وليد الهودلي - أَجنحة السَّحَر.. قصة قصيرة

كان عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) إذا أتى إلى المدينة أناس من أهل اليمن، ذهب إليهم وسألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ عدة سنوات وهو يسأل عن هذا الرجل! ماذا يريد منه؟! ومن يكون هذا الذي أخذ من أمير المؤمنين كل هذا الاهتمام؟!
كان أمداد أهل اليمن يتوافدون إلى المدينة، وكانوا يمدّون ويرفدون المسلمين في جهادهم بالأعوان والأنصار، وعمر لا يملّ ولا يكلّ كلما سمع بمدد آتٍ من اليمن، سار إليهم وسأل عن: أويس بن عامر.
ذات يوم أتى هذا الرجل إلى المدينة، كان يوماً تبدو عليه تباشير الخير والبركة، هبّت نسائم ربيعية عطّرت المدينة بشذى قافلة أتت من عمق فيافي اليمن السعيد، انتشر خبرها مع إشراقة شمس أزهرت لها المدينة، وكأنها زهرة تتفتّح على ترانيم الصباح، الهدوء والسكينة يبسطان ظلالهما في القلوب، كما تبسط على المكان فتزيده روعة إلى روعته، الناس تمشي جذلة إلى أسواقها ومزارعها، الأطفال يمرحون ويلعبون وينثرون السعادة بكلّ ألوانها، تنبعث الحياة في هذه المدينة الطيبة بعد أن يتنفس الصباح، تنتهي صلاة الفجر فينتشر الناس ويُبعثون من بيوتهم إلى أشغالهم، هنا مركز النور والخير والرّشاد في عالم ليس فيه إلا الظلمات وعبادة العباد وضيق الدنيا وجَوْرِ الأديان، من هذه المدينة الوادعة الجميلة أرادوا أن يُغيّروا العالم ويفتحوا في سِفر البشرية صفحات مشرقة سعيدة، من هنا انطلق النور ليبدّد كل الظلمات، من روعة هذه القلوب العامرة بمعرفة الله انطلق نور السماوات والأرض.
في هذا اليوم الجميل الصافي من كلّ كدر وشائبة، بعد أن استقر الجمال كلّه مع روعة هذا الدين العظيم، وبعد أن أقام العدل أركانه وسار ظلّاً ظليلاً تفيّأه الناس أجمعين، اقترب عمر من أن يجد هذا الرجل الذي يطارده منذ عدة سنوات، بعد أن أعيته السنوات، كان لا بدّ من أن يصل إلى نصيب المجتهد، وفّقه المولى للوصول إلى أويس، أخيراً وصل إلى ضالّته، وصل إلى منشوده الهامّ والخطير:
- أنت أويس بن عامر؟!
- نعم أنا أويس بن عامر.
- أنت من مراد ثم من قرن؟
- نعم.
احتار الرجل في أمره، التفت يميناً وشمالاً لعلّ هناك رجلاً آخر يقصده أمير المؤمنين، لم يكن غيره، كاد يذوب في ثوبه، تمنّى لو تنشق الأرض وتبتلعه: "إني أقف في حضرة أمير المؤمنين عمر ليس بيني وبينه أي حجاب، يسأل عنّي وعن نسبي، يعرفني بدقّة، ماذا يريد؟ لم أرتكب محظوراً ولم أفعل شيئاً يستدعي كل هذا الاهتمام؟ وممّن تأتيني هذه المساءلة؟ ليتها كانت من مأمور أو عامل من عمّال أمير المؤمنين! أمّا أن تأتي مباشرة من أعلى مستوى في الخلافة الإسلامية الراشدة، هكذا دفعة واحدة؟!
"وسار عمر خطوات متقدّمة في سبر غور أحوالي وأوضاعي، وكأنه كان على وحي مباشر لكل تفاصيل حياتي، سأل عن شيء لا يكاد يعرفه عنّي جيراني في اليمن، فلا أدري من أعلمه به: "
- كان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟
- نعم هذا صحيح. "حتى هذه التي لم أُطلِع عليها أحداً يعرفها عنّي أمير المؤمنين"
- كانت لك والدة كنتَ بارّاً بها؟
- نعم.
أشرق وجه عمر وامتلأ فرحاً، كأنّما فُتِحَتْ له الدنيا بأسرها، لم يترك عمر الرجل في حيرته طويلاً، سرعان ما أوضح له الأمر، قال: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر من أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة وهو بها برّ، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"
" صمت برهة ثم أردف برجاء وتحبّب:"
- استغفر لي.
" اقشعّرّ جلده وذاب قلبه في صدره، تفصّد عرقاً ووقف مشدوهاً، زاغت عيناه، لا شكّ بأن أمير المؤمنين يقول الصدق ولا مجال للمزاح في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلّم)، رسول الله يذكرني بوصفي الدقيق، ما هذا الفضل الذي وصلت إليه يا أويس"؟
تجمّد لسانه في حلقه، تشجّع واستجاب للأمر: فاستغفر له."
"يا إلهي، هذا الذي يريده عمر أن يستغفر له، سنوات من البحث والتقصّي كي يستغفر له، ثمّ هل يحتاج عمر لاستغفار أويس؟! عمر صاحب رسول الله، يملك رصيداً ضخماً من الأعمال الخالدة في خدمة الإسلام، كانت لبناته واضحة، قوية، عظيمة الأثر في بناء صرح الإسلام، وافق الوحي في كثير من المواقف، رأى في المنام الأذان فاُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له رأيٌ آخر غير رأي صحابة رسول الله وأبي بكر في أسرى بدر، فنزل الوحي يؤيد رأي عمر، كان صاحب فكرة التأريخ الهجري، هاجر علانية متحديّاً قريش بكلّ جبروتها وطغيانها على خلاف كلّ من سبقه، شهد الغزوات كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مواقف عظيمة شهدتها الدعوة الإسلامية وسجَّلتها لعمر يضيق لها المجال، وكان له المكانة المميّزة عند رسول الله، هذا رسول الله يقول لعمر بعد أن استأذنه لأداء العمرة :
- لا تنسَنا يا أخيّ من دعائك، كلمة تسرّ عمر أكثر مما لو أن له بالدنيا بأسرها.
أعظم خلق الله يطلب الدعاء من عمر ويتحبّب له، ثم يأتي ليسأل عن رجل مغمور لا يُأبه به ولا يعرفه أحد، ويطلب منه الاستغفار له.
عمر بكل ما يحمل من تاريخ ومواقف وصحبة لرسول الله ومكانة مميَّزة يبحث عن رجل من التابعين كي يستغفر له، لا ريب إنه من رجال هذه الآية الكريمة: " يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة". أو من أولئك الربيّين الذين ساروا مع الأنبياء، انحازوا إليهم وقاتلوا معهم دون أن يصيبهم وهن أو ضعف أو استكانة وكانوا من الصابرين الراسخين، ومع هذا كله لم يتعدّ قولهم: "ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"
إنه التواضع الذي تنتجه العبودية الخالصة لله، عبودية تزيدهم عبودية لله وتحرّرهم ممن سواه، إخلاص يعمِّق إخلاصهم وبهذا ارتفعوا عند الله وارتفعت أعمالهم وأثارهم، بهذا حفظهم التاريخ ووضعهم في أعماق قلبه وأسدل عليهم جفونه، منه انطلقت هذه العبارة العظيمة التي انتصر بها لحق أنسان ظُلم من إنسان آخر، ولو كان الأوّل قبطياً والثاني ابن الوالي على مصر عمرو بن العاص، حينها قال المقولة العظيمة التي وصلت كلّ آفاق الدنيا: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". رجال صنعوا التاريخ بهذه الأخلاق التي تبدو بسيطة ولكنها عظيمة، هذه عظمتها عندما ترى غيرهم من الناس يعملون عملاً فيرفعونه على رايات نفوسهم، يتعالون به على الناس ويرون أن لهم حقوقاً لا تكون لغيرهم، على عكس الآية الكريمة: يؤتون ما آتوا وقلوبهم معجبة، متباهية، مغرورة، يشعرون بأن لهم دالَّة على الله وعلى الناس.
ولكنّ عندما يطلب عمر من أويس أن يستغفر له، ألا يستغفر عمر لنفسه؟ بالتأكيد هو من خير المستغفرين، ألا تشفع له مكانته عند الله فيُقبل استغفاره، ولكنّ عمر لا يضمن هذا، عمر لا يأمن مكر الله، لا يقتنع بمكانته وفضله، سمعه بعض الناس مختلياً بنفسه يضربها بالدرَّة ويقول لها موبِّخاً: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ، بخٍ."
وكان يقول مخاطباً نفسه ومؤدباً لها، ليتني كنت تبناً، ليتني كنت تراباً، ليت أم عمر لم تلد عمر، كان يريد أن يخرج منها سالماً، أن يُزحزح عن النار وهذا حسبه، وهو في سبيل هذا بحاجة لأي معروف، بحاجة إلى أي عمل يعود عليه بالأجر مهما بلغ ولو كان مثقال ذرّة، قد يقف بين يدي الله فتستوي كفة حسناته مع كفة سيئاته، من أين سيأتـي حينها بالحسنة المرجِّحة؟ إنه يجد أي عمل فيه خير فرصته في النجاة مهما كان صغيراً فما بالك باستغفار أويس؟ إنه ينفِّذ وصية رسول الله بكل حرص، إذا كان حريصاً على الفرص الصغيرة فما بالنا بهذه الفرصة العظيمة؟ قد تبدو صغيرة في نظرنا ولكنّها في نظره كبيرة، بل كبيرة جداً، قد يضعها عمر في كفّة ويضع كل أعماله في كفّة أخرى، إنها فرصته مع الفقراء، مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا يريدون شيئاً آخر سوى هذا الذي وقر في قلوبهم.
إنّها مدرسة السورة الكريمة "عبس وتولى" التي تُنزل الناس منازلهم، ابن أُمّ مكتوم عند الله هو أثقل وزناً من كلّ سادة قريش الذين بقوا في غيّهم وباطلهم، الأعمى الذي جاء يسعى طالباً للحقّ خير من أبي جهل بكل جاهه وسلطانه، هذه العبسة الخفيفة التي لم يرها ابن أُمّ مكتوم لأنه أعمى ( وكان من حكمة القصة أن يكون أعمى وهذا أبلغ في العبرة لو كان بصيراً ) وكانت من الممكن أن تمضي عابرة ولا يلتفت إليها أحد، ولكن الله يريد لها أن تكون درساً عظيماً في إنزال الناس أوزانهم الحقيقية، رآها الله السميع البصير فأنزل بها قرآناً يتلى على مرّ الدهور والعصور لتكون عبرة لكل البشر. عمر يقرّب من يقرِّبهم الله، يسير وفق معادلة سماوية، يحبّ من يحبّهم مولاه، يصبُّ كل اهتمامه عند أهل الله خاصة أولئك الأتقياء الأغنياء الأخفياء، أولئك الذين لا يزنون عند البشر جناح بعوضة خير وأعظم وزناً من أصحاب المقامات العالية عند الناس ولكنهم لا يزنون عند الله جناح بعوضة.
سأله عمر: أين تريد؟
قال أويس بعد أن أنتبه من ترانيم شكره لله، على هذا الفضل العظيم.
- أُريد الكوفة.
قال عمر:
- ألا أكتب لك إلى عاملها؟
هزّته هذه الكلمة من أعماقه، نظر في نفسه وقال لها : " هذه الطامة الكبرى يا أويس، ابقَ على حالك غنيّاً خفيّاً لا يعرف بك أحد، احذر مَواطنَ الشهرة والرياء والجاه والسلطان، لم يرفعني سوى فضل الله ثم إخلاص العمل في الخفاء بعيداً عن أضواء الشهرة والرياء، لا تركن إلى رفع الناس فإنه مدعاة لك للنزول والسقوط في هاوية الفتن، " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" كم من إنسان نجح في ابتلاء الفقر والخفاء ولكنه سقط في ابتلاء الغنى والشهرة والعافية، كنت برّاً بوالدتي ولا يعرف بذلك عنّي أحد، وكنت مريضاً فشافاني الله من مرضي، أكرمني الله بما أخبر عني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، هذا خير كثير وفضل عند الله عظيم، ألوذ بعبودية خالصة، فأشكر الله فيها بعيداً عن أعين الناس وطلب الجاه والسلطان خير لي وأفضل".
ردَّ أويس بقلب مطمئن دون أدنى تردد أو تلكؤ، واثق بأنه لم يضيّع فرصة ولم يختر إلا الأفضل لدينه ودنياه:
- أكون في غبراء الناس أحبُّ إليّ.
"هكذا اختار أن يكون عبداً تقياً خفياً، يعمل في السرّ وبصمت، جنديّاً مجهولاً من أهل العمل وليس من أهل القول، كثير من الناس يقولون ما لا يفعلون، ومنهم من يفعلون الكثير ولا يُخلصون إلا بالقليل، عمل بإتقان وإخلاص رفعه إلى هذه الدرجة العالية، وأي عمل؟ برَّ أمه، أيّ منزلة تحتلها الأم في هذا المجتمع؟! أليست الجنَّة تحت أقدام الأمهات، أرى أن المنزلة الأعلى والأجلّ في هذا المجتمع ليست لأحد يفوق ما هي عليه الأمّ.
رسول الله وخليفته عمر والمسلمون من حولهم يوقِّرون هذا الرجل؟ لأنه كان بارّاً بأمّه، فكيف بهم مع أُمهاتهم؟ إذا كان الرجل الذي يبرُّ أمّه يحظى بكل هذا التقدير ويتبوأ هذه المنزلة فما بالنا بأُمهاتنا نحن؟ أين نضعهنّ؟ على أي درجة من البرّ نرتفع إليها معهنّ؟
- أكون في غبراء الناس أحبّ إليّ.
" خيار يختاره بكلّ هدوء وطمأنينة، هكذا هو يستغني عن الناس وعن الحاجة لعمر أو والي عمر في الكوفة؟ يستغني بماذا؟ بهذا الاستغفار الذي فاض به على غيره، أغنى نفسه به وصار مصدراً لغيره بأن يستغفر لهم، كيف هذا؟ أين سرّ هذا الاستغفار العظيم؟ ألم يجعل المولى فيه كل أنواع النعم والعطاء: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)} [ نوح]
إذا به تُفتح كلّ أبواب الرزق المادّي والمعنوي، الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، أنهار الخير كلها تجري من تحت الاستغفار: أن يتواضع الانسان لربه ويطلب المغفرة ويكون لديه الاستعداد الكامل للتخلّي عن كل ظلم وفساد وطغيان وانحراف وتقصير يحول بينه وبين هذه المغفرة، وبالتالي تحقيق الصّلاح والسعادة والنجاح والفلاح الذي يسع الدنيا والاخرة.
أويس يستغني بالاستغفار عن التوجّه للبشر وفقد ماء الوجه أو أن يكون اليد السّفلى ولو كان ذلك من أعدل حاكم عرفه البشر، ولو كان ذلك أمير المؤمنين عمر الذي ما عرف بالعدل مثله بعد رسول الله سيد البشر، أويس بلغه حديث رسول الله: "من لزم الاستغفار... فلزمه ليرى كيف تجري على يديه نتائج هذا اللزوم العظيمة: جعل الله من كلّ ضيق مخرجاً ومن كل همّ فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب" فلا ضيق ولا همّ ولا خوف على الرزق أبداً إذا لزم الاستغفار، ما حاجته بعد ذلك لأن يوصي له عمر عامله على الكوفة؟ رجل بهذا اليقين غارق في الاستغفار، قد حيزت له الدنيا وما فيها وقد كان من قبل هناك عاكف على برّ أُمه في دهاليز اليمن، لقد ملك مفاتيح الخير كلّه: برّ أمه والاستغفار فصلح له أمر الدنيا والآخرة.
مع هذا فقد أراد عمر (رضي الله عنه) أن يرفع من شأن أويس أن يكتب إلى عامل الكوفة توصيةً بهذا الخصوص، قال في نفسه : "ها أنا قد ظفرت توفيقاً من الله بوصية رسول الله في شأن أويس القرنيّ، أحمدك ربّي على ما أنعمت عليّ، وصلت إلى استغفار رجل لو أقسم على الله لأبرّه، ولكن عليّ بأن أجعل من هذا درساً للناس، وهو أنّ على الحاكم أن يرفع صاحب العمل والخلق الطيب ويوليه الاهتمام وبذلك ترتفع الفضيلة والقيم الرفيعة في نفوس الناس فيكون السّباق في هذه الميادين، إن الحاكم الذي يرفع على أساس المال والجاه المزيّف من حسب ونسب رغم فساد العقل والرأي والخلق والدين، إنّما هو يرفع الرذيلة ويحطّ من شأن الفضيلة، أراد عمر أن يرفع هذا الرجل لأنه يعمل بصمت، يتّقي الله في أُمّه فيبرّها وقت ضعفها ويقوم على خدمتها على أكمل وجه ولا يبتغي بذلك سوى مرضاة الله، وهذا تشجيع للناس بهذا الاتجاه العظيم، الرجل المهم في المجتمع هو الذي يعمل ويخشى الله ويتّقيه، خاصة مع أقرب المقرّبين منه: أمّه، من لا خير فيه لأُمّه لا خير فيه لِأحد، أمّه التي ولدته حرّاً وربّته في كنف دين عظيم يحفظ له هذه الحرية، لا ينبغي له أن يخضع لضعف أو شهوة أو دناءة فيغمط حقّ أمه عندما يبلغنّها الكبر، لا ينبغي إلا أن يكون حرّاً في سيادته على نفسه وأهوائها فيعطي لكل ذي حقّ حقّه، وأوجب الحقوق في حياته ما كان لأمّه حيث ولدته حرّاً نجيباً راشداً وربّته ليكون بارّاً عند كل مواطن البرّ.
يجب أن يتنافس الناس في طلب الاستغفار من هذا الرجل. وهذا من شأنه أن يعرِّف الناس على مواطن البرّ والخير، من الطبيعي أن يتنافس المسلمون في الاستغفار فهذا من طبيعة المجتمع المؤمن "وبالأسحار هم يستغفرون "، ترفعهم عاليا أجنحة السَّحّر بالاستغفار، ولكن هنا ايضا إضافة هامة وهي أن يتسابق الناس نحو الفقراء إلى الله في طلب الاستغفار منهم، إلى ذاك الأشعث الأغبر الذي قد يكون من الذين: لو أقسم على الله لأبره.
إن فقير الجاه والسلطان يملك في المجتمع المسلم الاحترام بل والمكانة العالية بفضل عمله وتقواه، فميزان التفاضل " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " يقيم أواصر المجتمع بطريقة مميزة وفريدة ترفع من شأن الكثير من الناس الذين لا يأبه بهم أحد، كما ورد في الحديث الشريف: "يؤتى بالرجل السّمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة". هذا هو المجتمع المسلم، لا اعتبار فيه لسمين المال، سمين الباطل والضلال، سمين الكلام وسمين الوجه يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، كل الاعتبار فقط لسمين التقوى والبرّ والأعمال الصالحة.
كذلك أراد عمر أن يحيي في نفوس الناس قيمة الاستغفار بصورتها الجماعية، فيكون المجتمع المستغفر ليكون الاستغفار رافعة للجماعة المؤمنة بحيث يصبح الاستغفار عمل المجتمع بأسره لا عملاً فردياً لا يتجاوز أثره هذا الفرد، لأن المجتمع الحريص على الاستغفار يكون بداهة حريصاً على طلب المغفرة وهذه تتطلب وضع اليد على الخلل العام في هذه المجتمع حاكماً ومحكومين، لذلك كان عمر يقول: "رحم الله امرءًا أهدى إليّ عيوبي." فجعل من إعانته على كشف عيوبه هديّة وعوناً له على هذه العيوب ليقوم بتحرير نفسه منها."
وبقيت هذه العبارة تتردَّد في صدر عمر وتعمل عملها فيه: "أكون في غبراء الناس أحبّ إليّ " ها أنت يا عمر على رأس الناس - أمير مؤمنين – بخٍ بخٍ، ستخرج من هذه الدنيا بكفن لا يساوي درهماً، يسألك الله عن كل صغيرة وكبيرة، "لو أن بغلة تعثّرت في العراق لخفت أن يسألني الله عنها"، ما بالك بالألوف المؤلفة من البشر، كيف لو تعثر رجل أو تعثرت امرأة، كيف لو سُفك دم بغير حق أو انتهك عرض أو ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس كما هو الحال بعد غياب عمر؟ كم نحن بحاجة إلى الاستغفار بعد غياب عمر وغياب عدل عمر وغياب استغفار أويس لعمر؟ ويبقى عمر يسائل نفسه: "أين أنت يا عمر من عدل الله، رحمتك يا رب، ليتني عشت مثلك يا أويس، ليتني بقيت بعيداً عن الإمارة وحكم الناس، ها هو ذا أويس يعيش ملكاً في ذاته، يملك نفسه وتقواه وراحة ضميره، لا يراعي في عمله إلا الله، لا يريد الناس وهم في غفلة عنه، لا يأبه به أحد، ولكنّهم الآن وبعد انكشاف سرّه سيلاحقونه ويطالبونه بأن يستغفر الله لهم، لذلك اختار غبراء الناس، في عامة الناس لا يعرفه أحد."
لم يتركه عمر في حاله، أخذ يسأل عنه من يفدُ من الكوفة، لله درّك يا عمر، شغف قلبك هذا النموذج من البشر، تحسده على فقره؟ أم تغبطه على نعمة فاتتك عندما تقلّدت هذه الأمانة الكبيرة، إنه أحد رعاياه المميّزين، إنه وصية رسول الله، وهذه تحسب لعمر، كيف يبتدر هدي رسول الله ثم يتفانى في إنفاذه إلى هذا الحد من الاهتمام والمتابعة. عمر لا يسبقه أحد لأويس، هل هذه صدفة؟ لا شك بأن نفراً من الصحابة سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول هذا الحديث، لم نسمع بأنّ أحداً فعل مثل ما فعل عمر؟ عمر المشغول بأعباء الحكم وتعبئة الجيوش ومتابعة شؤون الجبهات المفتوحة شمالاً، حتى إنه يتابع سارية (أحد قادة الجند) عندما يلتفّ عليه جيش الأعداء فيقطع عمر خطبة الجمعة ويصيح: يا سارية الجبل يا سارية الجبل، أيّ: اصعد الجبل لتقطع على الأعداء خطّتهم المطبقة على جند الإسلام، فيسمعه سارية ويحقّق الانتصار. أيّ إلهام ربانيّ هذا الذي يجعل هذا القلب موصولاً بتلك المعركة البعيدة آلاف الاميال؟ هذا القلب المتابع لهذه المعارك الفاصلة لا يفوّت فرصة مع هذا القادم من اليمن، وليس هذا فحسب بل لا يسبقه إليه أحد. ألديه وقت لكلّ هذا فيحكم ويعدل ويأمن وينام، أية إدارة مستغفرة حق الاستغفار، فيقودها الاستغفار إلى وضع اليد على الخلل فتبقى في حالة من التصويب والتصحيح الدائم نحو الهدف، حينئذ تستطيع فعل هذا. إنها الجبهة الاجتماعية، جبهة الاهتمام بالشريحة المهمّشة في المجتمع لا تقلّ أهمية عن جبهة المعارك الخارجية التي تخوضها الأمة، أصبح المهمّش عند عمر هو صاحب الاهتمام الأكبر، أويس رمز لهذه الشريحة أراد الهدي النبوي أن يرفع رايتها واستلم اليوم هذه الراية عمر رضي الله عنه.
قال له رجل من أشراف الكوفة قادم من هناك:
- تركته رثّ البيت قليل المتاع.
" ولا مجال لرثاثة الحال في دولة عدالة عمر"
أشفق عليه عمر فأراد أن يفطن إليه الناس، أراد أن تعلو قيم الإنسان ومكانته ووزنه في الكوفة كما هي عليه الحال في المدينة، فأخبر رجل الكوفة بوصية رسول الله حتى يهتم الناس به ويعينوه على نوائب الدهر، أراد أن يوصل لأهل الكوفة درس أويس كما كان من أمره في المدينة. أراد لهم أن يصلوا إلى استغفار أويس وأن يكونوا أُمة مستغفرة تحمل في صدرها روح الاستغفار العالية ولتصل إلى نتائجه الباهرة.
حمل هذا الرجل وصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) ووصية عمر رضي الله عنه وسارع إلى أويس يطلب منه الاستغفار، قال له أويس بكل تواضع وحياء:
- أنت أحدث عهداً بسفرٍ صالح فاستغفر لي.
"وأضاف، ألقيت عمر؟ قال الرجل:
- نعم.
"فاستغفر له أُويس."
فهم أهل الكوفة الدرس بسرعة، انهالوا عليه خفافاً وثقالاً، طفقوا عليه من كل صوب وحدب، فانطلق على وجهه حيث غبراء الناس في مكانٍ لا يعرفه فيه أحد، هذا خير التابعين مدرسة قيم خالدة في النفوس أينما حل أو ارتحل، إنها مدرسة الاستغفار بحقّ وحقيق، استغفار دائم، استغفار بحاجة إلى استغفار ( كما قالت رابعة) ، بصمت وهدوء بعيداً عن العيون والأضواء، كان شعاره في الحياة أن يعمل بصمت:
"في غبراء الناس أحبّ إليّ."
"عبد لله، تقيّ غنيّ خفيّ. "


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى