وليد الهودلي - المفتاح.. قصة قصيرة

جلس مسن فلسطيني يتصفح الجريدة .. مرت أمامه صور مأساوية من الكارثة التي حلت بشعب كوسوفو المسلم , كان من بينهم رجل يحمل مفتاح بيته وعينه تشع بأمل العودة القريبة .. توقفت الذكريات بغزارة فملأت رأس الشيخ .. خمسون عاما مضت والمفتاح في جيبي .. كنت في بدايات شبابي , داهموا البلد من كل جانب بعد أن نفدت منهم الذخيرة.. مقاومة عنيفة أكلت الأخضر واليابس, حصدوا منا الكثير .. أنباء المجازر من القرى المجاورة تتابعت على رؤوسنا, أفقدت صواب من في قلبه مثقال ذرة من جبن , وأشعلت لهيب المقاومة في نفوس الثوار .. زودوهم بأحدث الأسلحة , منعونا من الذخيرة, وطاردوا كل من يملك حتى العسملّيّة (1)
في الأيام الأخيرة للنكبة اجتاحتنا الإشاعات.. قالوا: إن الجيوش العربية في طريقها إلى فلسطين .. الدول العربية على أهبة الاستعداد لإرسال كافة الإمدادات المطلوبة .. الرجال والسلاح .. هيئة الأمم والعالم الحر لا يمكن أن يسمح بأن يجتث شعب من أرضه .. سيعاد اللاجئون إلى مدنهم وقراهم في أسرع وقت .. لا يمكن لعصابات اليهود أن تتغلب على الجيوش العربية.
كان اجتماعنا الأخير قبل النكبة مع قائد المجاهدين ( حسن سلامة ) في قرية العباسية حيث كان مختفيا هناك .. قررنا الصمود وصد العدوان حتى آخر طلقة, وفي حال نفاد الذخيرة قررنا المقاومة بالمعاول والسيوف .. انطلقنا ليلا مع رجال من البلد .. حفرنا الخنادق والاستحكامات .. كانت القلوب تخفق بقوة .. غلت الدماء في رأسي .. تراءت صور الشهداء في مخيلتي .. شممت رائحة مسكهم .. وخليط أريج أزهار الجنة بأزهار البرتقال.. كان الليل ساكنا تشقه ضربات الفؤوس وهمهمة الرجال .. سهرت معنا جماهير النجوم .. تزيّن سماء عرسنا الكبير .. النساء يرضعن أطفالهن بخوف وترقب .. يهمسن بجرائم اليهود ويتحسبن من المصير نفسه , مصير القرى المجاورة .. الهجرة فيما لا سمح الله .. ولكن إلى أين؟ وإلى متى؟!
أضاءت الشمس سماء القرية .. اعتادت على سخائها الوفير, ضياء صاف تتبعه خيوط ذهبية تلقي بغزلها على جنات البلد, البرتقالية , استقبال حافل ونشيد وطني من كل مكان .. هديل الحمام البلدي صياح الديكة .. حتى الحمار يشارك في نهيقه العذب , نعم عذب, والله إني لأجد له عذوبة لا توصف في جنة ذكرياتي.
شارك هذا الاستقبال الحافل صوت نشاز , لعلع الرصاص وسيطر على كل الأنغام بصوته المنكر .. طقطق رصاص المجاهدين من خنادقهم .. رصاصة يرد عليها بزخات من رشاشاتهم, لم يكن الإنجليز بعيدين عن المعركة , سقط الشهيد تلو الشهيد , أعلنت الشمس عن غضبها .. ارتفعت في كبد السماء وصبت كل لعناتها .. لم يأبه بها أحد .. بذلت كل ما تملك من سخط ولهيب .. لم يتراجع أحد .. كانت أعداد كبيرة جدا تجتاح البلد وتدك الخنادق دكا عنيفا .. نفدت بقايا الذخيرة في هذا اليوم العصيب.. دارت حرب ضروس في أزقة البلد وشوارعها .. " اللعينة مجندة صعدت على مئذنة المسجد .. قنصت كل من لاح لها من أهل البلد .. صرعت العشرات, إلى أن أحضرنا لها أحد رجالنا القناصين حيث كان متبسمرا في خندقه معاهدا الله على الموت فيه .. لبى أمر القيادة.. صوّب بندقيته على رأس المجندة, دوت الرصاصة مع صرخة ذئبة ضارية.. تناثر دماغها وتدلت من أعلى المئذنة.. هلل الناس وكبروا.
داهمت عصابات الإجرام. البيوت, ألقت بقنابلها الحارقة .. دخلت الملجأ الوحيد في القرية .. حيث المسنون والعُزّل من النساء والأطفال .. حصدوهم برصاصهم .. لم يكن هناك مفر من الخروج , أصدرت القيادة أوامرها , خروج ثم عودة قريبة إن شاء الله , هرّبنا النساء والأطفال ’ أغلقت البيوت بهذا المفتاح الذي ما زلت أحتفظ به !!
جيد ألا تفرط بمفتاحك أخي المسلم في ( كوسوفو) ولكن .. اعلم أن هناك مفتاحا آخر يجب أن نجده في نفوسنا وحياتنا .. المفتاح الذي يفتح القلوب المغلقة .. " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "
(1) العسملّيّة : كلمة عامية تعني : (العثمانية ) , والمقصود البندقية القديمة العثمانية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى