محمد علي عزب - الرومانسية.. مذهب شعرى وطابع وجدانى

نشأت الرومانسية كحركة فكرية أثرت على الفنون والآداب والمسرح فى فرنسا فى أواخر القرن الثامن عشر, ثم انتقلت بعد ذلك اٍلى باقى دول أوروبا ثم باقى دول العالم, وارتبطت االرومانسية بالشعر ارتباطا كبيرا لأنها تمجد الذاتية والخيال والمثالية والحب والعاطفة الجياشة والنزعة التشاؤمية واعتبار أن الشعر والأدب تدفق تلقائى يعبر عن شخصية الشاعر, والعودة اٍلى الطبيعة لأنها مصدر النقاء والفطرة, وليس صحيحا ( أن الرومانسية هى مخاصمة للواقع ومصالحة للأحلام )1 ولكن الرومانسية تسعى اٍلى تثوير الواقع بالحلم فالرومانسيون كانوا أبناء الثورة الفرنسية 1789م, وفى شعرنا العربى نجد سمة تثوير الواقع بالحلم متحققة فى شعر أبى القاسم الشابى "1909م ـ 1934م", ولاننسى مطلع قصيدة "اٍرادة الحياة" للشابى الذى ردده الثوار فى الميادين أثناء ثورات الربيع العربى فى مصر وتونس :
اٍذا الشعب يوما أراد الحياه فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلى ولا بد للقيد أن ينكسر
وأول من أطلق مقولة أن المقابلة بين الرومانسية والكلاسيكية هى المقابلة بين شعر العصر القديم والشعر الحديث هو الناقد الألمانى "أوجست شليجل" فى اٍحدى محاضراته سنة 1801م (2), فالكلاسيكيون كانوا يرون أن النموذج التراثى نموذجا مثاليا, ولذلك اتجهوا للماضى واستخداموا أساليبه الفنية والجمالية, أمّا الرومانسيون فاتجهوا اٍلى استبطان الذات والخيال والعفوية, تجنبوا رصانة وجزالة اللفظ والتأنُّق اللغوى, وكان الشاعر الرومانسى مثاليا يري أنه ضحية فى هذا العالم, وكانت الاتفعالات الحادة سمة من سمات الشاعر الرومانسى المثالى البرئ وقد عُرفت الرومانسية فى شعرنا العربى فى العقد الثانى من القرن العشرين وتجلت الرومانسيية العربية فى ثلاث جماعات شعرية هى جماعة الديوان وممثلوها العقاد والمازنى وعبد الرحمن شكرى وتأثرت بالرومانسيية الاٍنجليزية عند شعراء الاٍنجليز "شيلى" و"كيتس" و"وردزورث", وجماعة أبوللو وقد تأثرت بالرومانسية الفرنسية عند ومثلها أحمد زكى أبو شادى واٍبراهيم ناجى وعلى محمود طه وأبو القاسم الشابى رائد ممثلى الرومانسية الثورية فى الشعر العربى, ومحمود حسن اسماعيل رائد ممثلى التوجه الرومانسى بالعودة اٍلى الطبيعة والاشتباك بها فى شعرنا العربى, والجماعة الثالثة هى جماعة المهجر الذى يعد مطران الأب الروحى لها وقد ضمت هذه الجماعة ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأيليا أبوماضى الذى تعد قصائده من أقوى القصائد االعربية التى تجسد البعد المثالى والتسامح والنبل فى الشعر الرومانسى العربى, حيث يقول اٍيليا أبو ماضى فى قصيدة بعنوان "الشاعر":
عندما أبدعَ هذا الكونَ ربُّ العالمينا
ورأى كل الذى فيه جميلا وثمينا
خلقَ الشاعِرَ كى يخلقَ للناس عيونا
تبصر الحسنَ وتهواهُ حراكا وسكونا
وزمانا ومكانا وشخوصا وشؤونا
وترينا الطُهر حتى فى الجناةِ الآثمينا
وفى بداية القرن العشرين قامت ثورة على الرومانسية فى أوروبا دعت اٍلى محاربة التلقائية والعفوية المطلقة, وطالبت بالربط بين التلقائية والاٍرادة الواعية وقد عُرف هذا التوجه باسم "الرومانسية الجديدة" واعتبر البعض أنها أحد فروع الحداثة التى قامت فى جوهرها على الوعى الروحى والفكرى بالذات ومتغيرات العصر والواقع فلم الشاعر ضحية لا ذنب لها يعبر بعفوية وانفعال حاد عن حزنه ومشاعره الدفينه, بل أصبح الشاعر الحداثى جزء لا يتجزء من هذا العالم يمتلك وعيا به وبالذات والآخر .
وبالرغم من أن الرومانسية فى عصرنا أصبحت مدرسة شعرية تنتمى للماضى, فلم تعد الشعرية المعاصرة تنظر للشعر على أنه تعبير مباشر عن شخصية الشاعر, ولم تعد العفوية والتلقائية والمثالية المفرطة من لوازم الشعر المعاصر, اٍلاّ أن الجانب الوجدانى للرومانسية والذى يتمثل فى العاطفة الجيّاشة والحب والذاتية سيظل مرتبطا بالشعر فى كل العصور, بل أن الرومانسية انتقلت من مجال الشعر والأدب اٍلى مجال الحياة العامة, وأصبحت مصطلحا حياتيا يشير اٍلى كل ما هو عاطفى ومثالى .




________________________________________________


1ـ معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ـ عرض وتقديم وترجمة د . سعيد علوش ـ دار الكتاب اللبنانى ـ بيروت 1985م ص 107
2ـ رينيه ويلك ـ مفاهيم أدبية ـ ترجمة د.محمد عصفور ـ عالم المعرفة العدد 110 ـ الكويت فبراير 1987 ص 66
مقتطف من الفصل الأول من كتابى النقدى "مقاربة مفهومية فى مصطلحات شعرية معاصرة" ـ قيد الكتابة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى