محمد الرياني - نُقَدَة

ذهبَ إلى الطبيبِ بعد أن شَكَّ في دُخولِ حَشرةٍ صَغيرةٍ سوداء في أنفه يُسمُّونها عندهم ( نُقَدَة) ، أجلسَه الطبيبُ على كرسيٍّ أبيضَ مريح وراحَ يستمعُ إليه ، اشتكى في البدايةِ للطبيبِ من منخاريه الواسعين وكثرةِ الشَّعَر فيهما ، وأنه إذا عَطسَ في شمالِ الحيِّ يسمعونه من جنوبه ، ضحكَ الطبيبُ ومازحه محذرّا بأن لا يعطسَ أمامَه وأنه سيتركُ الحشرةَ تتمشَّى في دِماغه ، نَهضَ من على الكرسي وقال له : أرجوك ..أرجوك يادكتور ..أرجوك ، إلا دماغي ، لا أريد أن أكونَ أضحوكةً عند سفهاءِ وصِبيانِ الحي ، وَضعَ الطبيبُ توصيلةً تشبهُ توصيلاتِ الكهرباءِ في أنفِه وقامَ بفتحِ شاشةِ حاسوبٍ وقال له: سنشاهدُ سويًّا خطَّ سيرِ هذه المسماة (نُقَدَة ) في جمجمتك ، الأمرُ صعبٌ ومستحيلٌ في نظري وعليك التحمل ، فإمَّا أن ألتقطَها وإما أن يكون خطُّ سيرِها في طريقٍ حساسٍ يَتلفُ الدماغ معها ، بكى وهو يصيحُ لا أريدُ الموتَ وأنا في مقتبلِ العمرِ ولديَّ زوجةٌ حسناءُ وطفلان مثلَ عصفورينِ أصفرين جميلين ، ظهرتْ على الشاشةِ خطوطٌ متعرجةٌ ومتقاطعة ، صاحَ الطبيب : هذه هي الحشرةُ الملعونة ، يبدو أنها قد استقطعت جزءًا من حاسَّةِ أنفِك ، هل تشمُّ رائحةَ العطرِ النفاذةِ التي في طرفِ المعطفِ الذي ألبسه؟ قال لا ، أجابه الطبيب ، لقد فعلتها بك ، وماذا تشمُّ الآن؟ قال للطبيب أشمُّ رائحةً كريهةً تشبهُ رائحةَ إصبعِ أخي عندما كان يعقرُ هذه الحشرة بفصل رأسها عن جسدها، كأنني أستروحُ رائحتها عند أنفي ، لابأسَ عليك، ستزول هذه الرائحة بمجرد أن ألتقطَها بهذه الآلةِ الحديثة ، ولكنَّ الخوفَ كلَّ الخوفِ أن تصلَ إلى مركزِ النطقِ فتصابَ بالعجَمِ ولاينطقُ لسانُك ، يادكتور ..هل تريدني أن أمشي أخرس بين الناس ؟ قال له الطبيب : أرجو عدم حدوث هذا ، ولكنَّ الحشرةَ أسرعً من الصوت ، بل أسرع من الجهازِ الدقيقِ الذي في يدي وهو يطاردها ، الغريبُ أنَّ وزنَها في ازديادِ وكأنها تتغذى على لحمِ مُخِّك ، جُنَّ جنونُه ، إذا لم تستطع يادكتور فأدخلني العمليات أو تصرف ، حاضر ...حاضر ، لاتقلق ، لديَّ طريقةٌ جديدة ، تناولَ أنبوبًا وقرَّبَه من أذنه ونفخَ فيه ، ماذا تفعل يادكتور ، لاتقلق سأعيدها من حيث أتت لأنها لو أغلقتْ سمعَك ستصابُ بالصمم ، ظلَّ الطبيب ينفخ وينفخ وهو يتألم ، انطفأ الجهازُ فجأة ، اسودتِ الشاشة ، قال له الطبيب: يالسوءِ حظك ! أرى أن تعودَ إلى أهلك لتودعَهم وأنت بينهم ، هل سأموتُ يادكتور من هذه الحشرةِ الصغيرةِ بمجرد أن دخلتْ أنفي؟ سامحَك الله يادكتور ، انفجرَ الطبيبُ ضاحكًا ، ردَّ عليه وتضحكُ على نهايتي ، قال نعم ، جهازُ الحاسبِ يقول : إنَّ مخَّكَ أنظفُ من مُخِّي ، وإنما أردتُ أن أمازحَكَ لأُبعدَ عنكَ الوهم ، نزلَ من على الكرسي ، طُرقَ البابُ بقوة ، دخلت زوجتُه وابناها الاثنان وفي يدها قطعةٌ من منديلٍ ناعم ، أبشرُكَ بأنَّ النُّقَدةَ وجدناها تحت السرير ، أخذَها الطبيبُ وقرَّبَها من أنفه ، هل هذه مثلَ الرائحةِ التي شممتها لحظةَ الكشف؟ دَفَعَ يدَ الطبيبِ فطار المنديلُ وسقطتِ الحشرةُ على الأرض ، هربَ من المكان وتركها تتجوَّلُ في العيادة ، لفَّها الطبيبُ في منديلٍ طبِّي وألقاها في سلةِ النفايات .


محمد الرياني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى