د. سيد شعبان - البومة واليمام

حين أعود إلى شقتي تلك الهاربة من الزمن؛ حجراتها تبدو مغارة في جوف الجبل، تتدلى ياقة قميصي أشبه بتجاعيد وجه يوشك على الاحتضار، تتداعى الذكريات؛ الزوجة الجميلة والمكانة العالية؛ انتهيا مع موات الحلم، كان ذلك محض خيال لجائع في سوق المدينة العاقر، تعبأ أجساد الأطفال في علب بلاستيكية، تطاردني الأوهام أنني المكلف بتغيير العالم، تخيلت أن تلك مهمة سهلة، أمسك بفرشاة وألون واجهات البيوت، أنثر قصائد الحب عند مداخل الميدان، لكم كنت مجنونا!
سروالي الممزق يثير سخرية المارين، حين اشتدت الريح وأوشك السلم أن يسقط بي، لم يهتموا، أخذوا يتندرون علي، تمسكت بحلمي؛ تماديت في فقاعة الوهم؛ لا يدرك المجنون علته.
حوائط البناية كئيبة ربما تكون مخلفات حرب أهلية؛ بضعة أشكال وصور أتخيلها جراء تساقط الجير المبطن بصفرة كائنات تتحرك، إبل وعنزات برية، قلوب بريئة تنزف دما، أبيات شعر متداخلة، جدائل لفتيات في عمر الزهور، أوراق قرمزية، يبدو أن أصحاب الأحذية السوداء مروا من هنا.
أتلفت كل ناحية تلك عادة تلبستني منذ أول ركلة قدم، أول صفعة على وجهي ومن يومها ألفت الازدراء والطرد، الأشقياء هم من تطول أعمارهم كثيرا؛ تقول أمي حين كانت ترى البومة العجوز: إنها تمزق أكباد اليمام المسكين، يبدو أن البشر صاروا أكثر وحشية من تلك الطيور الجارحة!
على أية حال تخليت عن حلمي بطلاء واجهة الميدان الكبير، رضيت بأن أغرس شجرة جميز؛ تتعجبون من اختياري؛ سكان الأحياء الثرية في المدينة الحجرية والتي باتت باهتة لا يتناولون طعام الذين عند حوافها، ينفرون من زيهم وألوان أجسادهم، يصمون النهر بالعته والعجز؛ حتى إذا ما كبرت تلك الشجرة ذات يوم آوى إليها الحالمون بطلاء الميدان بلون آخر؛ لقد منع الناس من مس أجسادهم أو ارتداء ثياب مخملية؛ عليهم أن ينكروا مفردات تعلموها من أمهاتهم؛ يقدموا أفراخ اليمام والحمام وعصافير الجنة في آنية من ذهب لمن يسكنون الأبراج.
أخذت أدور في تلك الشقة التي ضاع مفتاحها مني؛ عبث لص بحافظة نقودي التي كانت مثقوبة؛ كم كان رفيقا بي، وضع بها نصف رغيف محشو بحبات من فول؛ يقال إن السيدة أم هاشم تمتليء خزانة طعامها بالكثير من الخير، يداخلني شعور غريب بأنها تنتظر زيارتي؛ لقد كانت تحلم هي الأخرى بأن يروي دم الحسين الميدان الواسع.تطل نافذة حجرتي على الشارع المؤدي إلى مسكن البومة العجوز، ثعالب تحمل آنية تفوح منها رائحة يمام وتضرب الأرض في مكر يدب في ليل متداع، حولت عيني بعيدا؛ تصدر البومة صوتا رغم غرابته إلا أنه مثير، قطط تتنادى لتشارك في احتفالية مسائية، نسوة المدينة تتدلى حلمات أثدائهن في مشهد فنتازي، يسري في جسدي خدر لذيذ؛ لم أعرف طريق الأنثى يوما؛ علي أن أدع كل تلك الترهات.
أعمدة الإنارة تتراقص عليها صورة الذي أشرق الكون بنوره، إنه يهب الجوعى أرغفة خبز متحجرة مياه نهر آسن؛ هذا والمذياع يبث كل آونة أغاني تمجد الوطن.
تدق ساعة الحائط المصابة بخرف يتنامى، تشير إلى الخامسة والعشرين من يوم غابت فيه الشمس.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى