علي حزين - مسافر في الليل.. (الجزء الخامس)

يجمع كل قواه المنهارة يلتفت إليه بنظرةٍ حادة وهو في شبه انهيار عصبي غير مصدق ما يحد معه، يصرخ في وجه صديقه المبتسم له دائماً بصوت مُتًهَدِّج:
ــ مستحيل يحدث هذا صح, أكيد, أكيد أنا بحلم صح , أو على أسوأ تقدير وأسوأ احتمال أنا لست في وعيي أكيد أنا تحت تأثير شيء ما فليكن تأثير البنج اللعيننعم البنج اللعين ليس غيره , أنا لست في قواي العقلية الأن, أكيد أنا بحلم, ..؟! ..
يصمت صديقه فجأة عن الكلام, وهو يبتسم في وجهه ليهدئ من انفعاله وتوتره, برهة يقترب من الحائط الزجاجي السميِك المعالج بطريقة لا يمكن اختراقه أو كسره, يضغط يده على مكان ما فتفتح الحائط على منظر طبيعي جميل ..
" مكان ملئ بالخضرة وشلالات من المياه العذبة والهواء النقيالعليل راح يغزو المكان, مع اصوات العنادل, والعصافير, والقمري .. ثم يقترب من مكان أخر يمد يدهفيخرج بعض من ثمار الفاكهة الطازجة يضعها في صندوق نحاسي جميل ويضغط على شيء ما فيه فيقوم هذا الجهاز بغسل الفاكهةوعصرها وتجفيفها ثم تحويها الي حبيبات بالورية صغيرة ومن ثَّمَ الى كبسولات صغيرة جميلة الشكل, كل ذلك في بضع ثواني معدودة, ومن ثم يأخذها " يحيي " ليقدمها لصديقة حتى يتناول منها ما يشاء ,
ــ تفضل
ــ ما هذا ..؟!
ــ كما ترى عصير نقي وصحي في كبسولات ..
يضحك صاحبنا ضحكة هستيرية وهو يضرب كفاً بكف, وهو غير مصدق ما يحدث له, يتناولها ويقلبها في يده وهوما زال يضحك ضحكة تعجب واندهاش, ثم يصمت فجأة , ليقول لصديقة يحيي بصوت متعبٍ مجهدٍ منهار :
ــ أنا لست مريضاً حتى تعطيني كل فترةٍ كبسولة لأبلعها في جوفي, أنا أريد أن أشرب ماء أو عصير بجد ,
ــ وهذا هو عصير الفاكهة في ثوبه الحديث , صحي ومنقاه وبنسب معينه ومعالج بأحدث الوسائل التكنلوجية الحديثة
ــ أنت تريد أن تخرجني من عقلي , أتريد أن تجنني, أقل لك عصير تعطيني برشامة وتقول لي هذا هو العصير الحديث, ههههه
يقترب يحيي من المكان المفتوح على الطبيعة الخلابة, ويطلب من صديقه بأن ينهض ويتبعه وليخرجا سوياً في نزهة بين الاشجار, ويتمشيان سوياً في المساحات الشاسعة من الخضار الضارب في الافاق ويستمتعا بالطبيعة الخلابة وهو يمد له يده وابتسامته الهادئة العريضة لم تفارق مُحياه , وفي نفس ذات الوقت يعده بأنه سيخبره بكل شيءٍ ..
ينهض, يقترب من صديقه الذي يشبههُ إلى حد ما إلا انه أقصر منه بعض الشيء, يمسك يده ويخرجان إلى الطبيعة, يتمشيان في المكان فيكتشف انهما ليس وحدهما في المكان وإنما هناك أُناس أخرون كُثر, لكن أشكالهم غريبة بعض الشيء وغير مألوفة بالنسبةلهكما يكتشف بأن المكان هو أيضاً غريب, يشبه جزيرة مهجورةفي وسط أحد المحيطات , أو ربما تكون في كوكب أخر, أو ربما في مكانٍ ما في الدنيا لم يذهب إليه قبل ذلك ولم يتعف عليه وإن كان كل شيء فيه يدعو للعجب وللفكر وللتأمل ...
وكان يسير بجوار صديقه, وكله فضول وشغف بأن يعرف ما هذه الأشياء..؟!.. وكيف وصل الى هنا..؟!.. وما أصل الحكاية وفصلها..؟!..وما هي الحقيقة بالضبط ..؟! ..
وتذكر وعد صديقه الذي وعده به وبأنه سيخبره بكل شيء, فجأة, التفت الي صديقه, وطلب منه أن يخبره بالحقيقة كما وعده .. فنظر اليه صديقه " يحيي " وطلب منه عدم الاستعجال وأكد له وعده بأنه سيخبره بكل شيء, ومضيا وقتاً في طريقهما صامتين , حتى شعر بالتعب, يفت في جسده وقواه العقليةفطلب من صديقه بأن يجلسا في مكان ما ليتحدثا فيهفاستجاب له يحيي , اقتربا من صخرتين على هيئة تفاحتين مجوفتينيجلس "يحيي "على واحدة وطلب من صديقه بأن يجلس على الأخرىالتي أمامه, وهو يبتسم له نفس الابتسامة العريضة ثم طلب منه أن يأخذ نفساً عميقاً ويستريح, ثم يبدأ " يحيي " في الحديث :
ــ الحياة يا فنان فيها أشياء أغرب من الخيال أليس كذلك ..؟!
ــ هذه حقيقة فعلاً أنا معك في هذا لكن ..؟؟!....
قالها بصوت مهزوز ومضطرب ثم صمت يفكربرهة , لكن صديقه الواثق من نفسه لم يدعه يفكر طولاً قال له :
ــ لكن ماذا ..
ــ لكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد الذي أنا فيه الأن فهذا قطعاً مستحيل , أن ينتقل فجأة انسان وبدون مقدمات إلى الالفية الثالثة هذا مستحيل ومحال , وتصديقه طبعاً ضرباً من الجنون ..؟!
ــ اصبر عليِّ يا صديقي, مهلا أنتظر لا تسبق الأحداث ..
ــ أنا سأجن , أنا أريد الحقيقة , أهل يعقل هذا, لا لا أنا بحلم قطعاً بحلم
ــ وهل كان يعقل في الماضي بأن الأنسان يمكنه أن يطير في الهواء وبمعني أدق يركب الهواء ويحط على سطح القمر وعلى المريخ ويبني محطات في الفضاء يقوم فيها بدراسة الكواكبوالمجرات التي تحيط بنا..؟!.. وهل كان يعقل في الماضي بأن الأنسان يستطيع أن يغوص في قاع المحيطات ويكتشف كل هذه الاكتشافات المذهلة ..؟!..
ــ نعم والعلم الحديث كل يوم يفاجئنا ويأتي بما لم يكن متوقع , ويأتي بأمور تشبه المستحيل, وما لم بكن يُصدق من قبل , والعلماء كل يوم يفاجئونا بأبحاث واكتشافات غريبة وعجيبة, بل أن الطبيعة نفسها من حين لأخر تدهشنا بأشياء رائعة لم تكن في الحسبان وتكشف لنا عن أشياء لم نكن نعرفها ولا قرأنا عنها من قبل, معك في كل هذا, لكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد, هل يمكن فعلاً بأن يستيقظ إنسان ما في زمنٍ ما ليجد نفسه في مكان أخر وزمان أخر مختلف, هل من الممكن أن يحدث هذا, وهل من المعقول أن نصدق هذا ,
ـ ولما لا يا صديقي ما دمنا متفقين من حيث المبدأ بأننانعيش في عالم مجنونٍ مليء بالأسرار والألغاز وعصر العلوموالاكتشافات الحديثة والدنيا الغريبة العجيبة مليئة بالأسرار والألغاز..!
ــ أسمع بقى لما أقل لك : نعم من المعقول ومن المنطق أن يحدث هذا الأمر ,نعم ويتقبل العقل هذا الشيء ,لكن في حالة واحده فقط
ــ وما هي يا صديقي الرائع لقد أوشكنا على الاقتناع اذاً ..
ــ في الخيال العلمي وفقط , وأيضاً قد يتقبله العقلوالمنطق في أحلام اليقظة ليس إلا , لكن أن يفاجأ المرء ليجد نفسه قد انتقل الي زمان غير الزمان ومكان غير المكان سواء كان هذا الزمان والمكان في الماضي أو في المستقبل , فهذا أمر غريب وعجيب ومستحيل أيضاً بل من رابع المستحيلات بأن يكون حقيقة مستحيل طبعاً, هذا أغرب من الخيال العلمي نفسه, بل أبعد وأغرب من الخيال نفسه,
يضحك صديقه من طريقة كلامه وتفكيره الساذج, يقوم من مكانه يتمتع بوردةٍ رائعة تحملها أنثي جميلة إليه, يمسكها بيده يشُمها وقتاً, ثم يضع يده في جيبه يخرج شيئاً ما يضعه في يد الفتاة التي تقبل يده وتنصرف, ثم يلتفت إلي صديقه الذي ينظر إليه في صمت وحدة ويقول:
ــ تعالي لنتناقش بالعقل وبالمنطق وبهدوء يا عزيزي ,
ــ أي منطق هذا وأي عقل تريده مني ..؟!!..
ــ نعم أنا أعذرك , فعلاً اعذرك لكن إن كنت أنت تستبعد هذا يا عزيزي فأنا لا أستبعدهاطلاقً " نفر" لأني أنا عيش فيهبل هو وأقع بالفعل وأنا وأنت فيه , وأكبر دليل على هذا أنت هنا معنا الأن في الألفية الثالثة
ــ لا لا لا , أنت تريد أن تجنني بالفعل , أنا لست في الألفية الثالثة كما تزعم وإنما أنا نائم وبحلم , نعم تذكرت أنا نائم في القطار, وكل ما هنالك وكل ما في الامر أني أحلم بل أنا في كبوس, هذا حلم ليس الا ,
يضحك يحيي من صديقه ضحكة عالية وطويلة, ثم يصمت فجأة ثم يعاود الضحك من جديد , ثم يسكت قليلاً وكأنه يفكر في أمرٍ ما, ثم يضغط على شيء يشبه الساعة في يده , فتنفرد أمامهما في الهواء طاقة نور " شاشة هوائية إلكترونية متصلة بالأنترنت" يكتب شيئاً مافي الهواء , يبحث عن صديقه الكاتب والشاعر والروائي الذي يجلس معه ويحدثه, فتظهر له ملف صفحته واضحة جلية أمامه وفيها كل شيءٍ عنه من أول ما ولد الي أن كان في القطار متجهاً إلى القاهرة لحضور المؤتمر الأدبي الكبير الذي دعي إليه حتى لحظة مجيئهِ الي الألفية الثالثة, ثم يلتفت إلى صديقه ويقول له:
ــ أرأيت يا صديقي العزيز كيف كنتَ في الماضي وكيف جئتَ الي هنا وبأنك لستَ في حلم
وراح يعيد المشهد الأخيرمرةَ تلو المرة وهو يحاول أن يكتشف شيء يوصله للحقيقة لكن أخر شيء راه هو أنه رأى نفسه وقد استرخى على الكرسي, وقد علق عينيه في السقف العربة وسرح بعيداً بخياله , وهو يفكر في هذا اللقاء الهام, وصديقه يتابع ما يفعل, وهو منتظر ردة فعله
ــ أنا ما زلتُ معتقدا بأني أحلم فلا يمكن بأن يحدث هذا اطلاقاً
ــ حتى بعد أناتيتُ لك بكل شيء وأثبت لك ذلك واتيتُ لك بكل تفاصيل حياتك الماضية ..؟!! ما زلت مصر على عدم الاعتراف بأنك لم تنقل إلى الألفية الثالثة ..؟!!..
ــ نعم ما زلت أعتقد ذلك بل ومُصِّر على رأي وبعد قليل سأستيقظ من هذا الحلم بل الكابوس الذي أنا فيه, وربما الأن أنظر, وانتظر ...
يهز نفسه هزاتٍ عنيفة معقدة, معتقداًتمام الاعتقاد بأنه سيستيقظ فهو يفعل ذلك دائماً عندما يكون في حلم ما ولا يريد أن يستمر في الحلم اكثر من هذا, ولا يريد أن يستمر فيه , ويعرف بأنه في الحلم, يضرب وجهه بالقلم ظاناً منه بانه سيستيقظ من هذا الذي هو فيهفيفشل ويعاود المحاولة مرة أخرى, وصديقه ينظر إليهوهو يضحك عليه, وهو لا يكف عن المحاولة الفاشلة وصديقه مشفقُ عليه, يقوم من مكانه يقترب منه وقد طوي رفعة الضوء واخفاؤها عنه , يضمه إليه برفق ثم يربت على كتفه بلطف وهو يقول له بنبرة حانية :
ــ هون عليك يا أخي ودعنا نتفق سوياً الأن على نقطة مهمة
يلتفت اليه لفتة فيها من الجنون وذهاب العقل ما فيها وهو يقول له بصوتٍ عالي خرج عن صوابه واتزانه المعهود وقد نهض ليمد يديه في وجهه صديقه وهو يقول له :
ــ وما هي هذه النقطة المهمة يا فيلسوف ..؟!
ــ أتفق معي يا صديقي أن كل شيء ممكن الحدوث في هذه الحياة ومحتمل الوقوع أليس كذلك, بل العقل البشري يقول هذا, والعلم الحديث أثبت ويحاول أن يثبت هذا وأكثر من هذا بل أن العلم الحديث ليس له خطوط حمراء يا عزيزي
ــ وما دخل هذا بذاك
ــ العلم له أراء وشطحات تتعدي حدود العقل والمنطق وقد تصل في كثير من الاحيان إلى درب من دروب الجنون وللامعقول .....
يصرخ في وجهه وقد نفذ صبره بنبرة قويةٍ وحادة
ــ اللامعقول أني هنا ..؟!!
يُكمل صديقه في هدوء, وقد قام ليمسك بيد صديقه ويسير به إلي حيث جاء معه, فالوقت قد قرب على النفاذ والبيت الذي يسكن فيه قرب على الإقلاع من مكانه , ليقول له ..؟!,
ــ ولا أدل على ذلك من الاكتشافاتوالاختراعات التي توصل إليها العلماء والعلم الحديث والتي تشبه المعجزات وقد تصل إلى الخوارق احياناً, فمن كان يصدق في القديم إن الانسان يستطيع أن يطير في الهواء وأن يبني له بيوتا فوق الماء أو أن يحط على سطح القمر أو المريخمثلاً, ويغوص في قاع المحيطات ويصطنع الغواصاتوالصواريخ والطائرات وعربات البرمائية الطائرة .. الخ ..الخ ...
يقتربا من الحائط الزجاجي يطلب منه بأن يدخل معه بسرعةفي البيت, فما كان منه إلا أن يستجيب له دون أرده منه أو اختيار أخر وكأنه تحت تأثير شيء ما لا يعرف ما هو ..
وهو في شبه انهيار عصبي


****************************
تمت مساء الأثنين 19 / 7 / 2021
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى