نزار حسين راشد - ظلال الزمن

عائدٌ إلى قريتي، أو ما كنت أظنها قريتي، تغيرت أشياء كثيرة، تلتقطها العين للوهلة الأولى، شوارع جديدة واسعة، محلّات فخمة بواجهات لامعة، توقّفت أمام أحدها لأشتري شيئاً للعائلة فلم أحضر معي أية هدية، تثاقلاً من حملها كُلّ تلك المسافة، شدّ انتباهي حصانٌ وحيد مربوط إلى عامود كهرباء، يقف بجانبه فتىً يافع، مشهدٌ طمأنني أن أنفاس القرية لا تزال حائمة في الهواء، على الرغم من كل ذاك التأنق، الذي يتعب في اصطناعه أهل الأرباف ليقفوا على قدمٍ واحدة مع أهل المدن، توقّفت مخاطباً الفتى، ومتنسّماً رائحة الحصان لأبعث في روحي ذكرياتٍ هجعت منذ زمنٍ بعيد في ركنٍ منسي، وأستعيد تلك الحميمية الضائعة!
-ما شاء الله عن هالحصان!
ثنى ساعده وهو يخفي ضحكاته في كُمّه،مُتستّراً على جهلي،وحتى لا يحرج هذا الرجل المديني المتأنّق،وأخيراً نطق على استحياء:
-هذه فرس يا صديقي وليست حصاناً! واستدرك:بعد إذنك يعني!
وحين جلجلت ضحكتي في الفضاء الصّامت الذي يُغلّف بكور الصّباح،ترخّص في محادثتي،ربما رفعاً للكلفة،ولينصب لي فخّاً لمجاراته في الحديث،ربما ليشبع فضوله بخصوص هذا الغريب الوافد من لجاجات المدن،فأشار إلى حسناء عابرة محصنّة بثوب سابل ووشاح رأس كشف خصلة أمامية من شعرها،لمعت بلون كستنائي برّاق وكأنه شعّة ضوء تخطف غفلة العيون التي لا تزال مخمّرةً بنعاس الصّباح:
- هذه أيضاً فرس يا سيدي إذا كنت مغرماً بالأفراس!
عقّب مثنيّاً على ضحكتي!
-ابنة من هذه من أهالي القرية؟
- بل قل زوجة من؟
مثلها لا يمكث طويلاً على رصيف الإنتظار!
بل سرعان ما يخطفها صاحب النّصيب!
أنت ضيف على من من أهل قريتنا..بلا ثقالة يعني للسؤال!
- أنا لست غريباً! انا الدكتور يونس ابن الحاج فؤاد ولكني لم أخبر احداً بقدومي..أردت ان أدخل القرية على حين غفلة من أهلها!
- ما شاء الله حافظ للقرآن كمان..طيّب كمّل معروفك وقل لي،من أي سورة هذه من سور القرآن..
متردّداً أجبت: طه على ما أعتقد!
- لا يا صديقي..هذه من سورة القصص..طيب فمن أي سورة آية:فأصبح في المدينة خائفاً يترقّب!
- من سورة النمل ربما!
- لا يا صديقي..إنها من نفس السورة "القصص"،ولكن هل بإمكانك أن تخبرني لماذا قال المدينة هنا وهناك قال القرية والمكان هو نفسه؟
تراوح ذهني في حيرته محاولاً العثور على إجابة تنقذ كبريائي اأمام هذا الشاب المتحاذق ولكني أخيراً أعلنت مستسلماً : لا أعرف!
هزّ الشاب رأسه في أسف:
- لا غرابة !
فقد سألت هذا السؤال لأكثر من مائة شخص حتى الآن بين مُتعلّمٍ وغير متعلّم،ولم يجبني أحد،حتى المتعالمين الذين يبتدعون لك إجابات مرتجلة من قدحات رؤوسهم لم يتجرّأوا على ارتجال إجابة!
كنا قد قطعنا مسافة باتجاه بيتنا وهو يقود الفرس ملازماً جانبي،حتى وصلنا أخيراً لنفاجأ بوالدي على الباب وكأنه كان واقفاً لا ستقبالي..وعلّق الشاب:
- إنه قلب الأب ..إياك أن تعتقد أنها محض صدفة.
عانقني والدي واحتضنني بذراعين مفتوحتين وأسارير منفرجة،ثم نظر إلى الشاب من زاوية عينه وعلّق:
- وقعت في براثن حسن،هل حللت اللغز الذي ألقاه عليك!
- للأسف يا والدي..لم أفلح..يبدو أنه الشاطر حسن مش حسن بس!
رفض حسن دعوة والدي للدخول،ونبّهني وهو يصعد إلى ظهر الحصان:
- فكّر فيها يا دكتور..ربما يفتح الله عليك ويشفي غليلي وأرتاح على يديك!
قضيت ما تبقى من يومي ساهماً مما أثار استغراب أمي وإخوتي،وآويت إلى مضجعي باكراً متعذّراً بالتعب وفي الحقيقة كنت أريد الإنفراد بنفسي وإمعان التفكير وتقليب الذهن لعلي أعثر على إجابة لسؤال الشاطر حسن،وتقلّبت في فراشي وقلقت ولم أنم،حتى إذا أصبح الصباح وظهر بنوره ولاح،تذكرت أن اللفظتين وردتا في سورة يوسف أيضاً،فأسرعت إلى المصحف واختطفته مقلّباً صفحاته وقرأت في الموضعين: واسأل القرية التي كنا فيها!
وقال نسوة في المدينة!
ثم تذكّرت قول فرعون في سورة الأعراف:
إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها!
وتنبه ذهني في صفاء الصباح اأنّ لفظ المدينة يأتي في سياق الحديث عن الناس والمجتمع!
أما لفظ القرية فيأتي متعلّقاً بالمكان!
ارتحت لهذا الإستنتاج،فأويت إلى مخدعي ونمت نوماً عميقاً طويلاً،وحين أتوا لإيقاظي بعد أن تجاوزت الساعة الظهيرة،كان أول ما نطقتٌ به بعد أن فتحتٌ عيني موجهّاً السؤال لأخي الصغير:
- هل تعرف بيت حسن صاحب الفرس في هذه القرية؟
لوى أخي شفتيه ومصمص فمه وقال في تأسٍّ:
- علومك قديمة يا اخوي! قريتنا لم تعد قرية،لقد أصبحت مدينة عامرة بأهلها،والوحيد الذي لا يزال يفكّر مثلك هو حسن ولذا لا يزال يحتفظ بفرسه ويرفض أن يبيعها بأي ثمن تناول إفطارك أولاً وسأذهب لأدعوه لك!
قلت لأخي: أخّر الإفطار قليلاً ريثما أصلي ركعتين!
حضرت أمي بصينية الإفطار ونطقت عيناها بالدهشة وهي تراني مستغرقاً في الصلاة وأرتل بصوتٍ جهير:
واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها!
وضعت الصينية جانباً وجلست تتأمّلني بعينين حانيتين وأنا مستغرق في الصلاة مترنّماً بآيات القرآن في خشوعٍ يبثّ السكينة في جوارح كل من يصغي إليه ويسمو به إلى سماء لم ترق إليها حواسه من قبل.
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى