د. كاميليا عبد الفتاح - أوراق الشجر.. قصة قصيرة

• وقفنَا في إعياءٍ على بابِ بيت ِ المُغتربات الذي اقترحه المسئولون كاستراحة قبل ذهابنا مُشاركاتٍ في مؤتمر " الاحتفاء بمظاهر الاستقرارِ العربي في الألفية الثالثة " .

أمسكنا حقائبَ السفرِ بيدٍ و برنامجَ المؤتمرِ باليدِ الأخرى : حفلٌ افتتاحي مهيبٌ يحضرهُ كبارِ الشخصياتِ ، كلمات كبار الشخصيات ، استعراض غنائيٌ يمثَّل الدول العربية ، عشاء فاخر ( بوفيه مفتوح ) ، إفطار فاخر (بوفيه مفتوح ) ، مشاركات بحثية ، غداء فاخر (بوفيه مفتوح ) ، أمسية شعرية وقصائد في الدفاع عن وحدةِ النسيج العربي ، عشاء راقص (بوفيه مفتوح ) ، توزيع شهادات التكريم وإهداء الدروع للشخصيات التي ساهمت في إنجاح المؤتمر .
رنّ هاتفُ زميلتِنا الفلسطينية " أمُّ وحيد ".. ردَّت في غضبٍ :
- بَعْدَك في المطار ما دخلت الطيارة ؟!
- .......
- ليش ما ختموا الباسبور ؟ !
- .......
- إيش تقول ..؟! متخوّفين من هويتك ..ومعطِّلين إجراءات السفر ؟ ليش ..؟!
- .......
- ما بصدّق كلام مثِلْ هِيك .. يخافون على أميركا من الإرهاب الفلسطيني ..؟ !
- .......
- مِنشان ألله لا تغضب .. لا تخاف حبيبي ... لا تخاف .. باتصل بمسئول كبير بيسهّل الأمور بالمصاري .. منشان هيك أنا عم باشتغل في الغربة .. منشان تسافر انت ومَرْتك وتبنو لكم وطن في أميركا ... منشان تعيش .. دخيلك لا تتحرك .. هيك باكلم المسئول ، وأرجع أطمّنك يا وحيد ..
التَففنا حولها في مدخل البيتِ تحت أعلامِ الدول العربيّة التي تراصَّت ساكنةً لا ترفرفُ ..جلسنا فوق حقائب السفر نتابع اتصالاتِها التي أجرتها بصوت مأزومٍ باكٍ حتّى أثخنتنا ، و كان اتصالُ " وحيد " كتلبيةِ استغاثةِ التائهين ..كاحتضان المُستضعفين . ردّت متهلّلة :
هيك إنت في الطيارة ؟ !
- .......
- الحمد لله ...انتبهْ على حالك وحال مَرْتَكْ ...فرِّحوني عن قريب بوليّد صغير سمِّيه " وحيد"
- باعرف إنّك وحيد و أبوك وحيد ...الولد كمان بيكون " وحيد " ...
- .........
- دَخِيلَك ما تنسى ..بيصير " وحيد وحيد وحيد "
- .......
- ....مع السَّلا ...مة ..
احتضناها باكياتٍ .. عدنا للجلوس على حقائب السفر التي لاحظتُ أننا نتعاملُ معها بألفةٍ واعتيادٍ وخبرة ..حقائبُنا وسائدٌ ومقاعدٌ وأسِرَّةٌ ومُتَّكأٌ . اتّخذتْ جِلستنا على الحقائب شكلًا مُستديرًا : " أم وحيد " فلسطينية .." فادية " سوريّة .. "آمنة " " سودانية .." عايشة " سعودية .." .. وأنا بجوارِهن " صابرين " مصرية ..
بدونَا من البكاءِ كالتوائم ؛ فقلتُ في مزاحٍ مُصطنعٍ :
إيه رأيكم أعمل لكم صينية " كُشرِي " مصري مخصوص بمناسبة سفر " وحيد " لأمريكا ؟
آمنة : عليكي الله .. الكشري حيضيَّع التركيز .. أنا باعمل لكم كِسْرة سودانية مُعتبرة ..
عايشة : لا والله .. أنا باسوّي لكن " عَزيمة " على حسابي بهاذي المناسبة .. باطلب " المَنْدِي " و" البرياني " و " الرزّ البخاري " والقهوة وقوالب " الحلا " ..كِلِّش ..كِلِّش باطلبه ديلفيري ...ما عندنا وقت نطبخ ..الله يهديكن ..
أم وحيد : أنا اللي باسوِّي لكن مرقوق باللحم المفروم حلاوة سفر " وحيد " لأمريكا ..
فادية : أوّل باشتان : ما عندنا وقت لهايدي السفرات الكبيرة ..ثاني باشتان : أنا باسوّي لكن " " المجدَّرة " و" المقلوبة " والكُبيبة " .. و" حرَّاق أصبعو " ..ما في وقت للـ " المُنائرة " بيناتْنَا ..
مددتُ يدي أُنهضُ كل واحدةٍ منهنّ ...قمن متثاقلاتٍ ..بَدونا – بلا استثناء – أعجازَ نخلٍ خاوية ...تحلَّقنا في هيئةٍ مستديرةٍ حول الأطعمة المختلفة نتبادلُ الحديثَ بلهجاتٍ مختلفةٍ .
نظرت " فادية " إلى الأطباق غير المنسجمة شكلًا ومذاقًا .. قالت في دهشة :
فَرّطلِنَا هالمَسْبَحَة ..
شربتُ الشايَ بالنعناع .. شربته أم وحيد بـ " المرمرية " ..نكَّهتْهُ " عايشة " بــ " الهِيل " .. أصرَّتْ " آمنة " على صنعه من كيسٍ صغيرٍ تحملُه معها من السودان ..صبَّته " فادية " مغليًّا مع حبَّات من " عين الجمل " ..
جلسنا على الأرضِ في حلقة مستديرةٍ حول كاساتٍ مختلفة المذاق لمشروبٍ واحدٍ . اتّكأنا بمرافقنا على حقائب السفر المرصوصة بجوارنا كأنها تتقاسمُ معنا الطعام والشراب ..حدَّقنا في اللّا شيء ..انفجرَ الكلامُ مُرهَقًا من طولِ الصَّمت ..
قالت أم وحيد : ليلة زفافي ضليت بحضن " وحيد " للصباح ..قلت له بخجل : هيك خلصتْ شهر العسل في ليلة واحدة ..قال : لابد في كل ليلة نعيش شهر قبل ما ينسرق العمر . في الصباح ناداه رفاقه ..استُشهدوا كلهم في عملية فدائية واحدة..حضنتْ جنيني في حشاي .
خبطتْ حقيبةَ سفرها بيدها بقوةٍ ..أكملت : واتغربت مِنْشَان يكبر ابني " وحيد " ويعيش ..ما يموت برصاص الصهاينة اللي قتلوا أبوه ..شجّعته يهاجر لأميركا ويبدأ حياته ..وأنا عم باحلم إني أنام في حضن زوجي " وحيد " لما أموت واندفن جنبه ..
تنهدت " آمنة " .. قالت : مثل ما اتمزقت السودان شمال وجنوب اتفرقت عن زوجي ..أنا باشتغل هنا وهُو بيشتغل في قطر ...بنجمع قروش عشان نسافر أميركا ... أهلي وأهله كلهم هناك ...ولغتنا الإنجليزية إيكسلانت ...وأنا تِعبتا ...زُهقتَا ...الزول ما اتخلق علشان يعيش أيامه وحيد ...
نهضت " عايشة " .. عقدتْ ذراعيها على صدرها .. قالت بصوتٍ متوتّر :
بتروحين أميركا يا آمنة ..؟ بتقابلين " فهد" أكيد ..أكيد بتشوفينه وسط الجاليات العربيّة . ارتبكتْ حين حدَّقنا فيها بعيوننا المُجهدة .. احتضنت حقيبةَ سفرها وقالت :
فهد مُبتعث للماجستير هناك ... اتقدَّم لخطبتي ...أبوي رفضه لأنه ما هو من قبيلتي ...ولأن أبوي مُصِرْ إنه يزوجني من ابن عمي..وابن عمي ذاته موافق على خطبتي من فهد .. هو وإخواني يقولون " فهد " رِجَّال وعنده مستقبل ...لكن أبوي بيسمّي رغبتي في الزواج من فهد فضيحة ، وتَرَى إنه مهددني بالغضب ..و إنّه يحجِّرني يعني يخليني أعيش وحيدة ما أتزوج " فهد " ولا غيره ..
امتلأت عيناها بالدموعِ وهي تقول : أبوي ذا الحين صار يكره أميركا من يوم جَاهَا " فهد " وأنا أحتري اليوم اللي أسافر فيه أميركا ..بيصير اليوم اللي تبدأ فيه حياتي ..
انتبهتْ " فادية " من شرودها بعد الصمتِ الذي أعقبَ بكاء " عايشة " .. قالت بسخرية مريرة :
أنا ماشي حالي والحمد لله .. ما بشتكي ..ما في غير إنّ البيت اللي اتعذّبنا حتى بنيناه أنا وزوجي صار تراب.. ضربة صاروخية واحدة دكّته .. انهدم البلكون اللي كنّا نجلس نضحك فيه ..ما بعرف شو اللي بيصير في سوريا .. ما بعرف غير إنّ بلكون بيتي انهدم ..لَكَان كيف انهدم ؟.. ليش انهدم ؟ ! ما بعرف ..لَه لَه على ها لصاروخ .. ها الصاروخ أجبر زوجي يسافر لأميركا بمساعدة بعض الأصدقاء يدوّر على فرصة عمل ..يا لطيف على هالصاروخ ..جابني لَهُون أشتغل و أحوّش مصاري عشان أسافر لزوجي ..أمَّا البيت ..عطاكن الله عمره ..!
نظرنَ إليّ نظرةً تحريضٍ على البوح .. قلتُ في ابتسامة ساخرة :
الحال من بعضه ...عروسة مع وقف الفرح ...
توقفتُ لألتقط أنفاسي وأعتدل في جلستي بعد أن شعرت بألمٍ في ذراعي وفوجئتُ أنَّ إحدى عجلات حقيبة السفر قد انغرزتْ صورتها فيه لطول اتكائي عليها .. أكملتُ :
راتبي وراتبه ما يعملوش بيت ...خفنا نتفرّق بعد الزواج بسبب ضيق الحياة...قررنا نتفرق دلوقتي ...كتبنا الكتابْ ..وأنا جيت هنا أشتغل مدرّسة .. وهو بيشتغل في الإمارات ..كام سنة كده و نتجوز ... ورتّبنا أمورنا بحيث إني أنجب أول مولود في أميركا عشان ياخد الجنسية الأمريكية و تبقى عنده فرصة للحياة أفضل مننا ، ويبقى بالنسبة لنا مخرج نهرب إليه في أي ظرف يضطرنا للهجرة ..
ساد صمتٌ كئيبٌ ... قمنا نتطوحُ وفي جسدِ كلٍّ منَّا أثرٌ من الاتّكاء على حقيبة السَّفر ... تزاحمنا بفتورٍ أمام المرآة العريضة استعدادًا للذهاب إلى المؤتمر الذي تذكرناه بعد أنْ ذهبت بنا الهمومُ إلى جهاتٍ شتّى .. فكّتْ كل واحدةِ منَّا شعرها من محبسه الطويل ، وأدارت فيه المشطَ بمللٍ .. كحّلتْ كلٌّ منّا عينيها المُتّسعتين الحزينتين ... بينما كان لحنٌ ينسابُ من المنزل المقابل :
" لاكتبْ ع أوراق الشجر سافرْ حبيبي وهَجَرْ
يا حبيبي دخلك عُودْ .. بيكفِّي غيابْ وسفرْ ....

د. كاميليا عبد الفتاح


* من مجموعتي القصصية " جبال الكحل "



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى