تعليمي يقولون لي لماذا لم تختصر حياتك مبكرآ و تجلس في السوق لعلي أصبحت تاجرآ كبيرآ، من عادتي اليومية بعد نظافة الفجل و البصل احتسي قهوة الحاجة نفيسة و اطالع صحيفتي المفضلة املأ فراغي بالقراءة لست مثل زملائي الذين يستدرجون الزبائن بأصواتهم المزعجة ثم المجادلة في الأسعار مع النساء الثرثرات، بينما كنت أقلب في صفحات الجريدة متلهف لاقرأ عمود كاتبي المفضل وجدت على غير العادة يحتجب اليوم أدركت إن الغياب القسري لم يكن بإرادته، في الصفحة الداخلية وجدت إعلان مهم شركة خليجية تعلن حوجتها لوظائف شاغرة المعاينة من داخل السفارة، وجدت نفسي مستوصف كل الشروط قلت في نفسي إذآ احاول اجرب حظي العاثر هذه الفرصة ليست مثل السابقات، ذهبت مبكرآ في نفس الزمان والمكان المحددين، وجدت جيوش من الشباب أكاد أجزم هنالك من قضى ليلته جوار أبواب السفارة إلتوي الطابور مثل الثعبان، رغم اني قدمت أوراقي اعتمادي تسلل اليأس إلى قلبي من كثرة المتقدمين.
عدت إلى عملي في السوق الشعبي للوجوه المألوفة و التفاصيل الرتيبة و الايام المملة مع مشاغبات الأطفال المشردين تسكع النشالين و فوضى الشحاذين، بعد شهر و ما يزيد هاتفتني السكرتيرة بخبر سعيد لم أكن اتوقعه تم قبولي على أن احضر لإكمال الإجراءات، اسأل نفسي من أين أتى بأموال الفيزا و التذاكر و انا فقير معدم، عند عودتي إلى البيت وجدت أبي وحيدآ كانت أمي في مناسبة اجتماعية لإحدى قريباتها، وقع الخبر بردآ و سلامآ على أبي وعدني بأنه سوف يجتهد لتوفير المبلغ المطلوب، حاول جاهدآ أن يستدين من أقاربه المقتدرين لكن كانت الأنانية مسيطرة على قراراتهم أغلقوا كل أبواب العشم، اقترب الموعد و فرصتي تتقلص شئيآ فشيئاً، فكر أبي جديآ في بيع منزلنا المتواضع و أن نسكن بالايجار بعدها يأتي الفرج، قال لي بأنه سوف يخبر أمي بذلك بعد عودتها، كنت حزينآ لمنزلنا الذي احتوي كل عمرنا بدفء و سكينة اقترب لنفارقه مجبورين في لحظة حرجة من حياتنا.
عادت أمي من المناسبة الاجتماعية أول ما عرفت الخبر أطلقت زغرودة طويلة ايقظت فينا التفاؤل،قالت بحنية (الحل يا ولدي في يدي)
في الصباح أحضرت أمي اساويرها الذهبية هي ما تبقى من ذكرى جميلة لتضحيات الحب النبيل، لقد كانت أمي جميلة في شبابها أنفق أبي كل ما عنده ليتزوجها قبل أن يضربه عواصف و زحف الفلس ادخرتها كل هذه السنين لتسد بها وقت الحوجة.
باعت أمي كل ما تملك من ذهب و بخيره أكملت إجراءتي، ستفت حقيبتي للسفر و ودعتهما بالدموع و الاشواق، قررت أن اسافر بالسفينة لأنها أقل تكلفة من الطيران، حطيت عند مدينة عروسة البحر الأحمر في فندق فخيم مع مغتربين كان جل ونساتهم أعلى من واقعي المعتاد لشاب مثلي يتحسس خطاه نحو المستقبل، كنت لا احب الجلوس معهم يجذبني رجل عجوز من ملامح وجه المتجاعد يبدو فقيرآ، التقيه في باحة الفندق يسقي الأزهار و ينظف الحشائش يرق قلبي إليه حينما نحتسي الشاي سويآ يحدثني عن مغامرته و معاناته في شبابه احب أن اتصدق له ببعض المال فيرفضه بأدب جم و قناعة، عندما حان أوان مغادرة الفندق ذهبت لكي ادفع حسابي ثم أودع صديقي الجميل ايام معدودة ترك اثرآ عميقآ عندي، المفاجأة وجدت شخص ما دفع لي نصف ثمن الإقامة كما قال لي المحاسب، قلت له مندهشآ و من الذي دفع نصف الفاتورة!! أشار إلى الرجل العجوز انه صاحب الفندق ودعته مبهورآ فازداد احترامي لحسن لتواضعه.
افتقدت في الغربة همس أمي و صوت أبي و هو يرتل القرآن الكريم، منذ قدومي ازداد أرباح الشركة بصورة خيالية سريعآ ما نلت ثقتها جزاء نزاهتي ارتفع سقف راتبي و تغير حالي و حال أسرتي أفضل من ما كان.
عامان من الغربة بعدها نلت إجازتي السنوية غمرني الشوق و الحنين إلى بلدي و أهلي، أول ما خرجت من صالة الإنتظار وجدت عائلتى في إنتظاري استقبلوني بنشوة و بفرح طاغي، في البيت تدفق الضيوف وجدت كثير من الأحوال تغيرت في الحارة حمزة جارنا باع منزله و هاجر إلى الأقاليم، بعد أيام لاحظت منزل حمزة يسكن فيه إمرأة شابة جميلة سمراء البشرة مع أطفالها الصغار، اعتقدت زوجها مغترب أو ضابط شرطة أو ما شابه من المهن التي تسرقك من حضن العائلة، حكت لي امي عن قصتها بأن زوجها كان في عصمته ثلاثة زوجات غيرها طلبن الطلاق لم يتقبلن تغير الظروف، هو الآن قابع في السجن المركزي بسبب مضاربات و صفقات خاسرة، كانوا في أرقى أحياء العاصمة اجبرتهم الظروف أن يقطنوا في الحي الشعبي، في البد كانوا يستحون من وضعهم المادي و لكن مع مرور الوقت ذابوا مع تفاعلات الحي الشعبي فنسوا بعض من مشاكلهم الخاصة.
في يوم ما الحت على أمي أن نزور زوج جارتنا في السجن بطبعي لا أرفض لها طلبآ، ادرت سيارتي و امتطوا معي امي و جارتنا و أولادها الخمسة، في السجن عرفتني أمي به فهي متعودة لزيارته بحق الجيرة، قالت له هذا ولدي المغترب تبادلنا السلام و التحايا تمعنت في وجهه بدقة يا إلهي أنه ذلك الرجل المتعالي الذي قذف بأوراقي عند المعاينة، لمسات الفلس و المرض غيرا ملامح وجه متأكد انه لا يتذكرني، لم اضمر له في قلبي الكراهية أو أخبر أمي بذلك، أخرجت من محفظتي بضعة نقود دسيتهم بمقبضي في كفه فقبل الهدية شاكرآ، تعلمت درس في حياتي من أبي إن الكراهية و الانتقام لا يبنيان الأوطان.
(تمت)
إدريس على بابكر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى