فرج عبد الحسيب المالكي - خواطر حاج فلسطيني (خمسة أجزاء)

(الجزء الأول/خمسة أجزاء )
كتبها الحاج فرج عبد الحسيب المالكي
الذي أدى مناسك الحج عام1434 هـ / 2013 مـ


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله صاحب الفضل والمنّة ، والصلاة والسلام على محمد قائدنا إلى الجنّة
وبعـد :
يسر الله تعالى لي بفضله وتوفيقه في عام 1434هـ / 2013 م أن أزور البيت الحرام ومسجد الرسول عليه السلام مرتين : الأولى كانت عمرة في شهر كانون ثانٍ في بداية العام ، والثانية خلال الحج بعد عشرة أشهر، فكانت سنة مباركة ومهمة في حياتي ، فقد تحقق رجاء رجوته سنين ، وسقى الله ظمأ شوق القلب لتلك المشاهد المباركة ، فلله الحمد من قبل ومن بعد ..
ومن توفيق الله أن يسر لي عمرة قبل الحج ، فتعرفت على جغرافيا تلك البقاع ، واكتسبت خبرة أسعفتني في تدبر مناسك الحج والاطلاع على أسرارها ، فرحت خلال الحج أدون ملاحظات مما أرى وأسمع ، وعندما عدت كتبتها تحت عنوان " خواطر حاج " نشرتها على شبكة النت ، وأجمعها هنا استجابة لرغبة بعض الأخوة القراء ممن رأوا فيها تجربة تستحق التسجيل ..
كما دفعني لكتابة هذه الخواطر الرغبة في تسجيل تجربة حاج عادي ، عايش هموم الحجاج العاديين ، لعل فيها ما ينفع الذاهبين لزيارة تلك البقاع المباركة وأداء الفريضة الخامسة من من أركان الإسلام ..
ربما أذكر في هذه الخواطر طاعات من المفروض أن أسترها وتكون خبيئة عند الله تعالى يوم تكشف السرائر ، أو أكشف عن مواقف وصور ما كان يجب أن أنشرها من باب ستر عورات المسلمين خاصة في تلك البقاع المقدسة ، فإن فعلت فأسأل الله تعالى أن لا يكون ذلك رياء ولا سمعة ، ولا فضحا لما يجب أن يستر ، وأن تكون الغاية تذكيرا بما يجب أن نتداركه من نواقص وقصور ، وتعزيزا لما هو مشرق ومنير ، لكي تكتمل معاني الحج الإيمانية ، ونصل إلى مرتبة الحج المبرور والسعي المشكور ..
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ..
كتبه
فرج عبد الحسيب " أبو غيث "
في كفرمالك أواخر 2013
ـ 1 ـ
الشجرة التي سُقيت بماء زمزم ..
الشوق إلى الحج يُزرع وينبثق وينمو في قلب المسلم كشجرة طيبة مباركة ..
تُزرع بذرتها في القلب باكرا مع براءة الطفولة ، يوم كنّا أطفالا نزهو بطاقية الحجاج البيضاء المزركشة ، ونتخاطف كاميرا الحجاج السحرية التي ترينا صور الكعبة والحجر الأسود ، وجموع الحجاج ..
وتسقى تلك البذرة بأول قطرة في الدرس الأول في حصة الدين ، يوم كنا ننشد بأصواتنا الغضة أركان الإسلام الخمسة بعزم وحماسة ، ونمد أصواتنا في ختامها
" .. وحج البيت من استطاع إليه سبيلا .. "
ومع النشيد نعشق رسم الكعبة في كتاب الدين ، فننسخها في دفاترنا ، فتنطبع دون أن ندري أمنية في قلوبنا ...
ونطرب مع تلك الكلمات التي يتمايل معها كبار البلد ، وهم يسحجون مع اللحن الجميل :
يا زايرين النبي وش وصفة القبة سعيد مين راح لقبر النبي وحبه
يا زايرين النبي وش وصفة حجارة سعيد مين راح لبيت النبي وزاره
فتهتز الحياة في بذرة الشوق المباركة ، فيكبر الشوق ويعظم ، وتصير الحبّة قُبة ، ويتمنى أن يزور قبر النبي ـ e ـ ويعرف أوصاف القبر والقبة..
ويكبر الولد ويشارك ذويه بوداع الحجاج واستقبالهم ، يودعهم ويحملهم السلام على رسول الله ، ويستقبلهم ليشرب من ماء زمزم ، ويطقطق بحبات المسبحة ...
كان الحجاج يقدمون لنا ماء زمزم ، ويشرب الجميع دون استثناء ، يشربون مع التذكير الدائم بأن زمزم لما شُربت له ، وكنت دائما أدعو : اللهم إني أشربها لعطش يوم القيامة ، اللهم عافني في ديني وفي بدني ..
ويبدأ حديث الحجاج الذي يهيِّج الشوق لزيارة تلك الديار المقدسة ..
وتدهشك قصص الحجاج ، وما فيها من تحليق للنفوس في سماء الإيمان الصافية ..
فهذا حاج يقول لك بأنه عندما وقف أمام قبر الرسول ـ e ـ أصيب بنوبة بكاء حادة ، لم يستطع خلالها إلقاء السلام على صاحب القبر كما يفعل الحجاج ، وبكى ثانية وثالثة حتى أسعفه القول : يا رسول الله ، ذنوبي فوق رأسي عشرة أشبار ، وإن لم تشفع لي عند الله فيا ويلي .
وتسمع في برنامج دعوي امرأة تتصل بالشيخ ، وتطلب منه أن يفتي لها لأن أمها لما حجت لم تشاهد الكعبة ، ولما سألها الشيخ عن عمل الأم تجيب الابنة أنها كانت ساحرة ، فيدور في البال أن رؤية الكعبة منحة إلهية يحرم منها السحرة والكفرة والفجرة !!
ويكبر المرء وتكثر ذنوبه ، وترحل براءة الطفولة حيث الحج مسابح وطواقي ، وقصص عجيبة ، ويصير واعظا يبحث عن طرائف القصص كدأب المبتدئين في كل مضمار ، ويعشق قصة الإمام مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ مع محمد بن هارون البلخي الذي حج أربعين حجة ولم تُقبل منه ، لأنه أحرق أمه في التنور في أول ليلة من رمضان ، ثم جاءه الفرج .
ثم يشاهد تلك المشاهد المؤثرة للحجاج وهم يلبسون البياض ، ويلبون بصوت واحد ، فيشتاق لأن يسبح مع أمواجهم البيضاء الزاحفة تملأ الأرض بالتكبير والتهليل والتلبية ، وتمسح ذنوبهم ..
وتمر السنون ، والشوق لبيت الله يزداد ، وفي القلب داع يحثه نحو البيت العتيق ، وذنوب العبد تكثر وتزداد فتثقل طبقة الران على القلب ، فيكبر الشوق لأن يغسل قلبه القاسي برقراق زمزم ، وأن يزيل سواد بدنه بثياب الإحرام الناصعة ، وينير ظلمة نفسه بتلك الأنوار البهية الساطعة ..
ثم تكثر المواعظ في مناسبات الحج ، وتكثر الخطب عن فضل الحج ، فالصلاة بمئة ألف ، والحسنة بمئة ألف ، والصدقة بمئة ألف ، فيطمع ، والطمع في الدين محمود .
ويكبر الشوق ويهيج على شجرة الشوق المباركة ، وهو يسمع أن للحج وظيفة بعث جديدة : " مَنْ أَتَىٰ هَـٰذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " فيطمع أن تنبت شجرة الشوق من ثمارها إنسانا جديدا بميلاد جديد ..
ويزيد الشوق اتقادا فيشتاق المسلم لأن يكون عضوا في وفد الرحمن يمنُّ عليه بإجابة الدعاء وجزيل العطاء ..
فطوبى لمن كان لله وفدا ...
_ 2 _
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى ..
عندما كنت أشاهد على التلفاز الكعبة المشرفة يطوف حولها الناس أمواجا ، أو يجري ذكر الحج والحجاج ، أو يدعو لي صديق بزيارة البيت العتيق ، كنت أردد بتلقائية :
" بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى .. "
أرددها بعفوية وكأنها لازمة اقترنت بذكر الحج ومشاهده ، فتسري معها في القلب أمنية بعيدة المنال، فكيف ستحج وهناك من معارفي من يحاول منذ سنوات ، وما زال يقف منتظرا في الطابور الطويل !! وكيف ستحج وأنت لست من ذوي الشان ، ولا من حاشية السلطان !!
تريد أن تحج ، نعم بشوق شديد ..
نيتك للحج موجودة ، نعم ، وشوق القلب دليل ، والنية بالقلب ..
نيتك صادقة ، نعم ، فقد وفرت من دخلك القليل ما يكفيك للرحلة ..
وبنفسك زيارة تلك البقاع مهابط الوحي ومنابع الإيمان ومرابع الإسلام ، نعم ، فما أطيب الربى ، وما أبعد المُنى !!
ما أطيب أن تقف أمام أول بين وضع للناس على الأرض ، ليعرفوا أن لهم رب يعبد في السماء !!
وما أطيب أن تمشي في تلك الدروب التي مشى فيها خاتم الأنبياء ، وفيها نزل القرآن ، ومنها أخرج طريدا مقهورا ، وإليها عاد فاتحا منصورا ...
وما أطيب أن تسعى حيث سعت أمنا هاجر عليها السلام تنشد شربة ماء لصغيرها ، فضرب بقدمه الغضة الصغيرة ضربة كانت كحفارة ارتوازية أخرجت ماء زمزم ..!!
وما أطيب أن تكون على جبل عرفات ، لتعيد تعريف نفسك من جديد ..!!
وما أطيب أن تزور قبر الرسول ـ صَلّى اللهُ عَلَيِّهِ وَ سَلَّمَ ـ أعظم رجل داس على الأرض ..!!
ألا يحق لي أن أقول ما أطيب تلك الربى .. !!
لذلك كانت البشرى بالحج طيبة المذاق عذبة اللحن على شغاف قلب السامع ..
قبل شهور من الحج ، قالت لي شقيقتي : أتريد أن تحج ؟
فسقطت تلك الكلمة كقطرة ماء على زيت يغلي ، وتبخرت من حرارة الشوق .لم أكن أعرف أن تلك القطرة ستتحول إلى غمامة رحمة على شكل طائرة تحملني إلى حيث مشت قدم الرسول ـ e ـ وصحابته الكرام ، وأن تلك العبارة التي اعتدت على ترديدها ستكون نيّة صادقة يصدق معها الوعد ..
وكان الحج ، وكان المبيت والوقوف والطواف والسعي بتوفيق الله تعالى..
وكان انقضاء تلك اللحظات ، وكانت العودة .. وبقي الرجاء .. الولادة الجديدة لطفل تجاوز الخمسين من العمر ..
أخي الحاج ، أيها المحظوظ بالوفادة على بيت الله العتيق ..
أدعوك لتشاركني رحلتي إلى ديار الإيمان ، وتشاطرني المشاعر النورانية السماوية ، وتتعرف معي القصورات الدنيوية ، وتسافر معي على جناح هذه الخواطر مع جموع الحجاج إلى ديار الوحي حيث ارتبطت الأرض بالسماء ..
سافر معي لكي لا تكرر أخطائي الكثيرة ، ولا تضيِّع شيئا من بركات الحج الوفيرة ، فربما يدلك ذو خبرة على أنوار تلك البلاد المباركة ، واعقل ما تقرأ ، فالعاقل من يتعظ بغيره ، والجاهل من يتعظ بنفسه ..
ـ 3 ـ
اطرق باب الله بآياته ..
أرسلنا صور الجوازات للسيد أبو سامي في السعودية الذي وعدنا بأن يوفر لنا تأشيرات حج لهذا العام ، وجاءت أيام الانتظار الطويلة ، والسؤال الدائم :
هل من جديد ؟ ما أخبار التأشيرات ؟
خلال فترة انتظار الفرج ، وانتظار الفرج عبادة ، قررت اللجوء إلى الله تعالى قاضي الحاجات صاحب الأمر من قبل ومن بعد ، بطريقة تعلمتها في مدرسة السجن .
في الاعتقال الأخير قابلت شيخا من رام الله في أحد معابر انتظار النقل في سجن عوفر منشغلا بتلاوة القرآن ، بينما انشغل الأخوة الباقون بالدعاء أن يفرج الله عنهم كرب السجن الإداري ، الذي لا ينتهي إلا لكي يبدأ .
وتعلمت منه أن الدعاء نوعان : دعاء الثناء ودعاء الطلب ، دعاء الطلب يعني ذكر الله تعالى ‏والثناء عليه ، والمشتغل به محقق الرجاء لقول الله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) و جاء في ‏الحديث أفضل الدعاء" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل ‏شيء قدير" فسمي هذا الثناء والتوحيد دعاء ، ومنه دعاء الكرب ، ودعاء أيوب عليه ‏السلام .
وسمعت منه حديثا شريفا مفاده : " يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته ‏أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" .
وجربت هذا السلاح في تفريج الكرب ، فقرأت القرآن كله في يومين قبل المحكمة ، وفرج الله كربي ، فأدركت كنز قوة القرآن في تفريج الكروب ونيل المطلوب .
وفي انتظار التأشيرات ، لجأت للقرآن الكريم ، أقرع به باب الفرج وثمثل ذلك في أمرين :
أولا : فتحت القرآن عفويا أستبشر بآياته ، وتلك عادة تعلمتها من التجربة الشخصية ، فعندما يموت شخص في بلدنا يسبق النعي قراءة آيات من الكريم من سماعة الجامع ، آيات كان يشغلها الناعي من الشريط الموجود في المسجل ، واليوم من إذاعة القرآن الكريم من خلال الآذان الموحد ، وكنت انتبه بدقة للآيات ، فإذا سمعت آيات الرحمة فيها بشرى أقول من الصالح الذي فقدناه ؟ وتطابقت معاني الآيات مع حال الأشخاص في كثير من الأحيان ، فصرت اتفاءل بالقرآن عندما أنوي أمر جلل .
فتحت المصحف مستبشرا فكانت الصفحة لسورة الشعراء ، وفيها :
🙂
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (
فلزمت في كل حين وبعد كل صلاة طيلة أيام الانتظار قوله: توكلت على العزيز الرحيم.
ثم انشغلت بتلاوة وحفظ سورة الحج بشكل يومي ، وسجلتها على الهاتف الجوال ، ورحت أسمعها كلما حانت فرصة في أي وقت من اليوم .
يوم الثلاثاء بينما كنت أمارس عادة المِشي مع بعض الإخوة ، رن الجوال ، وكانت البشرى : لقد جاءت فيز الحج .
فرحت فرحا غمر كياني ، وسررت سرورا أحسست به يسري مع الدم في عروقي ، شعرت بجسمي خفيفيا يريد أن يفقز في الهواء ، تذكرت قول الله تعالى: " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ " .
فسجدت شكرا لله تعالى على رصيف الشارع ..
أخي الكريم هذه نصيحة من أخيك الصغير فرج ، اطرق باب الله بآياته يأتيك الفرج ..
ـ 4 ـ
خيــر الـزاد ...
أبلعنا السيد أبو سامي أن تأشيرات الحج موجودة على موقع وزارة الخارجية السعودية ، ولم يكن من الصعب الدخول على الموقع بعد تزويدنا برقم التأشيرات ، وفعلا دخلت على الموقع ، فوجدت عشر تأشيرات منها أربع لحجاج من فلسطين ، أنا وشقيقتي ولحاجين من النبي صالح هما فوزي وأمه ، أما بقية التأشيرات فهي لحجاج من السودان ومصر والقائمة مكتوبة بضيافة الأميرة العنود . تكفل الحاج فوزي بإرسال الجوازات إلى عمان لختم الفيز عليها من السفارة السعودية ، بمساعد زوج أخته ، وأتم الأمر مشكورا بعد ثلاثة أيام ..
وبدأت عميلة الإعداد للرحلة ، تفقدت ما علي من ديون لأصحاب الدكاكين ، والقسط الباقي من ثمن الثلاجة ، وسددتها ، وأحصيت ما لدي من أمانات خاصة وعامة ، وكتبت على مغلفاتها أسماء أصحابها ، وأخبرت زوجتي أن توصلها لأهلها إذا قضى الله أمرا كان مفعولا ..
وبدأت أقرأ وأتعرف على الحج وأركانه وشروطه ، قرأت كتاب " موسوعة الحج والعمرة " للشيخ أحمد حطيبة ، وقرأت باب أسرار الحج من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، وشاهدت ما تيسر على شبكة النت من شرائط حول الحج ومشاهده ومناسكه ، فصارت لدي صورة عن الرحلة ومراحلها ، ورغم اطلاعي على ما توفر من مصادر إلا أنني وجدت الواقع العملي التطبيقي غير الجانب النظري العلمي ، وشتان بين النظرية والممارسة ..
ثم عمدت إلى دفتر جيب صغير فسجلت فيه أمرين : الأول اسماء كل الناس الذين طلبوا مني الدعاء لهم ، وكنت أحرص على سؤال كل أخ أو أخت عن الأمر المخصوص الذي يريده ، فكتبت فلان سلام على الرسول ـ e ـ ، فلان أن ييسر له رب العالمين وظيفة أو باب رزق ، أما الأمر الثاني فقد سجلت الأدعية الواردة عند كل منسك من مناسك الحج ، وظل هذا الدفتر دليل خير استفدت منه كثيرا ورفيق في كل خطوات الرحلة ، وكان أول دعاء فيه :
" اللهم إني نويت الحج فيسره لي ، وأعني على أداء فرضه وتقبله مني ، اللهم اجعلني من الذين استجابوا لك ، وآمنوا بوعدك ، واتبعوا امرك ، واجعلني من وفدك الذين رضيت عنهم ، وقبلت منهم .. لبيك بحجة حقا ، تعبدا ورقا .. "
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، اللهم صلَ على محمد وآل محمد ..
ـ 5 ـ
الحـدود الثلاثيـة ..
معروف في الدنيا أن الحدود ثنائية يتحكم بها طرفان طرف على كل جانب، إلا الحدود بين فلسطين والأردن ، فيتحكم بها ثلاثة أطراف ، ولكل طرف شرعة ومناهجا ، يلاحظ ذلك كل من يعبر الجسر من أهل الضفة مشرقا ..
وصلنا المعبر الفلسطيني مع شروق الشمس ، قطعنا تذكرة الباص بثمانية شواقل ، وتذاكر للحقائب بستة شواقل للحقيبة ، وتذكرة أخرى بمئة واثنين وخمسين شيكلا ، كانت ورقة بيضاء صغيرة عليها خطوط سوداء ، تشبه خطوط تعريف السعر الملصقة على البضائع في المحلات التي تحاسب على الحاسوب ، وقيل لنا هذه الورقة مهمة احتفظ بها سيطلبها اليهود عند المعبر الإسرائيلي ، فيما بعد عرفت أن هذه الورقة تسمى في المتاجر ( البارـ كود ) اخترعها الأمريكان وفيها قسمان كل قسم يتكون من ستة خطوط وستة أرقام ، يرمز كل رقم إلى معلومة تتعلق بالبضاعة من حيث السعر والمبيع ، وبتلك البطاقة يسمح الإسرائيليون بشحنك عبر الجسر ..
ثم أخذنا رقما للدور، وجلسنا ننتظر بدأ الدوام الشتوي على المعبر الإسرائيلي ، والتوقيت صيفي على المعبر الفلسطيني ، قاعة رحبة واسعة فيها شاشة تلفزيون ضخمة كانت تبث في البداية آيات قرآنية ، ثم انتقلت إلى قناة العودة الفلسطينية التي تبث أغاني عن الثورة والقائد والحركة التي أطلقت الرصاصة الأولى ..
عبرنا بنا الباص نحو المنطقة الخاضعة للاحتلال ، وصلنا لقاعة جسر اليهود ، المكان فيه حركة انسيابية ، ولا يوجد قاعة انتظار إلا لبعض الأشخاص الذين قالت لهم الموظفة قبل أن تختم ختم المغادرة : " انتظر على الكراسي ، وينادونك .." وهذا يعني أن جوازك ذهب للفحص الأمنى ، والله يستر ..
تذكرت هنا دعاء تعلمته قبل عشرين سنة من شاب معتقل من مخيم الجلزون التقيت به في سجن الفارعة ، كانت أمه قد ودعته به والجنود يضعون في يده الكلبشات ، ويعصبون عينيه بقماش مخطط يستخدمونه لتنظيف سبطانة البنادق ، ووجدته فيما بعد مفيدا في مثل هذه الحالات :
( اللَّهُمَّ، إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ )
وستر الله ومررنا دون أن نجلس طويلا ، ولم أشاهد قاعة انتظار ولا جهاز تلفزيون يعرض برامج ..
لاحظت في رحلة العمرة قبل شهور أن جدران القاعة زينت بصور كبيرة لزعماء يهود وعرب ، في واحدة يشعل الملك الأب الراحل سيجارة لرابين ، وفي الثانية صورة للملك الابن الشاب يرافق وزير الدفاع الإسرائيلي يهود براك ، وصور غيرها تقول لك أن هذه الحدود تفصل بين الأردن وإسرائيل ، طبعا لا يوجد أي صورة مع زعماء فلسطينين رغم اتفاقيات السلام ، وكأنهم يقولون لا وجود لكم لا في الحرب ولا السلام ، ولكن هذه المرة أزيلت صور الزعماء واستبدلت بصور غير شخصية ، واحدة منها لقبة الصخرة ، وثانية لبشر من أعراق مختلفة يعيشون حالة تعارف وسلام ، طبعا ليس فيها ما يشير للفلسطينين ..
ووصلنا للمعبر الأردني ، وكان هناك قاعة انتظار وأرقام للدور ، وكان هناك شاشة كبيرة تشبه شاشة المعبر الفلسطيني تعرض برامج من قناة ناشيونال جيوغرافيك ، فأعجبتني حيادية المعبر الأردني التي ارتقت على انحيازية المعبر الفلسطيني .
وانطلقنا بالتاكسي شرقا نحو عمان ، وخاطر يسيطر عليَّ ، لماذا كل الحدود عليها طرفان إلا معبر الجسر عليه ثلاثة أطراف ، طرف يسميه معبر الكرامة ، وطرف يسميه معبر اللنبي ، وطرف يسميه جسر الملك حسين ؟
في أحد دروس الجمعة كنت قد تحدثت عن الرقم ثلاثة في القرآن الكريم ، وأنه يُذكر في القرآن الكريم ، غالبا ، في باب الذم والسلب ، رغم أنه كان مقدسا عند الساميين ...
ـ 6 ـ
عمان الشرقية وعمان الغربية
في رحلة الحج كان يجب علينا النزول في عمان للتسجيل مع قوافل بعثة الحج الأردنية ، واضطرننا لقضاء بعض أيام في العاصمة الأردنية التي أزورها للمرة الثانية ، ودائما أقول أن المرة الأولى للدهشة والانبهار ، والمرة الثانية للتأمل والاعتبار ، كما حدث في ركوب الطائرة..
صليت في ثلاثة مساجد في هذه الفترة : في مسجد الملك حسين في الحدائق الملكية في غرب عمان ، وكان عدد المصلين قليلا جدا يعد بالواحد ، وصليت في مسجد الملك عبد الله والذي يقع شرق الحدائق وكان المصلون صفا واحدا ، ثم اتجهت شرقا وصليت في مسجد الحسين بن عون في شرق عمان فكان المسجد مزدحما حتى آخره، فقلت سبحان
الله كلما شرقنا في عمان زاد عدد المصلين وزاد الدين ، وتلك مسألة تبدو أيضا جلية في احتشام النساء ومظاهر التدين الأخرى .
اشتريت نظارة للنظر من عمان الغربية فكان سعرها عشرين دينارا ، واشتريت نظارة للنظر من محيط جامع الحسين في البلد بدينار واحد ، وهذا ينطبق على سعر الحلاقة وغيرها من الأسعار ..
وسكنت عند أقارب في تلاع العلي في عمان الغربية ، والغريب أن في العمارة ثماني شقق ، سبع عائلات منها تعتمد في دخلها على تحويلات من خارج الأردن ، بينما لاحظت أن أهل عمان الشرقية يعيشون من كد أيديهم ..
باختصار في عمان الشرقية تزيد مظاهر التدين وتقل الأسعار
وفي عمان الغربية يقل التدين وتزيد الأسعار ..
تخطر في بالي مقولة لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : الفرق بين الحق والباطل ثلاثة أصابع ، ولما بحثت في معناها ، عرفت أنها المسافة بين العين والأذن ، أو بين ما تسمع وما ترى ..
والفرق بين مكان إقامتي في تلال العلي في عمان الغربية ، وجامع الحسين احد معالم عمان الشرقية الذي كنا نعرف سائق التكسي به ليعرف وجهتنا أيضا ثلاثة دنانير ، قد تنقص أو تزيد قروشا ، كنا لا ندفع إذا زادت ، ولا نطلبها إذا نقصت من السائق ، من باب المروءة التي نحاول نحن العرب التعامل بها خلافا للأجانب الذين يضعون السعر 9.99 .. كأحد مؤشرات خوارم المروءة التي اعتادوها ..
ـ 7 ـ
من شعب فلسطين لشعب كشمير ..
كان لدينا بعض الأيام اضطرننا لقضائها في عمان قبل السفر ، قضيتها برفقة ابن خالي عمر ، وذات مرة دعاني لغداء شعبي في مطعم شهر زاد الشعبي ( أبو مصباح ) ، بعد أن أثار شهيتي بوصفه لصينية كفتة بالطحينية أكلها بالأمس مع بعض زملائه الطلاب ، والأذن تشتهي قبل المعدة أحيانا ..
جلسنا قي المطعم بانتظار صينية الكفتة الموعودة ، جلس مقابلنا رجل وحيد على طاولته ، وعلى الطاولة المجاورة جلس ثلاثة شبان مسلمين من هيئتهم يتحدثون بغير العربية ، قلنا لهم بإنجليزية مكسرة : من أين أنتم ؟
قال أحدهم : من كشمير ..
قال صاحبي : ونحن من فلسطين ، الفرق بيننا وبينكم نقطة . انتم يحتلكم الهنود ونحن يحتلنا اليهود .
أحدهم الذي يبدو أنه يفهم شيئا من العربية ، ابتسم مجاملا ، وتبادلنا أطراف جمل غير مكتملة بالانجليزية المكسرة .. وعرفنا أنهم طلاب يدرسون في الأردن ، لفت نظرني أنهم يأكلون طعاما متواضعا جدا من الخبز المحمص ، ويشربون مع الخبز لبنا من علبة حجم عائلي توفيرا للمال .
قلت لابن خالي : معقول أنهم يأكون خبزا باللبن !!
قال : هذه أكلة تسمى ( عرائس ) ، خبز فيه لحم ويشوى في الفرن.
الرجل مقابلنا شاركنا الضحك ، وانهمك في صحنه المغطى برغيق كبير كشفه عن مشاوي متنوعة مما لذ وطاب .
أنهينا الطعام قبلهم ، فبادر صاحبي وقال : ما رأيك لو ندفع عنهم ؟
أعجبتني الفكرة خاصة ونحن في الطريق إلى الحج ، وفي الحديث : النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف " ، فإذا أطعمت ثلاثة ، فكأنك أطعمت أكثر من ألفين ومئتين شخص ، يا الله كم هي بركات الحج عظيمة !!
ومطعم شهر زاد من المطاعم الشعبية حيث لا تأتيك الفاتورة على طبق أنيق فتطبق على ما في جيبك من نقود ، بل تذهب أنت وتدفع بعد أن يسألك محاسب المطعم ماذا أكلت ؟ على الأمانة .
وفعلا دفعنا عنهم ثمن الطعام الزهيد ، وقلت لهم : فاتورة طعامكم مدفوعة هدية من الشعب الفلسطيني لشعب كشمير ، محاولا بذلك تقليد ما هو مكتوب على أكياس طحين الوكالة ، أحس الكشميريين بالحرج ، ولم يقبلوا ، ومع الإصرار شكرونا ، وخرجنا ..
في عمان أكلنا في مطاعم بعضها في عمان الغربية حيث الفاتورة فوق الثلاثين، على طبق أنيق ينشف الريق ، مع ابتسامة صفراء ، وبعضها عمان الشرقية حيث الفاتورة دون الخمسة ، وتقدم لك مع ابتسامة صادقة .. كلها ذهبت في مجاري عمان الكبرى في نهاية اليوم ، فقط ثلاثة أرغفة محمصة بقيت في رصيدك إلى الأبد ، وبقي طعم صينية الكفتة بالطحينية التي كانت سببا فيها ذكرى طيبة ..
أخي الكريم ، إذا أردت أن تبقي لذة أكلة أمدا بعيدا فقدمها لمن تعرف أنك لن تراه مرة أخرى ...!! ألم يأتك خبر الشاة :
عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : أُهْدِيَ لَنَا شَاةٌ مَشْوِيَّةٌ ، فَقَسَّمْتُهَا كُلَّهَا إِلَّا كَتِفَهَا ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَا بَقِيَ مِنْهَا ؟ " قَالَتْ : مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا ، قَالَ : " بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا " ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَصَدَّقُوا بِهَا إِلَّا كَتِفَهَا .
ـ 8 ـ
غيـرك أشـطر ..
من عادتي أنني أكره المفاصلة في البيع الشراء ، وأحب أن أشتري من المحلات التي لديها السعر محدد وواضح ومكتوب على البضاعة ، لأسباب كثيرة ، فالمفاصلة فن ارتبط في ذاكرتي بالنساء ، وفيها خداع واستغلال واستغفال وهدر للوقت وتضييع للجهد ، واقترنت المفاصلة في ذهني بالأمم المتخلفة ، ثم وفوق كل ذلك كنت أظن أن مفاصلة البائعين لا تجوز في الحج لأنها نوع من الجدل المنهي عنه مع الرفث والفسوق ، فيما بعد عرفت أن مجادلة التجار لا تدخل في باب الجدل المنهي عنه في الحج ، وأن المغبون لا محمود ولا مأجور .
ولكن ما تلقيته من أسعار لرسوم الحج فرض عليّ المفاصلة والتخلي عن طبعي وعادتي ، فقد قرأت في النت أن الحد الأدنى لتذكرة الحج بالطائرة في الأردن يبدأ من ثلاثة آلاف دينار ، ثم سمعت من الأخ فوزي الذي سيسافر معنا أنه سأل فوجد عرضا من إحدى الشركات بالضفة حوالي ألف وخمسمائة دينارا ، الفرق الكبير جعلني أتخلى عن طبعي وعادتي .
صحبني خالي المهندس أبو ضياء ، وقصدنا شركة المسرى الذي حصلت على عنوانها من أبو طارق الذي تعرفت عليه قي الرحلة بين الجسرين ، ثم أعاده اليهود عن الجسر ، وهو صاحب شركة حج من بيتين ، شركة بيتونيا في شارع مكة قدمت لنا عرضا بـ 1250 دينارا ، استبشرت به وقبلته فرحا ، ورغم ذلك قررت السؤال عند شركة أخذت اسمها من الأخ والصديق أبو جهاد ، فلدينا وقت ، والشطارة في المفاصلة ،
وتوجهت برفقة خالي إلى شارع سليمان النابلسي للبحث عن شركة بيسان ،
قابلنا السيد خالد مدير الشركة ، وقدم لنا عرضا بـ 1150 دينارا ، واتفقت معه واعتبرت نفسي شاطرا لا يضحك علي أحد
وعندما التقيت مع الأخ فوزي بالحج أخبرني أنه دفع 830 دينارا ، فثبت في نفسي أن هناك دائما سعر أقل ، وأن هناك من هو أشطر منك ..
ورحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى ، وغفر الله لتجار إذا سألتهم عن السعر وأنت تراهم أول مرة يقولون لك هذا لك بكذا ، ثم يهبطون بالسعر لأنك إذا اشتريت بالصباح يقولون لم يأخذ أحد هذا السعر ولكن نريد أن نستفتح ، وإذا اشتريت في المساء ، يقولون لك أنت أول من يأخذ هذا السعر لأننا نريد أن نقفل ، أو بيعة مساء ..
ومتى ستصير التجارة في بلادنا علاقة منفعة متبادلة ، لا علاقة صراع واستغباء ومماكسة وخاصة فيما يتعلق برحلة دينية مثل الحج ؟!
ولكن هيهات ، ففي الحديث الشريف عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ " .
ألا تلاحظ أخي الكريم أن الرسول عليه السلام قال التاجر بصيغة المفرد ، وذكر النبيين والشهداء بصيغة الجمع !!
ـ 9 ـ
الرحلة الأولى والمسافر الأخير ..
وانتهت ترتيبات السفر من عمان ، وأوصلنا سائق التاكسي أبو علي الذي عرَّف نقسه أنه فلسطيني من بيت جيز إلى مطار الملكة علياء ، وتكتشف في عمان أن أغلب سائقي التاكسي من أصل فلسطيني ، وكأن الرحيل جينات وراثية نتناقلها جيلا بعد جيل..
أول مرة أدخل مطارا مسافرا ، كل شيء جديد ومدهش وأراه لأول مرة ، وصلنا قبل ثلاث ساعات من موعد الطائرة المتجهة إلى المدينة المقرر في الساعة الثامنة والنصف ، أدهشتني فخامة مطار الملكة عالية وتطوره ، ورحنا نتجول في قاعات المطار ، رغبت في فنجان قهوة ، وطلبت فنجانين ، تفاجأت عندما علمت أن الثمن ستة دنانير لكل فنجان ، فكان أغلى فنجان قهوة شربته في حياتي ثمنا ، فشربته حتى آخر قطرة ، لأن كل نقطة بمجيدي ، ولا بأس فهي المرة الأولى التي أحتسي فيها قهوة في مطار دولي تديره شركة فرنسية ، فنجان القهوة هذا كأنه يقول لي الطيارات والمطارات ليست لأمثالنا ، وهذا ما وقع فيه حاج زميل في مطار جدة عندما اشترى ساندويتش شرائح من لحم الحبش مع وريقة خس لأمه فاكتشف أن ثمنه 49 ريالا ..
كنا نتابع نداءات تصدر من سماعات القاعة تدعو المسافرين المتأخرين للمسارعة للحاق برحلاتهم إلى لارنكا والإسكندرية وباريس وغيرها ..
وكنا نتابع شاشة حركة الطائرات، وفي الساعة الثامنة والنصف كانت الشاشة تقول : .. رحلة المدينة المسافر الأخير..
وكنا ننتظر أن تنادي السماعة علينا ، ومرت دقائق ، ونحن نتجول في قاعات الانتظار ،
ثم فجأة سمعنا أسماءنا يُنادى عليها النداء النهائي ، ركضنا على وجوهنا في قاعات المطار ، ثم قابلنا أحد موظفي شركة عالية غاضبا حانقا ، وركض أمامنا ، وتبعناه ، ثم قابله أحد موظفي المطار ، وقال له : لقد طارت الطائرة ، وضاعت الرحلة عليهم ، وطلب منا إخراج حقائبنا من قاعة الانتظار ، ووقع الخبر علينا كالصاعقة ، وعرفنا أننا كنا المقصودين بالمسافر الأخير على شاشة حركة الطائرات ..
ثم تدخل موظف كبير في المطار، عندما رأى بؤس موقفنا، رتب أن نسافر على طائرة متوجهة للمدينة المنورة في الساعة الثالثة بعد الظهر .. وبدأت إجراءات طويلة ومعقدة ، انتهت بأن سافرنا على طائرة الثالثة ..
وتعلمت درسا قاسيا في الفرق بين الرحلات الأرضية والرحلات السماوية ، على الأرض هناك في الغالب فرصة للتأخير وانتظار المتأخر ، فقد ينتظرك الباص أو التاكسي لدقائق ، أما الطائرات التي تسافر في السماء فهي لا تنتظر أحدا ، حتى ولو كان ذاهبا للحج ، ويسافر لأول مرة ، ومستعد لأن يدفع ثمن فنجان قهوة ثلاثين شيكلا ، وتسع ساعات من الانتظار .
كنا نسمع من كبار السن في بلدنا ، حين يخطأ الرجل لأول مرة ، وحين يكرر الخطأ :
" الأولى لك ، والثانية عليك ، والثالثة لا ردك الله .. "
فتعلمت الدرس من الأولى ، ولا يلدغ المؤمن من حجر مرتين ..
ـ 8 ـ
على الطائرة لأول مرة
منذ دخولي المطار وشعور الدهشة لا يفارقني ، كل شيء جديد ومدهش ، وعندما اقتربت ساعة الانطلاق نظرت في القاعة رقم 45 التي يجتمع فيها ركاب رحلة المدينة المنورة فدهشت من عدد المسافرين ، وتذكرت جدتي التي سافرت لأول مرة من عمان إلى الكويت ، وعندما رأت عدد الركاب الكبير الذي سيصعد إلى الطائرة رفضت الركوب ، لأن الباص لا يحملهم على الأرض ، فكيف ستحملهم طائرة في السماء !!
ونزلنا من القاعة إلى الطائرة في طريق مكيف ومفروش بالموكيت، ثم دخلنا ممر طويل هو الخرطوم الذي ينقل الركاب إلى الطائرة ، فوجدنا أنفسنا داخل مركبة تزدحم بالكراسي، ساعدتنا مضيفة بالوصول إلى الكرسي المخصص لنا ، فوجدت نفسي أجلس وراء الجناح بجوار الشباك ، وخطر في بالي بعض المشاهير الذين يخافون من ركوب الطائرات ولم يركبوها ومنهم الأديب نجيب محفوظ ، والمطرب محمد عبد الوهاب ، وقريبنا الدكتور أبو بلال فأحسست بالإعجاب بنفسي لأني أمتلك من الجرأة ما لا يملكون ، وبعجب المرء بنفسه عندما يجد من يفوقهم شجاعة خاصة إذا كانوا من المشاهير المصابين بفوبيا الأماكن المرتفعة ، رغم أن الإحصائيات تقول أنه لو حدث كارثة على الأرض ومات كل من عليها فسوف ينجو من سبعة إلى عشرة ملايين شخص يكونون دائما مسافرين على متن الطائرات ، وأن معدل حوادث الطائرات أقل من واحد في المليون من الرحلات الجوية ..
دارت الطائرة على درج المطار بخفة وثقة ، وكأنها سيارة حديثة ، ثم أخذت سرعتها تتسارع
ومرت المضيقات يتفقدن أحزمة الأمان ، وأسرعت ثم انطلقت ، يقال أن سرعتها لحظة الإنطلاق تكون أكثر من 300 كم/الساعة ، وأخذت ترتفع وأخذت الأرض تبتعد ، أحسست برجلي ترتجفان تحت الكرسي، فأغلقت ستارة الشباك ، لكي أوقف ارتجاج رجليّ ، فما كان من مضيفة سمراء إلا أن قالت لي بالإنجليزية : افتح الشباك من فضلك . والعجيب أن مضيفات عالية البدويات لا يتكلمن مع أهل الكرشات والزماليع إلا بالإنجليزية !!
وبدأ صوت يملأ فضاء الطائرة لا نعرف مصدره يتلو قواعد السلامة ، ومن عجيب القواعد أنه في حالة حدوث خطر فعلى الركاب أن يخفضوا رؤوسهم تحت مستوى الكراسي أمامهم ، فقلت صدق المثل ساعة الخوف والرعب الشديد : " حط راسك بين الروس " وماذا سيجدي خفض الرؤوس إذا هوت الطائرة من هذا الارتفاع الشاهق ؟
ورحت أختلس النظر إلى الأرض البعيدة ، والجبال الراسيات ، فقلت يا الله ، كيف سيكون يوم القيامة يوم تسير الجبال سيرا ، ثم ينسفها ربي نسفها ، وخطر في بالي فورا آية كنت قد حفظتها مؤخرا من سورة الحج : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) فقلت سبحان الله ما أدق تصوير القرآن لقمة الشعوربالخطر .!!
فرحت دون أقصد أتلو دعاء السفر : كبرت ثلاثا ، ثم قلت : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون
وفجأة خطر على بالي سؤال : ما معنى مقرنين التي نرددها دائما في دعاء السفر ؟؟
والآن وأنا أكتب خواطر حاج بحثت عن معناها فوجدت أنها مشتقة من قرن وهو المساوي لك في القوة ، فقوتنا لا تتساوى مع قوة الريح ولا قوة الحديد ، وليس لنا طاقة في حمل هذه الطائرة ورفعها في الهواء ، ولكن الله تعالى جعل لنا عقولا وسخر لنا الحديد والنفط ، فجعلنا بهذه العقول نسيطر على ما هو أقوى منا ونستخدمه ونتحكم به .
و جاءت المضيفات أعرابيات الملامح انجليزيات اللهجة بالطعام المعلب ، فرحنا نفك الأغلفة ، ولم نكن بحاجة لتقسيم أرغفة ، فهي أصغر من اللقمة الواحدة ، ولما حضر الهرس بطل الدرس ..
ـ 9 ـ
إطلالة من منارة الأقصى على ثاني الحرمين
في المدينة نزلنا في فندق منارة الأقصى ، ويقع قريبا منه فندق ضيوف خليل الرحمن ، استبشرت بالأسماء خيرا ، فأنا في بلد تحترم أرض فلسطين ومعالمها ، ولا بدّ أنها تحترم مع ذلك أهلها ، كما احترمت يوما رسولنا الكريم عليه السلام ، وعرضت أن تستضيفه وتنصره بالمال والأنفس ، فتحولت من " يثرب " معبر القوافل الشامية إلى " المدينة " مقر الخلافة الإسلامية ، ثم صارت بعد وفاة الرسول عليه السلام المدينة المنورة ، بعدما أنارت بنور الرسالة السماوية ، عندما تتعرف عليها وتعرف أهلها تدرك أنها حقا المدينة الفاضلة التي كان يبحث عنها الفلاسفة عبر التاريخ ..
استقر بنا المقام في الفندق ، وكنت أول النازلين في الغرفة الرباعية ، وضعت حقيبتي واغتسلت ، وأسرعت خارجا أبحث عن الحرم النبوي الشريف حيث الصلاة بألف صلاة وحيث قبر الرسول عليه السلام ، قطعت شارعين ، وواجهني الحرم تشع أنواره في سماء المدينة وفي قلب المشتاق للسلام على أعظم رجل مشى على وجه الكرة الأرضية.
أخرجت الدفتر الصغير ، ووقفت أمام المسجد النبوي وقرأت منه :
" اللهم هذا حرم رسولك ، فاجعله لي وقاية من النار ، وأمانا من العذاب وسوء الحساب ، بسم الله وعلى ملّة رسول الله ، ربِّ أدخلني مدخل صدق ، وأخرجني مخرج صدق ، ةواجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا .. "
صليت المغرب متعجلا ، وقصدت القبة الخضراء ، فوجدت عند باب السلام الذي يؤدي للقبر الشريف حشودا هائلة لا تعد ولا تحصى ،
فعدت أدراجي ورحت أستطلع الحرم ، وقلت أزور قبر الحبيب بعد صلاة العشاء لعل الحشود تخف ، وأجد فسحة للوقوف أمامه ، وأبث أشواقي وسلاماتي في فسحة من الزمن ..
وعدت بعد العشاء فوجدت الحشود قد زادت ، وقلت أنتظر لعل الحشود تخف وأحظى بفرصة سلام حار على الرسول الكريم ونظرة متأنية على قبره النوراني ..
فعدت بعد ساعة والأمر كما هو ، ثم بعد ساعتين ، وانتصف الليل والحشود تتزاحم عند باب السلام ، وجاء الثلث الأخير وقررت أخيرا أن أدخل فالحشود لا تنتهي ، واستسلمت للزحام وتحركت مع الجموع ببطء وخشوع ، وصرت أمام القبر قلت والناس يدفعوني من الوراء :
ـ السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، أشهد .. ..
لم أكمل الشهادة ، دفعتني الحشود ، حتى وجدت نفسي أمام قبر أبي بكر ، قلت :
ـ السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك أيها الصديق ، أشهد ..
ولم أكمل الشهادة مرة أخرى وأمام دفع الناس وجدت نفسي أمام قبر عمر :
ـ السلام عليك يا عمر ، السلام عليك أيها الفاروق ، أشهد أنك ..
وحالت الجموع الزاحفة ، دون إكمال الشهادة لعمر ، ثم وجدت نفسي مع كتلة من البشر خارج المسجد ، ابتعدت عن الزحام ، وفي نفسي كلمات لم أكملها ، وعبرات لم أسكبها ، وأشواق لم أبثها .. وقررت العودة في وقت عاجل ، لعلي أجد بضع ثوان أكمل فيها السلام على خير البشر ..
أخي الكريم : ربما يكون الرزق عند تزاحم الأقدام ، ولكن دموع الخشوع تحتاج خلوة لدقائق مع الرحمن ، وأولياء الرحمن ، في العمرة لديك متسعا لأن تقف وتبث أشجانك ، أما في الحج أيام العج والثج ، حيث الجموع الهائلة الزاحفة ، فحظك من الرسول عليه السلام نظرات خاطفة ..
ـ 13 ـ
البقيع .. وخارطة بلا بوصلة
زائر المدينة لا بد له من زيارة البقيع حيث يرقد صحابة رسول الله عليه السلام ، زرت البقيع لأول مرة في العمرة ، وبالحقيقة خانتني مشاعر الرهبة والخشوع والتعظيم للراقدين فيها ، حيث لم أعرف ومن معي أي قبر من القبور ، فلا شواهد ولا أسماء ، وإذا سألت الحراس كانت لهم إجابة واحدة ، هذه القبور لا أحد يعرف أصحابها على وجه الدقة ، سلّم وامش .
فرحت مع المعتمرين نسلم ونمش ، سلام نحاول أن نبث فيه حرارة التوقير وصدق الشعور لأصحاب القبور ، وسلام نحاول أن نستشعر معه حميمية اللقاء وصدق الوفاء ، ولكن خانتنا المشاعر ، فأنت تسلم على من لا تعرف ، وعند القبور التي لا تعرف أصحابها تغيب الخصوصية والحميمية .
ابن خالي أبو حذيفة ذهب بعدي للعمرة ، وأخبرني أنه زار متحف المدينة المنورة ، وهناك رأى خارطة تبين أصحاب القبور بدقة ، وأنه صورها على الجوال ، وزار القبور ووقف عند مشاهير سكان البقيع من العظماء ، فعمدت قبل الحج بالبحث في النت عن خارطة للبقيع ، وفعلا وجدت عددا من الخرائط المفصلة التي تبين قبور الصحابة وزوجات الرسول عليهن السلام وابنه ومرضعته ، فطبعت الخرائط وقلت هذه المرة سأقف عند كل قبر وأسلم على صحابه وأنا أعرفه ، وأستذكر ما أعرفه عنه من مواقف مشرفة في الدفاع عن الإسلام ، لعلي أوفيهم حقهم من فيض المشاعر ، ولكن خطتي هذه المرة فشلت أيضا لسببين .
السبب الأول إداري لأن أعداد الزائرين كانت كبيرة جدا ، والازدحام شديد ، والطوابير متلاصقة ، فلا فرصة للوقوف على القبور ، والشرطة تحث الناس على السير وعدم الوقوف .
السبب الثاني خاص ، فأنا يا جماعة من الذين ينقلب رأسه إذا سافر إلى بلد جديدة ،
فتختلط في رأسه الاتجاهات ، حدث هذا بداية عند ركوب الطائرة فطوال الطريق كنت أحس أننا نسافر باتجاه الشمال ، رغم أن المدينة جنوب الأردن ، وهذا ما تواصل معي في المدينة ، فكنت طوال الوقت لا أعرف الشمال من الجنوب ، وأحس بأن الشمس تشرق من الغرب ، وضللت طريقي مرتين وأنا عائد إلى الفندق ، لذلك لما وصلت للبقيع وفتحت الخرائط لم أنجح في تحديد أصحاب أهل القبور ، وكنت بحاجة لبوصلة ، والخارطة بلا بوصلة خرابيش وخطوط لا معنى لها ..
التقيت بشابين من حجاج السودان ، تشاركنا محاولة التعرف على أصحاب القبور ، اجتمع حولنا حجاج كثيرون ، بعضهم طلب الخارطة ، وبعضهم اكتفى بتصويرها ، وعرفت من الشابين أن الحجاج في السودان لا ينتظرون على الدور ، وأن من يملك ثمن التذكرة وتكاليف الحج يستطيع الحج مهما كان عمره ، واكتشفت أن الأمر ينطبق على معظم الدول الإفريقية المسلمة ما عدا الدول العربية .
قلت لرفيقي السودانيين : ألا تلاحظان أنه رغم أعداد الحمام الهائلة في المقبرة ، والتي تبحث عما يلقيه الناس من حبوب الأرز والقمح وغيرها ، فلا يكاد الإنسان يرى آثار لوسخ الحمام في المقبرة .
قال أحدهم : هناك بعض الفضلات ، ولكن قليلة جدا لا توازي أعدادها الكبيرة .
وخرجت من البقيع وسؤال يلح علي :
إذا كانت القبور معروفة ومعروف أصحابها ، وهناك خارطة لأصحاب القبور في متحف المدينة لماذا لا يوضع ما يشير إليها ، ولماذا يرفض حراس البقيع تعريف الزوار بأصحاب القبور ؟؟!!
وكان التبرير الذي اطلعت عليه فيما بعد أن بعض أصحاب الطرق والفرق الإسلامية الذين يبدون احتراما خاصا لبعض الصاحبة يقومون بأخذ التراب والحصى من موقع القبر للتبرك بها ، واخفاء اسماء أصحاب القبور لمنع تلك البدع التي لا أصل لها في الشرع .
عرفت من صديق وهوعقيد متقاعد أنه في العلوم العسكرية هناك علم خاص يسمى علم الخارطة والبوصلة ، وهما أداتان متلازمتان لا قيمة لواحدة دون الأخرى ..
ـ 14 ـ
طيبة الطيبة .. وعصبية أبو الهول ..
الفلسطيني مصاب بداء المعاشرة ، لذلك ما أن يتعرف على شخص حتى يفتح معه حديثا ذا شجون ، ومن أهم شجونه السياسية وأهلها ، وهذا ما حصل معي مع السائق السعودي من أهل المدينة الذي أقلنا من المطار إلى الفندق ، فبعد التعارف ، وإظهار تعاطفه مع أهل فلسطين ، قادنا الحديث إلى مصر ، فقال:
نحن الشعب مع إخواننا المسلمين ، ولكن الحكومة مع السيسي ، ونحن مع الحكومة .. فتعجبت من هذا المنطق ، وقلت ربما هذا ما جعل الناس يسمون المدينة المنورة طيبة لطيبة أهلها ، وبين الطيبة والبلهة شعرة أو فكرة ..
في اليوم الثالث عدنا من الحرم بعد صلاة العشاء فوجدنا ميكروباص يعرض علينا نقلة مجانية لزيارة مول مجمع القارات في طرف المدينة المنورة ، وأسعار الموصلات أيام الحج ترتفع ارتفاعا جنونيا ، إلا المواصلات على المولات فهي مجانية ، لذلك الطاعات في تلك الديار مضاعفة الأجر، أما تضييع الأوقات فهي مجانية، ترددنا في البداية ولكن شريكتي في الحج أصرت، فقلت لا بأس ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا .
قضينا بعض الوقت في المول ، ولم نقاوم غريزة الاستهلاك التي زرعتها حضارة القرن العشرين فينا مثل بقية الناس ، واشترينا بعض الأغراض وعدنا
في طريق العودة ركب معنا ثلاثة مصريين من العاملين في السعودية ، ورجل وزوجته يبدو من لهجتهما أنهما تونسيان ، كان الشباب مرحين فكهين فاندمجنا معهم بسرعة , وتعارفنا ، فقال لي المصري واسمه جمال :
_ خرجتم من الأنفاق أم من المعبر .
قلت له : نحن من الضفة ، والضفة ليس فيها أنفاق ومعبر والناس تخرج عبر الجسر .
السائق السعودي أعجبه الجو المرح ، فوضع شريط لزجل شعبي سعودي ، طلب الشاب المصري الجالس بجوار جمال من السائق وضع أغنية لأم كلثوم ، وطلب المصري الجالس في الأمام أن يضع أغنية " تسلم الأيادي " ، هنا تدخل فلسطيني وقال مازحا : عندنا في فلسطين يقولون السيسي مع اسرائيل ومرسي مع فلسطين .
وفجأة قامت قيام الشاب جمال المصري الجالس خلفي ، وقال بغضب : الفلسطينيون هم سبب مشاكلنا في مصر ، قتلوا بعضهم أولا ، واليوم يقتلون الجنود المصريين . هم سبب كل البلاوي التي نزلت فينا .
قلت : يا راجل حرام عليك ، الشعب الفلسطيني مظلوم ومقهور ، وأهل مصر أهلنا ، أنت تصدق إعلام الانقلاب ..
قلت الانقلاب وثارت ثائرته ، وصار يصرخ ، ورفض أن يستمع لي ، تدخلت المرأة التونسية : ربنا يهد الظالمين ..
وتعجبت كيف انقلب المصري الطيب المرح إلى رجل غاضب متعصب يرفض حتى الحديث معنا .
عندما نزلن اعتذرت منه إذا قلت ما يغضبه ، وقلت له نحن جئنا للحج ، ولا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج .
عدت إلى الفندق وأنا مندهش من موقف هؤلاء المصريين من الشعب الفلسطيني ، وقررت أن لا أحدد موقفا من مسألة سياسية في الحج ، لأن التعصب والحقد والكراهية بلغت درجة بغيضة بين أبناء الأمة الواحدة ..
وللأسف هذا ما رأيته بأم عيني بين السنة والشيعة من أهل العراق ، وبين مؤيدي ومعارضي بشار من السوريين ، شرخ عميق من الكراهية وجدار كبير من البغضاء حلت بين أطراف النزاع في بلاد العرب ..
عجيب أمر أمة العرب ، الاقتصاد يجمع بضائع القارات في بناية واحدة ، والسياسة تفرقهم ولو كانوا ركاب سيارة صغيرة في مدينة النبي الذي وحد العرب بعد أن كانوا قبائل متصارعة ..
وتذكرت أن أبا الهول حسب الأسطورة يقف على باب مدينة أسطورية أسمها أيضا طيبة ، وتأشيرة الدخول إلى تلك المدينة هي معرفة جواب سؤال يطرحه على من يريد الدخول : شيء يمشى أول النهار على أربع ، وفي منتصف النهار على اثنتين وفي المساء على ثلاثة ، ما هو ؟
ولكن تأشيرة دخول مكة والمدينة هي شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فاختر لنفسك منهاجا ، والمنهاج يحدد الأسئلة ..
ـ 15 ـ
قــرد الجامــع ..!!
نزل معي في فندق منارة الأقصى ثلاثة حجاج من البعثة الأردنية ، من أصل فلسطيني ، قضينا معا أياما طيبة في مدينة طيبة ..
أبو أنس يقيم في عمان وبقية أهله في الدهيشة ، موظف في مدرسة خاصة يعمل إداري في بعثة نقابة المعلمين في الأردن ..
أبو بكر إمام مسجد في السلط ، وجاء مرشدا في بعثة الأوقاف الأردنية ، مرجعنا الفقهي في الغرفة .
أبو عمر مرشد بعثة نقابة المعلمين ، وهو أيضا إمام مسجد ..
ودارت بيننا أحاديث في شتى المجالات ، والحديث ذو شجون ، ودار الحديث عن الأئمة والمساجد ومشاكلهم ، فكان أن حدثنا أبو عمر قصة طوشة مع أحد المصليين أدت إلى محاكمة ، قضى فيها القاضي لصالح الإمام ، علق أبو أنس قائلا : خصمك هذا من قرود الجامع ولكل جامع قرد .
أعجبني مصطلح قرد ، فسألت زملاء الغرفة عن صفات وممارسات قرد الجامع ؟
فعرفت منهم أنه رجل فضولي لا يخلو منه مسجد ، يتدخل في كل شأن من شؤون الجامع ، يعين نفسه مشرفا على الآذان والإقامة ، فلان يقيم الصلاة وفلان لا يقيم الصلاة ، فلان يتقدم للإمامة وفلان لا يتقدم للإمامة ، إذا أم الإمام وأطال يقول له كسرت رجلينا يا شيخ ، وإذا اختصر يقول له : ما لحقنا نقرأ الفاتحة ، إذا خطب الخطيب عن الفقه قال له : لماذا لا تتحدث عن مشاكل المسلمين اليوم ؟ وإذا خطب إمام المسجد عن أحوال المسلمين اعترض وقال لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ..
إذا دخل المسجد صار يتفقد الكراسي والميكرفون والمصاحف ، وعند كل حركة يتذمر من المصلين ، وقد يصل الأمر لأن يشتم المصلين الذين لا يحترمون قدسية المساجد ، باختصار يحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة ، لا لكي ينصح بل لكي يفضح ، ويقول للناس أنا هنا ..
سمعت مرة أمير جماعة من جماعات الدعوة والتبليغ زارت مسجدنا يرشد أفراد الجماعة ، ويقول لهم : . .عندما تفتحوا مصحفا فلا تغيروا مكان الخيط ، لأنه قد يكون موضوع من قبل مصلي من أهل المسجد ليعرف أين وصل في القراءة ، وتغيير الخيط يضايق صاحبه ..
وصرت أقيس تلك المواصفات على بعض من أعرفهم من المصلين ، لأحدد من هو قرد الجامع في مسجدنا ، فوجدتها تنطبق على بعضهم ، والأمر مرتبط ايضا بشخصية الإمام ، فلاحظت أنه كلما زادت قوة شخصية الإمام وانتمائه لوظيفته ، قلّ عدد قرود الجامع ، والعكس صحيح ..
وذات يوم اشترى أبو بكر كاميرا رقمية، وطلب أن أساعده في ضبط التاريخ ، وكان حريصا على ذلك ، شدة حرصه جعلتني أسأله : وماذا يهمك التاريخ ؟ فقال : بالواقع ، كلفني أحد الأخوة أن أحج عن أبيه ، ودفع لي مقابل ذلك ، وأريد أن أتصور وأنا أنوي الحج عن والد الرجل ..
خلال الرحلة تبين لي أن كثيرا من المرشدين في قوافل الحجاج ، خاصة من الذين يحجون كثيرا ، يتلقون أموال مقابل الحج عن آخرين ، ومنهم من يحج تطوعا
رحم الله الأموات ، وتقبل من الأحياء ، وتقبل الله طاعتكم يا أصحابي في المدينة ، وجمعنا الله بكم في الجنة ، وهدى الله كل رواد المساجد ..
ـ 16 ـ
اليد المقطوعة في غانا ..
في المدينة ومكة فنادق ومحلات ومطاعم تعطل طوال السنة ولا تفتح إلا في رمضان والحج ، وبعضها يفتح فقط في الحج ، ومن مطعم صغير مقابل فندق منارة الأقصى الذي نزلنا به خلال إقامتنا في المدينة ، غالبا ما تجد لديه وجبة واحدة هي الدجاج ، ومما يدل أنه أعد على عجل قلة التجهيزات فيه ، ولفت نظري أنهم كانوا يضعون الدحاج المشوي على قطعة كبيرة من الورق ، وبجواره الأرز المسلوق بسرعة ، قرب المطعم رغم رداءة الخدمة فيه جعلنا من زبائنه الدائمين .
مع الوقت تعرفت لمحاسب الفندق ، وهو رجل أسود ذو لحية طويلة خفيفة من غانا ، أو ساحل الذهب سابقا ، وقامت بيننا حوارات سريعة كان سببها أن الرجل يتكلم اللغة العربية الفصيحة ، وهذه إشارة أن الرجل متعلم ومثقف ، وكنت كلما رأيت مسلما غير عربي أقول في نفسي من هو صاحب الفضل الذي أدخل هؤلاء في الإسلام ، فأضاف إلى كتابه حسناتهم حتى يوم القيامة ؟
قلت له عندما تعارفنا : من أين أنت ؟
قال : أنا من غانا الغنية بالذهب كما سماها تجار العرب الذين نشروا الإسلام فيها ، وأنت من أي البلاد ؟
فلت : أنا من فلسطين المحتلة ؟
فقال لي : من فلسطين الضفة أم من فلسطين غزة ؟
فقلت له : من فلسطين المحتلة ، وأنت هل لديكم احتلال ؟
قال : غانا احتلها الإنجليز ، ولكنهم لم يحتلوا المنطقة التي يعيش بها المسلمون .
قلت : وكيف ..؟
وقص لي فصة عجيبة ، جرت أثناء الاستعمار البريطاني لغانا التي كانت تسمى ساحل الذهب ، ما زلت أرددها لكل من زارني بعد الحج .لأن فيها معنى العزة لشعب فقير صغير في مجاهل إفريقيا ..
قال : عندما جاء الإنجليز إلى غانا دخولها بسهولة ، فهي بلاد فقيرة متخلفة كانت تحكمها قبائل متنازعة ، ولما أرادوا الدخول إلى المقاطعة التي يسكنها المسلمون جاء القائد الإنجليزي مع عدد قليل من الجنود ، وظنها سهلة كباقي المناطق ، تصدى المسلمون للقائد الإنجليزي وجنوده ، وأسروا القائد ، ثم جرت مفاوضات بين أهل بلدي والإنجليز ، كانت نتيجتها أن يطلق سراح القائد ، ولا يدخل الانجليز للبلد ، أطلق أهل بلدي القائد ولكنهم أخذوا منه تذكارا ، قطعوا كف يده اليمنى ، ووضعوها في دار البلدية ليراها الناس ، وما زالت هذه اليد المقطوعة موجودة ومحفوظة حتى اليوم ليعرف من يحاول احتلال بلادنا مصيره ..
كثيرا ما كنت أسمع شخصا ما يقول : " اليد اللي بتمتد علينا رح نقـطعها " ، وما كنت أظن أن هناك من يقطعها ويحنطها ويعلقها في مكان عام ، ويجعلها تذكارا يراها كل زائر لتلك البلاد ، فإقامة الحد على من يسرق البلاد أولى من إقامة الحد على من يسرق يضع دراهم ..
قبل الرحيل من المدينة إلى مكة ودعت اثنين : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الرجل الأسود الذي هو من سلالة الأُسـود ..
_ 14 _
من أنوار المدينة المنورة ...
كنت كلما شاهدت رجلا يبكي خشوعا في حرم الرسول عليه السلام أو عند قبره ، أسارع للتعرف عليه ، وأعجب عندما أجده لا يتكلم العربية ، فأحاول معه ببعض الإنجليزية ، فأجده لا يعرف أيضا الإنجليزية ، فأعرف يقينا معنى قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ، يا أيها الناس ألا ان ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر الا بالتقوى ..
في الليل خاصة وعمار المسجد بين دعاء وتضرع وقراءة قرآن تتحرك قباب ضخمة فوقهم ، وتفتح سقف المسجد على السماء ، فينساب في النفس أن السماء قريبة والدعاء مستجاب ، وكنت أظن أنها ثلاثة أو أربع قباب ، وعندما بحثت وجدت أنها 27 قبة ، ذلك مشهد مهيب يذكرك فورا بقول الله تعالى : وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً..
رأيت رجلا من أهل المدينة عليه سمات الوقار والإيمان يراقب قراء القرآن في المسجد الحرام ، ثم يعمد لمن يراه يقرأ بخشوع ويهديه مصحفا صغيرا ، مع هدية لم أتبينها ، ويهمس في أذنه ، أظنه كان يطلب منه أن يقرأ به ..!! هذا رجل عرف كيف يتقرب إلى الله تعالى بأقرب الناس إليه ، لقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : '' أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته''
عند زيارة مسجد القبلتين ، يشعر المسلم بقوة الدين القادرة على تغيير الاتجاه بكلمة ودون اعتراض ، فإذا استقر الأيمان صارت الاستجابة لأوامر الله تعالى وسنة رسوله سهلة ، فما أسهل أن نتغير عندما تتغير النفوس ، فيكون منهجهم : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ..
أحيانا تحدث مع المسلم موافقات بسيطة وصغيرة ، ولكنها تكون بمثابة رسالة ذات تأثير كبير في نفسه ، تزيد إيمانه ، وتقول له هذا دين الحق فاستقم واثبت واحذر أن تنتكس أو ترتكس ومنها هذه الحادثة ..
في السنة الماضية عاد جارنا الحاج أبو ضياء من الحج ، وهو رجل فلاح نشيط ، لا يعرف السير البطيئ ، ومما ذكره في باب شرح مدى اتساع ساحات الحرم النبوي ، أنه قرر ذات ليلة أن يقيس محيط ساحات الحرم النبوي من حدودها الخارجية ، وذكر متعجا أنه احتاج لقطع المسافة 38 دقيقة ، وذات مرة أمام مسجدنا ذكرت هذه المعلومة أمام مجموعة من المصلين بعد الصلاة ، وكان بينهم الأخ أبو عمر ، فاستهجن المسافة ، وقال بأن في الأمر مبالغة ..
ذات ليلة وبعد صلاة المغرب قررت أن أقيس محيط المسجد الحرام من الخارج ، وكنت خلال المشي أفكر بالأخ أبو عمر من أهل كفرمالك الذي استغرب عندما قلت له أن أبو ضياء قال أن الطواف حول ساحات المسجد النبوي استغرقه 38 دقيقة ، واضطررت لقطع التجربة حين حانت صلاة العشاء ، وقبل أن أدخل رن الجوال وكان المتصل أبو عمر فقلت سبحان الله على هذه المصادفة العجيبة ..
كان خاطرا يصاحبني طوال فترة مكوثي في المدينة ، لقد عرض الرسول عليه السلام على القبائل أن تنصره وتحميه كي يبلغ رسالة ربه ، وعرض نفسه على القبائل ، وبالنهاية قبل أهل يثرب نصرة الرسول الكريم ، فصاروا أنصار رسول الله ، ودفن الرسول عندهم ، فصارت مدينتهم مقصد الملايين من شتى أنحاء العالم ، لقد ربح الأنصار الدنيا والآخرة ، الله بارك بالأنصار ، وصدف من قال : بع دنياك بآخرتك تربح الدنيا والآخرة ، ولا تبع الآخرة بالدنيا فتخسر الآخرة والدنيا..
ونحن نغادر المدينة كانت عبارة واحدة تجول على ألسنة الحجاج وقلوبهم : اللهم لا تجعله آخر عهدنا بحرم نبيك، واجعلنا من عواده مرة بعد مرة .. آمين .
ـ15 ـ
في الطريق إلى مكة ...
أبلغنا مندوب الشركة التي نتبع لها أن الانطلاق إلى المدينة سيكون في الساعة الثانية من ظهر يوم الثلاثاء ، ثم تأجل إلى الساعة السابعة من صباح الأربعاء ، ومن السابعة إلى التاسعة ، وجاءت التاسعة والعاشرة ، والباص لم يأت ، فراح الحجاج الذين حزموا أمتعتهم ووقفوا ينتظرون ساعات طويلة أمام الفندق يرمون مندوب الشركة بسهام النقد والتجريح ، ولم تتوقف المعركة مع المندوب إلا عند وصول الباص عند الساعة الواحدة ظهرا ، ونقلنا حقائبنا بهمة ونشاط يحملنا الشوق إلى بيت الله العتيق .
صعد الركاب الباص وبدؤوا برمي سهام الشكوى من جديد فالباص قديم ، ولم يتوقف التذمر من قدم الباص إلا عند الإنطلاق حيث بدأ التذمر من مكيف الباص السيء الصوت والتبريد ، ولكنهم نسوا سوء حالة الباص والتكييف عندما طلب السائق المصري ، وهو رجل طيب من جماعة التبليغ والدعوة كما عرف نفسه ، من يدله على الطريق ، فهو لأول مرة يسافر خارج المدينة .
حلت التكنولوجيا المشكلة عندما اقترح عليه أحد الركاب أن يفتح الخط مع سائق زميل ويرشده خطوة خطوة . ولكن حل المشكلة جعل السير بطيئا والطريق طويلة .
ثم جاء دور المرشد الذي يجلس في مقدمة الباص ، واكتفى بأن قرأ لنا دعاء السفر وذكر مناسك الحج في عجالة ، وانشغل الحجاج بالتلبية لمدة ، ثم سكتوا ، بادرت إلى ميكرفون الباص الذي يصدر صوتا فيه صدى مثل أبواق الأعراس في السبعينيات قبل اختراع الدي جي ، حدثت الناس عن مكانة بيت الله الحرام ، والحكمة من جعل الكعبة على اليسار وكل ما في الإسلام يبدأ باليمين فنحن من أمة تيامنوا ، وقصصت عليهم قصة مالك بن دينار مع هارون البلخي ، ولكن السائق كان يطلب مني أن أقطع الموعظة كل خمس دقائق ليسمع صوت زميله الذي يرشده للطريق .
أنهيت مواعظي ، وطلبت من أحد الحجاج صاحب صوت رخيم ، أن يسعفنا في هذه الرحلة ببعض المدائح النبوية والأناشيد الإسلامية ، رغم أن الرجل كان ثقيل الوزن يتجاوز المئة وثلاثين كغم ، إلا أنه ، والحق يقال ، طار بالقلوب في سماء الإيمان ، وحلق بالنفوس في أجواء الحج ، فصفى نفوسنا من كدر التذمر على التأخير وسوء التكييف ..
وزاد التأخير تأخيرا أن السماء أرعدت وأبرقت وانهلت أمطار رعدية غزيرة ، واكتشف السائق ان مساحات الباص لا تعمل ، وتتوقف فجأة ، فكان على السائق أن يقف كل فترة ليشغل المساحات يدويا ..
وصلنا إلى مركز تفويج الحجاج في ظاهر مكة ، أكرمونا بوجبة مجانية هدية من خادم الحرمين ، تلقى الحجاج الوجبات شاكرين ، ثم جاء من يوزع علينا كتبا ، تناولها الحجاج ووضعوها على الرفوف فوقهم ، واحد أو اثنان فتحوا الكتب ليروا ما فيها ثم وضعوها جانبا ...
وصلنا الفندق عند الساعة الواحدة فجرا ، أي بعد 12 ساعة من السفر ، وكان يجب أن نقطع المسافة بين المدينة ومكة التي تقرب من 400 كم بأربع ساعات ..
تعلمنا من هذا الجزء من الرحلة أن الهموم يمحو بعضها بعضا ، والتذمر يزيله تذمر جديد
وعلمتنا أن المرشد في رحلة الحج والعمرة له دور كبير في وضع الناس في الأجواء الإيمانية ..
وقصية تهيئة الحاج للمناسك من القضايا التي أشغلتني كثيرا في الحج ، فمن يظن أن الأشياء تبدأ من الصفر مخطئ ، فلا شيء يبدأ من الصفر ، النبوة بدأت بالرؤيا الصادقة ، والحج يبدأ بالإحرام ، ولكل شيء معنى وغاية ، وفي الحج ينصرف المرشدون والوعاظ إلى الكيفية ، ويهملون التهيئة القلبية بإثارة الشجون إلى المواقع والأماكن ، ويهملون التهيئة العقلية بتوضيح الحكمة من وراء كل منسك وركن ..
_ 16 _
الجوهرة واللؤلؤة .. والبِرْكة السوداء
انطلق بنا الباص عبر شوارع مكة المكرمة متكاسلا إلى منطقة العزيزية المظلمة ، وعرج بنا إلى شارع الجوهرة متمايلا ، ووقف أمام فندق لؤلؤة الزهراني منهكا ، تفاءلنا بالأسماء الثمينة فالشارع جوهرة والفندق لؤلؤة ، واكتشفنا أن هذه الأسماء تشبه تسمية العرب الأعمى أبو بصير ، والسلحفاء أبو سريع ، فأمام الفندق من الدرجة ثلاثة تحت الصفر تجمعت بركة مياه سوداء المظهر ، ظنها الركاب بركة مجاري طفحت في الشارع ، فرفضوا النزول حتى أقنعهم دليل الشركة أن هذه البركة بسبب الأمطار الرعدية التي هطلت الليلة على مكة ، واقتنعنا بعد أن فحصناها بحاسة الشم فلم نجد لها رائحة المجاري النتنة ..
كل ما في الفندق يقول لك أنا صالح للحرق والإتلاف ، وهذا ما عرفناه من مدير الفندق اليمني الذي قال بأن أصحاب الفندق سيجددونه بالكامل ، فعرفنا أننا آخر من ينزله ، لذلك لم يهتم أصحابه بالنظافة كالمطلوب أو بتصليح ما هو معطوب ، حتى أن الحمام في غرفتنا بقي بلا ضوء معظم فترة الإقامة به .. ناهيك عن الفرشات القديمة ، والعفن الذي تسلق كراسي الاستقبال في بهو الفندق ، والتلفزيون الذي توقف عن العمل بعد خبر وفاة وديع الصافي وكأنه أعلن الحداد عليه فاسودت شاشته وانخرس صوته ..
ولكن كل ذلك نسيناه لأننا متعبون بعد رحلة طويلة شاقة ، وكانت مشقة الرحلة نعمة نسنا بعدها سوء وضع الفندق ، ورداءة أثاثه وخدماته ، وبركة الماء التي تنظر الخارج لتقول له اقفز .
واكتشفت أننا في الغرقة أربعة أصليين وواحد احتياطي ، جمتنا الأقدار لنتشارك منزلا كل ما فيه يشعرك أنك مواطن من الدرجة العاشرة ..
الحاج الأول هو أبو محمود، أكبرنا سنا ، بائع تحف شرقية من عمان
الثاني فرناس العراقي شاب في العشرينيات ، أصغرنا سنا موظف في بلدية الموصل
الثالث أبو عمر في الثلاثينيات محامٍ من اربد
أما الخامس الاحتياطي فهو الحج أبو محمد محام من الأردن ، كان يسميه أبو محمود " دوّر الملاقي ...
ولكل قصة وعالم وشخصية مميزة ، جمعهم فندق لؤلؤة الزهراني في شارع الجوهرة في منطقة العزيزية ... فأصبحوا أخوة أعزاء في صدفة مهترئة ..
وبسرعة وبدون مقدمات أصبحنا عائلة واحدة ، نتشارك الزاد والابتسامة ، وهذه ظاهرة فريدة في الحج ، فرغم اختلاف المنابت والثقافات ينصر الناس بسهولة معا ، وتذوب الفوارق الطبقية والثقافية والعرقية ، ويصير كل واحد خادما لمن معه في تدبير الأمور اليومية ، وصديق حميما يصحبه فب الأسواق وأداء المناسك ، يسأل عنه إذا غاب ، ويقدم له الخدمة بدون تكلف ، وتربطه به علاقة حميمية قوية تدوم بعد الحج ، وتلك من نعم الله تعالى التي تراها وتلمسها وتعيشها في تلك الأيام القليلة ، كيف لا ونحن نقيم في بلد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي من بشاراته :
" .. إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ، ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى . قالوا : يا رسول الله ، تخبرنا من هم ، قال : هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم على نور : لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس . وقرأ هذه الآية : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. "
اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين ، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك ..

***

(الجزء الثاني)

_ 17 _
عند البيت الحرام
كان الله قد يسر لي أداء العمرة قبل ثمانية أشهر من هذا العام ، فالحمد لله رب العالمين أن يسر لي زيارة بيته مرتين في عام 2013 ، في العمرة السابقة وقت لأشتري مصحفا ناطقا من تاجر بنغالي ، فحصت الجهاز فوجدته : صنع في الصين ، فقلت للبائع لا أريد جهازا صناعة صينية ، فقال لي : كل ما في السعودية صناعة الصين إلا الكعبة . وهذا ما تأكدت منه عند الوصول لمطار جدة ، فالباص الذي نقلنا صيني وحتى المطار الدولي من صناعة الصين ، فهناك يافطة مضيئة تشير إلى ذلك .
داهمني هذا الشعور بعد أن لبست ثياب الإحرام لأداء عمرة التمتع ، فانا ذاهب لزيارة بيت الله الحرام الإسلامي الأصل والفصل ، البيت المعمور الذي وضع للناس قبل أن تكون الصين وبنغلادش والمعمورة كلها .
نحن أهل البيت الأول ، ونحن أول من وحد الله ، ونحن أول من عمّر بيتا لله ، ودار الزمان ، فصرنا نسبح بمسابح من صناعة الصين ، ونصلي على سجادات من صناعة الصين ، ونسمع القرآن من أجهزة صناعة الصين ، ونركب باصات وننزل مطارات كلها من صناعة غيرنا ، فتحولنا من خير أمة أخرجت للناس لأمة مستهلكة لكل بضائع العالم ، مجترة لكل الأفكار البالية !!
لدينا شركات الأوائل ، ومدارس الأوائل ، وفنادق الأوائل ، زورا وبهتانا .. أسماء سميناها وما أنزل الله بها من سلطان ..
لا إله إلا الله والله أكبر
اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، ودارك دار السلام
تباركت يا ذا الجلال والإكرام
اللهم إن هذا بيتك عظمته وكرمته وشرفته
الله زده تعظيما وتكريما وتشريفا وزد من حجه برّا وكرامة
اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وأدخلني جنتك
وأعذني من الشيطان الرجيم
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مصر والشام وفلسطين ، وسائر بلاد المسلمين ، يا رب العالمين .. اللهم اغفر لي ولوالدي .. إنك أنت العزيز الغفور ..
توجهت لبيت الله الحرام ويملأني شعور بالعزة والعظمة لأطوف حول البيت الأول حول البيت الذي زاده الله تشريفا وتعظيما ، حول البيت الحرام لأسال الله العزيز أن يعزني ويعز الإسلام بعزته ، وهناك عندما رأيت البيت ، وتذكرت أن لي دعوة مستجابة مع النظرة الأولى لأحجاره وأستاره ، دعوت رافعا يدي وخافضا صوتي :
بسم الله والله أكبر ، اللهم إيمانا بك ، وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعا لسنة نبيك ..
وتبدأ الطواف حول بيت الله العتيق ، وتشعر بأنك تنعتق من كل ما هو أرضي ، وتتحرر من كل الشهوات ، ترى النساء يدفعنك ، ولا تشعر بأي رفث ، الله أكبر كيف تختلط النساء بالرجال ، ولا ترى رجلا يتحرش بامرأة ، هنا تموت الشهوات ، وتحلق أفراح الروح في السماوات ، وكانك تتحول إلى ملاك .. فسبحان من أصفاك وأعلاك ..
وتندمج في جموع الطائقين من شتى البقاع والأجناس والبلاد ، شيوخ وشباب ، نساء ورجال ، تتدافع المناكب ، وتدفعك الأيدي من الخلف ، مسلمون أعاجم يرددون خلف أميرهم ادعية مكسرة اللغة سليمة العاطفة ، ترتفع الأيدي عند الحجر الأسود تردد بخشوع وتعاهد ربها وتجدد الهتاف الخالد : الله أكبر ، الله أكبر تجدد بيعة الإسلام ، وتعقد مع رب العزة عهدا على الإستقامة ..
وبين الركن والمقام تدعو ، تدعو بلغتك العربية الفصيحة : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، وتسمع حولك الحجيج من غير العرب يبذلون جهدا كبيرا لكي يقرؤوا من أوراق بأيديهم هذا الدعاء ، تتلعثم الكلمات ، وتتبدل الحروف ، ويبقى المعنى نورا يسطع في القلوب ، و( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران )
وتكمل الشوط السابع ، وقد تعبت الأقدام ، وأنهكت الأكتاف من شدة الزحام والتدافع ، وتنطلق لتصلي ركعتي سنة الطواف ، والأصل أن تصليها في حجر إسماعيل ، ولكن هيهات هيهات ، فذلك من الأمنيات التي يصعب تحقيقها في الحج ..
_ 18 _
البشرة السوداء .. و .. الحجر الأسود
لفت نظري في المدينة المنورة حجاج من ذوي البشرة السوداء من إفريقيا والهند وربما من شرق آسيا تبدو عليهم ملامح الفقر وقلة ذات اليد في اللباس والطعام والأقدام ، أما لباسهم فكثير الألوان رخيص الأثمان ، وأما الطعام فهو مما يقدمه أهل الخير من تمر ولبن وخبز ، وفي المطعم أرز حاشف ناشف لا يعرف سلطات ولا مقبلات ، ولا مقال ولا مشويات ، أما الأقدام فهي لا تعرف من الأحذية غير الشباشب ، وترى في أسفلها شقوقا كثيرة وعميقة ، ينطبق عليها الوصف الشعبي " يبيض فيها الحلزون " كناية عن عمقها .
ورأيت هؤلاء الحجاج السود في مكة ، ينامون في ساحات الحرم طوال فترة الحج ، نساء ورجال شيوخ وعجائز يفترشون بلاط الحرم ، منهم من يتوسد حقيبته ، ومنهم من يتوسد حذاءه ، والمفارقة أن أعداد لا حصر لها من هؤلاء الحجاج ينامون في ظلال فندق التوحيد الكونتيننتال ، ويظهر أن اسم التوحيد أضيف إلى الشركة العالمية لفنادق الكونتيننتال ، لأنه يشترط على من يدخل مكة أي يسلم حتى لو بالاسم ، تأملت مشهد الفندق الضخم الفخم بأنواره المشعة ، والذي يتوسد النازلون فيه وسائد من ريش النعام ، ويأكون من البوفيه المفتوح ألذ الطعام ، ويحجزون الغرف قبل عام ، ومئات بل آلاف الفقراء الذين ينامون على البلاط في ساحته ، رأيت رجلا أسود نحيف الجسم ، يتدثر بثياب الإحرام ، ويتوسد صندلا وينام ، فقلت على البديهة:
هل توسدت الصندل في ظلال الكونتننتل
ورحت أترنم بهذه الكلمات في بيت الله الحرام ، وبجوار الكعبة المشرفة التي تكسى بالحرير الثمين مرتين كل عام ، في بداية رمضان ويوم عرفة في الحج ، وتكاليف كل كسوة تزيد على 22 مليون ريالا سعوديا ، فقلت في نفسي إذا كان قتل امرء مسلم أعظم عند الله من هدم الكعبة حجرا حجرا ، أليس نوم المسلم بجوارها على البلاط ، أعظم من كسوتها بالحرير والديباج !؟
وتذكرت مشاريع سياحية يهودية عند االأماكن الأثرية مثل قلعة متسادا جنوب البحر الميت ، حيث أخبرني رجلا عمل هناك أن السلطات توفر منامات جماعية زهيدة الثمن للزائرين ، يستطيع كل من يزور القلعة أن يبيت فيها مقابل مبلغ مقدور عليه ..
خلال الحج سمعت كثيرا من الناس يتذمرون من سلوك أهل البشرة السوداء خاصة في الطواف ، ويشكون من غلظتهم ودفعهم للناس ، بعد ما رأيت وشاهدت من أحوال أهل البشرة السوداء ، وما يعانونه من فقر وبؤس ، وحياة مشقات خلال رحلة الحج ، صرت أرد على من يتذمر من سلوكهم بطريقتين الأولى : احمدوا ربكم أنهم يكتفون بالمدافعة ، ويحق لهم أن يخرجوا علينا بسيوفهم كما قال يوما أبو ذر الغفاري : عجبت لمن لا يجد قوت يومه ، كيف لا يخرج على القوم بسيفه. وهؤلاء لا تتخيلوا صعوبة الحج عندهم ، ينامون في الطرقات والساحات ، ويغتسلون في الحمامات العامة شديدة الازدحام ، وينشرون ثيابهم بعد غسلها حيثما تيسر ..!!
والثانية : يحق للسود أن يزاحموا الناس عن الحجر الأسود لأنهم حجرهم ومن لونهم ، ولا تنسوا أن سيدنا بلال ابن السوداء هو فقط من سمعنا أنه سمح له أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن يوم فتح مكة .. ولا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى ..والأجر على قدر النية أولا والمشقة ثانيا ..
-21 -
في الدعاء أمام البيت
يأتي الأحبة والأصدقاء لوداع الحجاج ، وهناك طلبات عامة من قبيل : لا تنسانا من الدعاء و سلم على الرسول عليه السلام ..
وكنت أخلو مع الصديق والأخ وأقول له : ما هي حاجتك التي ترديني أن أدعو لك بها عند البيت الحرام ؟
وكنت ألح على الأخ ليحدد حاجته ، وكنت أسجل على دفتر ملاحظات صغير اسم الأخ أو الأخت وطلبه كي لا أنسى أحدا ، والسلام أمانة ، صديق عزيز قال لي : عليّ الفا شيكل دين ، أريدك أن تدعو الله أن يعينني على سدادها . فقلت له مداعبا : يا رجل هذه حاجة لا تستاهل الدعوة عند الكعبة ، يكفي أن تدعو بها بعد ركعتي سنّة ، الناس يطلبون أن أدعو لهم بالشفاء من مرض عضال ، أو أدعو لهم بالذرية الصالحة ، وناس طلبوا أن أدعو بتحرير الأقصى ، وإقامة دولة الإسلام ..!!
في الحج اعتكفت ليلة بجوار الكعبة ، وكانت ليلة نوارنية قضيتها بين قيام وتلاوة قرآن ، والتعرف على أحوال المسلمين في العالم ، ولم أنس أداء امانة الدعاء لمن كلفوني أن أدعو لهم ..
وفعلا أخرجت الدفتر وبدأت أدعو لكل من سجلت اسمه بحاجته ، مرة ومرتين ، وكان هناك متسعا من الوقت فبدأت بالدعوة لمن أعرف من الأحياء والأموات ، ووصلت لبعض الناس من الذين آذوني فلم أجد في نفسي طاقة بالدعاء عليهم ، فبدل أن أدعو عليهم ، دعوت لهم بالهداية والصلاح .
أخبرت أخي أبو أحمد ما حصل من عجزي عن الدعاء على أحد عند الكعبة ، فقال لي بأنه جاء مرة للعمرة خصيصا لكي يدعو على شخص معين آذاه وظلمه ، قال فلم أستطع أن أدعو عليه فغادرت البيت دون أن أحقق ما نويت عليه ..
مما حدث معي ومع صديقي أبو أحمد استشعرت بركة البيت الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا ، وأدركت السر وراء عفو الرسول عليه السلام عن أهل مكة الذين بالغوا في إيذائه وإلحاق الأذى به بشتى الصنوف عندما دخلها فاتحا ..
أنهيت تلك الليلة المباركة ، وخاطرة تجول في بالي ..
في البيت الحرام ، تتحول اللام لأداة رفع اليدين بالدعاء ، فتدعو للناس ، وتسقط أداة الجر على من قلبك وعن لسانك ، فأنت في بيت الله الرحيم العفو الكريم ..
واضطررت في تلك الليلة للنوم ساعة أو ساعتين على بلاط الحرم مباشرة ، فقد أزيل جميع السجاد من الحرم ، هذا السجاد الذي كنا في العمرة نجده مريحا لراحة الجسم بالسبات القليل لساعة أو أكثر ، ولكن يبدو أنه يزال في الحج لمنع الافتراش ، وكنت عندما أصحو بعد النوم على البلاط أشعر بأن جسدي قد تيبس ، وأحتاج لدقائق لكي أعيد لجسدي توازنه وراحته ، وتذكرت المثل الشعبي : الجالس على الحجر وحامله واحد " ، ويزيد تعاطفي مع أولئلك الحجاج الفقراء الذين يأتون إلى الخح بدون حجز فندق وينامون في الساحات وعلى أرصفة الطرقات وتحت الجسور في ظاهرة تسمى في الحج الافتراش ، وتحاول الحكومة السعودية منعها بكل وسيلة ولكن دون جدوى فهي ظاهرة من ظواهر الحج ، وشاهد من شواهد الفقر والحاجة في بلاد المسلمين من جانب ، وشاهد على استعداد المسلم للتضحية براحته في سبيل الله ، أعظم الله لكم الأجر أيها الحجاج الفقراء يامن اتخذتم الأرض مهادا والسماء لحافا ..
_ 22 _
أشــياء ليســت للـبيع ..
في فندق الزهراني نزلنا أربعة حجاج في غرفة ، كان أكبرنا الحاج أبو محمود الأفغاني ، والده محمود الأفغاني شاعر وعالم آثار فلسطيني معروف ، عاش في يافا وعمل مع والده الذي جاء من أفغانستان واستقر في يافا قي بيع التحف والآثار، وكان لديه محل مشهور في شارع اسكندر عوض في يافا ، صادر اليهود مجموعته النادرة من الآثار ووضعوها في متاحفهم ، كما صادروا أرضه وتاريخه ، واحتفظوا لصاحبها بالملكية الفكرية وكتبوا تحتها " من مجموعة الأفغاني يافا 1948 " ، بعد النكبة انتقل مع عائلته إلى بيت لحم لأن له فيها معارف وأصدقاء مهنة ، وبعدها هاجر إلى شرق الأردن واستقر في السلط ، ثم استقر المقام بالعائلة في عمان مجمع ضحايا الحروب في التاريخ الحديث .
ودار الحديث عن الآثار ، وقلت له أني أعيش في قرية غنية بالآثار ، والتنقيب عن الآثار كان مهنة للكثير من الأهالي في أواخر الستينيات ، وهناك بعض الناس ما زالوا يزاولون المهنة حتى اليوم ، وقبل الحج بأيام زرت جماعة منهم تنثب عن الآثار في خربة قريبة من البلد ، وعرضت له على الجوال صورة لأرضية فسيفساء كنت قد صورتها في عين سامية ، فقال لي : ماذا فعلتم بهذه الأرضية ؟
قلت : جاء خوري من أريحا يبني كنيسة ، ومعه خبير آثار يوناني ، وعلم المنقبين كيف يخلعون الفسيفساء في قطع كبيرة ، واشترى المتر بألف دولار .
قال : يستحق من فعل ذلك الإعدام .
قلت مستعربا : الإعدام ، وما هي الجريمة ؟
قال : الخبراء في علم الآثار يقسمونها إلى قسمين : منقولة وغير منقولة ، المنقولة مثل الجرار والقوارير والمخطوطاتمسموح بيعها لأنها لا تفقد قيمتها التاريخية عند نقلها بل يتم المحافظة عليها في المتاحف والبيوت ، وغير المنقولة مثل البيوت القديمة والتيجان والأعمدة فممنوع نقلها أو بيعها لأنها تتعلق بهوية البلاد وتاريخها وتفقد قيمتها إذا نقلت ويتم ..
وقص عليّ حادثة جرت مع والده ، فمرة جاء تاجر آثار ، وعرض على والدي صورة تاج مجنح سرق عن أحد أعمدة جرش التاريخية لكي يشتريه أو يسوقه له ، فقال له إن بيع الآثار غير المنقولة جريمة يستحق مرتكبها عقوبة الإعدام ، وإذا لم يعد التاج فورا فسوف أبلغ السلطات المختصة عنك ، وبالفعل أعيد التاج لمكانه .
ثم أضاف لذلك يحرم في الإسلام إخراج أحجار الكعبة أو شيء منها خارج الحرم ، ما عدا ماء زمزم ، وأكبر جريمة في تاريخ الآثار عندما سرق الحجر الأسود زمن القرامطة ، هناك أشياء لا تقدر بمال في الدنيا ، لأنها شاهد على هوية المكان ..
وذهبنا للنوم وخاطر يجول في بالي :
الأشياء المنقولة قابلة للبيع ، والأشياء غير المنقولة غير قابلة للبيع ..
والإيمان إذا ثبت في القلب كالشجرة الطيبة لا يبيعه المؤمن بالدنيا وما فيها ، وإذا كان غير ثابت فهو كالشجرة الخبيثة التي تنتقل من مكان لآخر لا قرار لها ..
اللهم ثبت الإيمان في قلوبنا ولا تجعله متنقلا مع أهوائنا ومصالحنا ..
_ 23 _
حِمـام بمــاء النَّــار ..
سمعت عن حمام بالماء البارد ، وسمعت عن حمام بالماء الساخن ، وسمعت عن حمام بالزيت ، وعن حمام بالحليب ، ولكن عن حمام بماء النار فلم أسمعها إلا من الحاج الدليمي ..!!
زميلنا الأصغر سنا والأكبر همًا في غرفة الفندق كان الحاج فارس الدليمي , شاب عراقي من الموصل ، والده فريق متقاعد في الجيش العراقي ، درس هندسة الصواريخ في روسيا ، وعمل في منصات اطلاق صورايخ سكود في الثمانينيات ، وله قريب قاتل مع الجيش العراقي في فلسطين واستشهد في منطقة جنين .
الحاج فارس كانت تتنازعه ثلاثة هموم اثنان منها عجيبان أشد العحب :
الهمُّ الأول رومانسي يتمثل في انشغاله بخطيبته التي تنتظره بشوق .
الهمُّ الثاني غذائي يتمثل في شوقه لتناول إفطار من الباجة بالرمان .
والهم الثالث الانتقام لأخيه بأن يذوب القاتل بالتيزاب .
الهم الأول ظهر لأنه كان يقضي وقتا طويلا في مهاتفة خطيبته برقة ورومانسية عالية ، ساعات طويلة يوميا .
أما الهم الثاني فهو حديثه كلما تناول طعام عن الوجبة الأثيرة لديه وهي الباجة بالرمان ، والباجة أكلة شعبية مشهورة في الموصل هي أكلة الكرشات عندنا ، ولكن أكلها على الفطور بالرمان فهذا من عجائب أهل الموصل !!
أما الهم الثالث الدفين في قلبه ، فهو رغبة انتقام عاتية ، فقد تعرض في حياته لمواقف صعبة جعلت منه كتلة من الحقد والكراهية لخصومه السياسيين ، فقد هوجم من قبل عصابات طائفية في بداية احتلال العراق ، وذبحوا أمامه صديقا له بالسيف، وتركوا دمه يجري في حوض الحمام ، وجاء دوره وسحبوه للذبح ، وعندما وضعوا السيف على رقبته لذبحه تدخل القدر ، فجاء قائد العصابة وقال لأتباعه ـ بكل بساطة ـ اتركوهم ليس هؤلاء من نريد ، وتركوهم يذهبون ، وحدثني أنه ورفاقه الناجون من الذبح لم تحملهم أقدامهم من شدة الرعب ، ووصلوا إلى بيوتهم زحفا على الأربعة .
أما القصة التي يرويها باكيا فهي قصة مقتل أخيه برصاص الطائفية أمام عينيه ، وأخيه المغدور _ كما حدث باكيا _ كان إنسانا رقيق القلب يكره العنف والدم ، لدرجة أنه ربى دجاجات ، ولما ذبح والده بعضها بكى حزنا عليها ساعات طويلة ، وأخبرني أن أفراد من العائلة طاردوا القتلة الثلاثة ، واستطاعوا القضاء على اثنين منهم ، وبقي الثالث .
قلت للحاج فارس : يكفي القصاص من اثنين ، وأنت بعد الحج إن شاء ستكون إنسانا جديدا ، فاغفر وواصفح ألا تحب أن يغفر الله لك !!
فقال لي بغضب : في كل يوم أحلم بما جرى لأخي ، إذا وقع القاتل بيدي لن أقتله .
قلت : سوف تسامحه !
قال : أبد أبد ، سوف أربطه في عمود ، وأصب على رأسه " تيزاب " ( ماء نار ) حتى يذوب ، ولا يبقى منه عظمة ، فقط بذلك أشفي غليلي .
كلما تذكرت الحاج فارس وبساطته وحقده ، أتذكر حديث الرسول عليه السلام أن من علامات الساعة : والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتل ، ولا يدري المقتول عن أي شيء قُتل .

***

(الجزء الثالث)

_ 24 _
الحـاج دوَّر المــلاقي ......!!
عندما دخلت إلى غرفتي في الفندق ، وكانت الغرفة رفم 1 في الشقة 4 الطابق الثاني ، وجدت رجلا مربوع القامة في الثلاثينيات ينهض بكل هدوء ، ويترك لي سريره ، فيما بعد علمت انه الحاج أبو محمد من الأردن من بلد المنسية قضاء حيفا ، وأنه بدون غرفة ، وكان يلجأ لنا لكي يسرق ساعة نوم في سرير فارغ ، زميلنا الحاج أبو محمود الأفغاني كان يسأله في كل يوم ثلاث مرات : لماذا أنت بلا غرفة مثل باقي الحجاج ؟ وكان أبو محمد في كل مرة يجيب على السؤال بجواب غير مقنع وغير مفهوم ، فيعيد الحاج أبو محمود ذات السؤال ، ويعيد الشاب ذات الجواب ، وكان لهذا الشاب أفضال علينا فهو بالحقيقة خفيف الدم ينهض بسرعة إذا عاد أحد نزلاء الغرفة ، ثم كان خفيف الحركة ، يحضر لك ما تحتاج من كاسات أو قهوة أو ملاعق ، وذات يوم كلفه أبو محمود بإحضار إبرة وخيط ، فغاب أبو محمد دقائق وعاد لأبي محمود بالمطلوب لذلك سماه الحاج " دوَّر الملاقي " لأنه كان يدور لك على ما تريد ولا يعود حتى يلاقيه .
واكتشفنا أن الحج دور الملاقي محامي من إربد متخصص بقضايا الشركات ، وجاء إلى الحج ضمن ما يسمى " حج الفرادى " ، ويلجأ الحجاج الفرادى الأثرياء إلى الفنادق الفخمة ، ويلجأ العاديون مثل الحج دور الملاقي إلى غرف أصدقاء ينامون عندهم ، أما الحجاج الفرادى من الهند وإفريقيا وبنغلادش فيفترشون أرصفة الشوارع ، وساحات الحرم..
مما اطلعت عليه من حديثي مع حجاج من مختلف البلاد ، كانت تكاليف الحج مقارنة براتب موظف عادي ..
الحاج الفلسطيني معدل تكلفة رسوم رحلته راتب أربعة أشهر
الحاج الأردني معدل تكلفة رسوم رحلته راتب خمسة أشهر
الحاج المصري معدل تكلفة رسوم حجه راتب ثلاثين شهرا
أما الحاج البنغالي فتكلفة حجه تعادل راتب عشر سنوات !!!
فالحمد لله على نعمه التي لا نعرفها حتى نرى مصائب غيرنا ...!!
ـ 25 ـ
رجــلان .. أحســـدهما
صليت العشاء مساء السبت في جامع قريب من الفندق ، وكان الحجاج من شتى الجنسيات في منطقة العزيزية يعدُّون العدة للتوجه إلى منى في يوم التروية ، لم أكن على عجلة من أمري لأن المسئولين في البعثة الأردنية أبلغونا أننا لن نذهب إلى منى في يوم التروية ، فالمواصلات صعبة للغاية ، وقد يؤدي ذهابنا إلى منى إلى التأخر عن عرفة وهي ركن الحج الأكبر، ومن الحكمة التضحية بالسنّة في سبيل الفرض ، وعلل بعض حجاج البعثة هذا الاجتهاد لأسباب تجارية تتعلق بتوفير أجرة الباص التي ترتفع في مثل هذه الأيام لأرقام خيالية .
في الطريق إلى الفندق التقيت بشاب سألني بلهجة لم أفهمها ، فقلت له بالعربية الفصيحة : عمّا تبحث يا أخي ؟
فأجاب بذات اللغة : أريد بقالة .
ومشيت معه لأدله على بقالة قريبة ، وتعرفنا فإذا هو من مصر واسمه رمضان ، فحمدت الله تعالى على اللغة الفصيحة، الوسيلة الوحيدة للتفاهم مع العرب ، وهذا ما تكتشفه عندما تتحدث مع عرب من بلدان مختلفة وخاصة المغرب والسودان .
وتبادلنا الحديث في الطريق ، فقال لي بأنه كان من الذين اعتصموا في ميدان رابعة العدوية ، وعندما سألته عما حدث في رابعة ، تغيرت ملامحه واختنق صوته ، وقال لي بأن ما حدث في رابعة كان مذبحة فظيعة ، وأنه وأهل بيته وكثيرون من أهل الحي الذي يسكنه قد أقاموا مأتما على ضحايا رابعة امتد لشهر كامل، شهر من الحزن والبكاء المر على ضحايا المذبحة .
قلت له : هل أنت متفائل ؟ فأجاب : الوضع صعب للغاية ، ولكن لا رجوع للوراء مهما كان الثمن ، لأن صور الذين قتلوا أمامي لا تغيب عن بالي لحظة .
عدت إلى الفندق ، فوجدت زميلنا الرابع في الغرفة أبو عمر من إربد قد جهز حقيبة وبطانية ، وعرفت عندما ترك لنا بطاقته أنه صاحب مكتب للمحاماة ويحمل درجة الماجستير في القانون ..
وعرفت أنه انشق عن البعثة وقرر الذهاب مع اثنين من أصحابه إلى مِنى ، وأخبرته أن البعثة لن تذهب ، ولا يوجد مواصلات ، فأجاب بحزم : هذا ليس زمن الرخص ، سأحج كما حج الرسول عليه السلام ، ومهما كانت الصعوبات . وفعلا ذهب إلى منى مشيا وهي تبعد خمسة كيلومترات ، وبعدها ذهب مشيا إلى عرفات لمسافة خمسة عشر كيلومترا أخرى ، وبات أيام التشريق الثلاثة في منى ، رغم أن البعثة اكتفت بتحقيق المبيت لساعات معدودة ..
الحاجان رمضان المصري و أبو عمر الأردني علامتان من علامات العزيمة في زمن يتفنن فيه الناس في البحث عن الرخص .
_ 26 _
في الطريق إلى عرفة.....
يوم الأحد يوم التروية ، توجه أهل العزيمة من الحجاج إلى منى ، وبقي أهل الرخص حجاج البعثة الأردنية في الفنادق ، شعرنا بأن جزءا ثمينا من الحج ضاع علينا ، نهضنا منذ الصباح ، وأحرمنا في الفندق ، واجتمع الحجاج بثياب الإحرام في غرفة الاستقبال وقاعة الفندق ، ننتظر بلهفة وصول الباص الذي سينقلنا إلى عرفات ، انتظرنا ساعات طويلة ، ثم جاء الباص عند العصر ، ركبنا في الباص وأخذ يشق طريقه كالسلحفاء في الشوارع المزدحمة الناس والمركبات ..
العبارة التي كانت على كل لسان " الحج عرفة " ، رغم ذلك لم نكن نعرف عن عرفة شيئا ، غاب المرشد الذي كان نادر الحضور ، وجلس مندوب الشركة عند السائق مشغولا بهاتفه ، لا أحد يعرفنا على ما سنفعله يعرفنا في عرفة ، ولا لماذا عدّ الرسول عليه السلام الحج عرفة ، سرنا كما يسير الناس في زفة " على ما قدر الله " ، تمنيت لو أن مرشدا أو واعظا يفسر لنا بداية سبب تسمية هذا الجبل عرفة أو عرفات ..
ليته قال لنا بأنه سمي بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون على صعيده ، فيتعرف ابن فلسطين على ابن الصين ، وابن السودان على ابن أوزباكستان .. فيتعرف المسلم على إخوته في الدين ، يطلع على همومهم وأحلامهم ، فيشاركهم الهمّ والحلم ، لكي يستشعر وحدة الأمة الاسلامية ... فيستشعر الحاج أن الله خلقنا شعوبا ، ومعنى قوله تعالى : إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا !
وليته قال لنا بأن الجبل سمي عرفة ، كما في بعض الأخبار ، لأن آدم وحواء تعارفا على هذا الجبل يوم دب الإنسان على الأرض ، فيجب على الواقف عليه أن يستشعر أهمية الأسئلة الكونية الكبرى : من أين جئنا ؟ ولماذا جئنا ؟ وما مصيرنا؟
وليته عرفنا أن سبب تسمية هذا الجبل عرفات لأن جبريل عليه السلام ، لقي أبانا آدم عليه السلام ، وعرفه مناسك أمته في الحج ، والمشاهد التي يجب أن يشهدها الحاج في مسيرة حجه ، من الوقوف على عرفة مرورا بالمبيت بالمزدلفة وانتهاء بطواف الوداع ..
لم يحدث ذلك ، فأحرمت أجسادنا بالتجرد من المخيط والمحيط ، ولباس ثياب الاحرام البيضاء ، ولكن النفوس بقيت مشغولة بازدحام الطرق ، والباص الذي يزحف بطيئا ، وببعض الوجبات المجانية التي توزعها حكومة خادم الحرمين ..
حاول الحجاج أن يستشعروا الموقف بالتلبية خلال الرحلة ، ولكن سرعان ما كانت تخبو الأصوات ويعود الناس للتذمر من بطء حركة الباص ، وقد أرخى الليل سدوله ..
خاطر واحد كان يجول في قلبي في تلك اللحظات ، لاعب كرة القدم قبل ادماجه في الملعب يقوم بعملية تحمية وتهيئة ، وهذا ما يجب أن يقدم للحاج قبل الرحلة وقبل كل ركن لكي يحقق المراد من عبادته ..
ـ 27 ـ
ليـلة الوصــول إلى عــرفة ..
سبق وتعرفت على جبل عرفات وصعيده ، من مدة ليست بعيدة ، وذلك أثناء العمرة قبل ثمانية أشهر، فوقفنا عليه لأخذ العبر وأخذ الصور ، كنّا أعدادا معدودة من المعتمرين فلا إحرام ولا زحام ..
يسلك الزائر إلى قمة الجبل درجا طويلا متعرجا ، يعترض طريقه عدد كبير من المتسولين المعاقين أو المشوهين بصورة فظيعة ، يفترشون قارعة الطريق و أوسطها ، يسألون الناس بعويل غير مفهوم يقطّع شغاف القلب ، يلوم من يراهم السلطات لأنها تركتهم بلا رحمة يتسولون في جبل الرحمة ، في بلد يفيض فيه المال فيضا ، وكف ولاة أمره مبسوطة كل البسط ..
وهناك على قمة الجبل عمود مربع يستغله بعض المعتمرين لكتابة أسمائهم عليه ، وعلى قمة الجبل وعلى سفوحه صخور ملساء كبيرة ..
الصورة السابقة للجبل في ذهني جعلتني أتخيل أننا عدما نصل سنصعد إلى الجبل وسفوحه ، ونقف هناك بين يدي الله نستغفر وندعو .. ولكن شتان ما بين الرؤية والرؤيا
عند المغرب وصلنا إلى عرفات .. طرقات واسعة ، وشوارع مضاءة لامعة ، وأعداد هائلة من الباصات في كل مكان ، وكل ما في المكان واسع وفسيح ، يشعرك بالغنى والثراء والزيادة ، ولكن لا شعور يراودك بأنك في مكان للعبادة ..
دار بنا الباص ودار حتى استقر به القرار أمام مخيم البعثة ، بحثنا عن الجبل فإذا به بعيد لا نكاد نراه ، حاول بعض الحجاج الاحتجاج ، ولكن مندوب الشركة ذكرهم بأن لا جدال في الحج .
أما انا فذكرني مشهد الخيام الموزعة في الصحراء بخيام معتقل النقب ، حيث المدى مزروع بالخيام ، الموزعة في أقسام ..
على باب المخيم الذي سنبيت فيه ، كشف لنا مندوب الشركة أن الخيم لا كهرباء فيها ، قلت في نفسي، الله أكبر ، خيام سجن النقب كان فيها كهرباء .
أين جبل عرفات الذي جئنا للوقوف عليه ؟ هناك بعيد لا نكاد نراه
وأين مسجد نمرة الفسيح الذي يتسع لأربعمئة ألف حاج ؟ والذي يسمى مسجد اليوم الواحد ، لأنه يبقى مغلقا طوال السنة في انتظار وقفة عرفات ليعمر من الحجاج ليوم واحد ..
أين يجب أن نقيم ؟ لا احد يرشدك
ماذا سنفعل في هذا المكان ؟ لا أحد يخبرك ..
ما فضل هذا المكان الذي قطعنا المسافات للوصول إليه ؟ لا أحد يعلمك ..
كيف سنقرأ الكتب التي وزعت علينا بدون إضاءة داخل الخيم ؟ دبر حالك ..
لماذا لم يخبرنا أحد بوجوب احضار فراش للنوم ما دمنا سننام ؟ .....
قلنا لا بأس فهذه الليلة زيادة والوقوف في عرفة يبدأ غدا الاثنين ، وغدا لناظره قريب ..
_ 28 _
كيـوم ولـدته أمُّـه .. باكــيا
من الأحاديث التي تتردد على سمع الحاج فتصير عنده من المحفوظات حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)
ولا أعرف لماذا اقترن هذا الحديث في خاطري بقول الشاعر :
ولدتك أمـك يا بن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
وتفاعل النصان فكانت النتيجة أن شرط الولادة هو البكاء ، لذا كنت كلما شاهدت عبدا خاشعا باكيا أغبطه ، وأقول في نفسي هنيئا له أدرك المراد وجدد الميلاد ، ونحن منذ ساعات في عرفات ، ولكن الولادة تعسرت ، فمتى يفرجها الله علينا بدمعات تبشر بالولادة الجديدة ؟
وكان يقيني أن عرفات هو أرض العبرات ، فقد سبق ورأيت مراسل الجزيرة الذي ينقل وصول الحجاج إلى عرفات يبكي تأثرا ، فقلت إذا كان هذا حال المراسل ، فلا ريب أن حال الحجاج سيكون أعظم .
وفضينا النصف الأول من اليوم المشهود بين دعاء وذكر وتلاوة قرآن ، بدأت القلوب تلين وتخشع لذكر الله ، ولكن العبرات بقيت مستعصية ..
ومر الوقت حتى الظهر وبعضنا في صلاة ودعاء ، وبعضنا طاب له الاسترخاء ، وبعضنا مشغول في أكل الغذاء الذي جاء به أهل الخير ..
في تلك اللحظات كانت جموع الحجاج تزحف كالموج الأبيض نحو مسجد نمرة لتسمع خطبة الجمعة في بث حي ومباشر يشاهده كل العالم ما عدا نحن المقيمين في المخيمات على أطراف عرفات ..
خطب فينا الجمعة شيخ من الأردن ، رجل فيه هدوء الزاهدين حتى في الكلام ، فاختصر ولم يطيل ، وأسهب في الدعاء على بشار، بعد الصلاة قلت له معاتبا : يا شيخ ما لنا وللحكام في هذا المقام ، ألم يكن الأقصى أولا بالدعاء ؟ وافقني بعض الحاضرين فاعتذر الشيخ بأدب بأنه دعا للمسلمين عامة ..
باختصار كانت خطبة عرفة متواضعة لم ترق بنفوسنا لجلال المقام الكريم والمشهد العظيم ، لم تكسر قسوة القلوب ، ولم تذب الدموع المتحجرة في العيون ..
قلت لنفسي :
أنت على الجبل الذي شهد الميثاق العظيم ، حيث أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان " يعني عرفة " فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها , فنثرهم بين يديه كالذر , ثم كلمهم فتلا فقال : ألست بربكم ؟ قالوا بلى.
يا نقس أتعرفين هذا ولا تبكين ؟!
أنت على الجبل الذي نزلت عليه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ، فاتخذ المسلمون يوم نزولها عيدا ، وأنت لا تبكين فرحا بهذا الدين الكامل .
أنت يا نفس تقفين موقفا يباهي به الله الملائكة ، ولا تبكين رهبة وخشوعا ، يا لهذا القلب ما اقساه .
عند العصر جاء الفرج ، وقف شاب في مقتبل العمر ، وعظ موعظة بليغة عن عرفة والوقوف عليه ، ثم بدأ بالدعاء ، وفتح الله عليه بحسن العبارة وصدقها ، ودعا وأطال ربما ما يقارب الساعة أو أكثر ، دعا بأدعية سافرت بنا إلى ما مضى من العمر والآثام والتقصير ، شعرنا أنه يغسلنا بدعائه وبكائه ، فسكنت النفوس ، وخشعت القلوب ، واقشعرت الجلود ، وانهالت دموع السامعين مدرارا ، وقتها يشعر الحاج بأنه يولد من جديد ، وتغتسل نفسه بدموع الخشوع والإنابة ..
ما أن انتهى الرجل من الدعاء حتى وجدت نفسي أقول له بصوت مسموع :
_ رحم الله والديك يا شيخ ، أحسنت أحسن الله إليك .
_ 29 _
مُـزدلفة ... النفـــرة والحســرة
كان إمام مسجدنا المرحوم أبو رياض لا يذكر الحج إلا وتدمع عيناه وهو يحدث عن مشهد نفرة الحجيج من عرفات إلى مزدلفة ، لما فيه من عظمة ومهابة ، فهو مشهد يذكرك بالنفير الأكبر للناس يوم القيامة وقد نفخ بالبوق ، فصعق من قي السماوت والأرض ، وكنت أنتظر هذا المشهد بلهفة وشوق .. وكان أن سمعت نفخ البوق ، وغاب عني المشهد ، فماذا جرى؟
مالت شمس يوم عرفة للمغيب ، وقد أشرقت في النفوس أنوار لا تغيب ، ووقف الحجاج ينظرون لغروب الشمس بأمل ورجاء ،
جاء مندوب الشركة و أبلغنا أن الباص سيصل ليقلنا إلى مزدلفة المشعر الحرام لنبيت هناك ، وصل الباص قبيل المغرب ، فحزمنا أمتعتنا ، وتركنا المكان مليئا بمخلفات الحجاج ، فصار أطلالا بعد كان منذ ساعات عيادة ولادة ..
وانطلقنا ، لم أر نفير البشر، ولكن رأيت نفير باصات الحجاج تتهادى في زحام شديد ، وسيارات شرطة تتسابق وتطلق العنان لزعيق أبواقها وتمزق سماء المكان ، وكأنهم ينفخون في الصور ..
ثم جاء باص ونقلنا بعد طوشة كبيرة بين المندوبين ، إلى ساحة كبيرة ممتدة بجوار جبل من الغرابيب السود . وأنزلنا الباص لأنه محجوز لجماعة أخرى ، وبقينا في هذه الساحة ساعات ، وأنا أقول أين النفير يا بشر ؟ وأتحسر على خسارة مشهد انتظرته بشوق غامر .
وانتظرنا ، حل آذان المغرب وآذان العشاء ، مندوب الشركة يقول لنا لا بأس ، فالسنة أن نجمع المغرب والعشاء جمع تقصير في مزدلفة ..
ولما سأله أحد الحجاج ماذا سنفعل في مزدلفة ، أجاب بأن عمل مزدلفة هو التقاط الحصى لرميها في أيام التشريق ، وراح يشرح حجم الحصى وعددها ..
وبعد ساعات دبر المندوب باصا ، وركبنا إلى مزدلفة ، سار بنا سيرة السلحفاء كغيره من المركبات ، وصلنا إلى مزدلفة قريبا من منتصف الليل ، بحثنا عن مكان نوقف فيه الباص للصلاة ، فراحت تطاردنا سيارات الشرطة بزعيق ونعيق ، وبصعوبة سُمح لنا بالوقوف في مكان بعيد ، وتجهزنا للصلاة ، كان على من فقد وضوءه أن يبحث عن مكان للوضوء ، تدبر الرجال حالهم بما لديهم من ماء ، أما النساء فرحن في رحلة طويلة فالحمامات أسفل الجسر ، وعليك أن تدور بطريق طويلة لكي تصلها ..
صلينا المغرب والعشاء جمعا وقصرا على رصيف احد الشوارع ، صلى فينا مندوب الشركة صلاة سريعة ، بقصار السور ، وكأنه يقول هي صلاة قصر لذا أقرأ فيها بقصار الصور ، وأبلغنا بأن لا وسيلة للوصول إلى المخيم بسبب الازدحام ، وعلينا أن نحقق المبيت بالهواء الطلق والشوارع الفسيحة ..
هناك في البعيد مخيمات بيضاء ، وبركسات مغطاة ، والوصول إليها محال ، وهنا تحت الجسر مشهد فظيع ، لا يليق بالزمان ولا المكان ، آلاف الناس يفترشون الأرض بين أكوام من القمامة والحجارة ، قلت لصاحبي الحاج الجولاني ما رأيك لو ذهبنا لنرى من هؤلاء وما يفعلون ؟ وفعلا هبطنا من الجسر، ونزلنا إلى الواد حيث ينام الناس ، معظمهم من أصحاب البشرة السوداء ، فعرفنا أنهم من أصحابنا الذين يحجون بدون حجز غرف أو خيم ، وجزء منهم من حجاج السعودية الفقراء ، قال لي صديقي انظر هناك ، امرأة سوداء تقف أمام قدر كبير جدا ، أشعلت تحته النار ، وتقوم بتحريك الطعام داخله بشيء بحجم كريك الباطون ..
وقضينا بعدها بضع ساعات حققنا المبيت حسب وصف المرشد ، ثم ركبنا وعدنا قبيل الفجر إلى الفندق ..
كلما أشاهد نفرة الحجيج من عرفات إلى المزدلفة على الشاشات ، تعتصر نفسي حسرة لأني ضيعت مشهد النفير الكبير ، كان التنازل عن ذلك المشهد خسارة لا تعوض مهما كانت الأسباب والمبررات .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
_ 30 _
ماراثون الحج الطويل ...
عدنا من مزدلفة بالباص إلى الفندق في مكة ، حيث كان المبيت محالا خاصة على كبار السن والنساء ، وقد تعسر علينا الوصول إلى مخيم البعثة في منى ، الذي أقامت فيه الحكومة السعودية أكبر مدينة للخيام في العالم ، على مساحة تبلغ 2.5 مليون متر مربع ، كما قيل لنا ، وأفتى لنا مندوب الشركة أن ذلك جائز ، واعترض الكثير من الحجاج على هذه الخطوة ، واضطررنا لأداء صلاة الفجر في أحد المساجد قرب الفندق ، والبعض صلاها في مصلى الفندق .
انطلقنا بعد الصلاة إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى ، ولم نعرف أننا ننطلق بمارثون للمشي ، فمشينا باتجاه منى لمدة نصف ساعة تقريبا ، لما انتهينا من العمران ، صعدنا سلم كهربائي طويل نقلنا إلى محطة باصات خاصة تنقل الناس إلى الجمرات ، ركبنا بالباص الذي صعد بنا الجبل ونقلنا من مكة إلى منى ، وبدأنا رحلة السير نحو الجمرات ، مشينا وسط الزحام ساعة كاملة ، ثم انضممنا إلى الجحافل المتجهة نحو الجمرات .
الجمرات بناء ضخم جدا ، قيل لنا أن تكلفته بلغت 1.7 مليار دولار ، وهو بناء لا يمكن وصف ضخامته ، وقبل تطويره كانت المنطقة مكان لمقتل الحجاج من شدة الزحام ، وكان الحجاج يحذرون بعضهم من المخاطر في رمي الجمرات .
واكتشفت أن رمي الجمرات من أسهل مناسك الحج ، هناك وسط الطريق الواسع جدار كبير بيضاوي الشكل حوله حوض كبير ، مكتوب فوقه جمرة العقبة الكبرى ، كان الوصول إليه سهلا ، وقفت لرمي الجمرات ، ومع كل رمية كان يتمثل أمامي شخص من أعداء الإسلام ممن عرفتهم في حياتي ، حضرت صورهم فتخيلت نفسي ارجمهم ، استعذت بالله من الشيطان ، ورميت سبع حصى ..
أتممنا رمي جمرة العقبة الكبرى ، وتوجهنا نحو مكة ، مشهد لا يمكن وصفه لجموع الحجاج الغفيرة التي تسير نحو الحرم ..
سألت أين ينحر الحجاج ذبائحهم ؟ قيل لي لا يمكن الوصول للمسلخ الآن ، وليس لدينا متسع من الوقت ، ويجب أن نواصل السير لإتمام مناسك يوم النحر الذي لم نر فيه نحرا ، ومشينا ..
تعبت الأقدام ، شربنا ماء كثيرا ، وزع علينا مجانا ، ولم نكن بحاجة لمراحيض ، فالماء يتبخر مع العرق ومع الذنوب ، وواصلنا المشي عبر الشوارع وبين الباصات السلحفائية , وبلغت أجرة الراكب إلى الحرم مئتا ريال ، ولا تجد ما تركبه ، فاختصرنا وواصلنا المشي ، وصلنا إلى البيت الحرام مع آذان الظهر ، لأول مرة وجدنا الأبواب مقفلة من الحراس ، يدخلون الناس فوجا بعد فوج ، صلينا الظهر خارج الحرم ، ولما جاء دورنا بالدخول توجهنا لطواف الإفاضة ، اقترح علي صديق أن نطوف في الطوابق العليا تلافيا للزحام ، فبدأنا الطواف بعد صلاة الظهر ، وانتهينا مع صلاة العصر ، فالمسافة في الطوابف العليا طويلة والزحام شديد .
وبعد صلاة العصر انطلقنا للسعي بين الصفا والمروة ، والازدحام كبير والأعداد هائلة ، والأقدام تعبة لا تكاد تحمل صاحبها ، أخذ الطواف منا وقتا طويلا ، فما أن انتهينا وجلسنا على الأرض نلتقط الأنفاس ، حتى أذن للمغرب ، صلينا المغرب في الحرم ، وقصدنا الفندق عائدين ، قبل أن يشتد الزحام لعلنا نجد سيارة نركبها ، ولكن لا سيارات ، فقط درجات نارية تطقطق محركاتها المزعجة قادرة على نقل الحجاج ، ولأن برفقتنا نساء ، ولا جدوى من التفكير بركوب دراجة عدنا سيرا على الأقدام ، في الطريق اتصلت بي زوجتى عاتبة ، لأني لم أتصل بها لأعيد عليها وعلى الأولاد ، فقلت لها : لماذا وهل اليوم العيد ؟
لم يكن ليخطر ببالي أن هذا اليوم عند غير الحجاج هو يوم العيد، فالحجاج لم يصلوا العيد ، ولم نسمع تكبيرات العيد .
وعدنا إلى الفندق سيرا على الأقدام ، في الطريق مررت على حلاق ، فحققت ركن التقصير بثلاثين ريالا ، لما اسغليت المبلغ ، قال لي الحلاق : هذا موسم عيد ، فدفعت وواصلت الطريق إلى الفندق الذي وصلناه قبيل منتصف الليل ,
باختصار مشينا يوم النحر أطول ساعات في عمرنا ، ما يقارب 15 ساعة ، سقط بعضنا من التعب ، وتقيحت أقدام البعض ، ونفط في أقدام البعض أكياس ماء ، ولكن كان ذلك اليوم يوم عيد للروح ، كلّت الأقدام ، وتعبت الأجسام ، ولكن الروح كانت في عيد الطاعات ترفرف في سماء السعادة جذلى فرحة .. بللراكب سبعون حسنة وللماشي سبعمئة حسنة ، كما جاء في الحديث ..

***





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى