د. سيد شعبان - شجرة الجميز!

حان الوقت الذى كنت أحاول الهرب منه ، ذلك اليوم يمثل لي قبل أبي محنة خشيت مرارا أن تأتي ؛ فتؤلمه!
تلك الرابضة جوار سور البيت المبني من الطوب الحجري ، سور عتيق رغم أنه بني أكثر من مرة ، تهدم بفعل تمدد ذلك الجذر، ثمة أسباب للحزن تخيم على وجه أبي، الرجل الطاعن في السن حتى صار شيخًا هرمًا، لكنه ما يزال – بفضل الله – قويًّا ، له الرأي والمشورة ، يستند على عصاه وله فيها مآرب أخرى ، أتحاشاها كلما بان الغضب أو ند الشرر من بين حاجبيه!
نظرت إليه والأسى يملؤني ، غلبتني دموعي ، في صعوبة قلت : لا بد من قطع الجميزة؟
-لا أدري ؟
هكذا أجبت عليه.
بعض الشقوق ظهرت بالجدار ، يوشك أن ينهدم بسببها.
بعد صمت، قال : تلك الشجرة من عمري، زرعها جدك يوم مولدي ، هكذا قالت جدتك الحصرية.
كم لهوت مع إخوتك تحتها!
وفي الصيف تكون لكم الفاكهة!
أخذ حديثه يختلط بالحزن ، هناك انظر أسفلها كان جدك ” جادو ” يحلو له أن يقيل هنا ؛ حارسًا أبقاره، وناظرًا أرضه وهي تموج بالخضرة، صارت الآن تعج بتلك الأبنية الخراسانية الشوهاء!
غابت أعواد الذرة من الحقول ، حل محلها ، ” اللب” للسادة الساهرين في المقاهي ليلًا ؛ هكذا أجبت.
يسترجع حديثه عن المحراث ، حين يشق الأرض بالثور الهلالي والبقرة الحمراء، قال لي : الأولاد خزان العائلة ، والبقر خزان المحراث!
آن للشجرة أن ترحل ، وكذلك جدك يطلبني؛ في المنام كان معي أمس ، لكن ما كنت أظن أنك من سيفسر لي تلك الرؤيا ، وبهذه السرعة يا بني!
بكيت ، انحنيت أقبل رأسه ، مسح على رأسي ، الرحيل يا ولدي، تلك أمانة لابد أن ترد لصاحبها يوما ما!
الدموع في عيني مالحة مثل البحر، تسلط الخراب على الوادي،نعق الغراب تنادى فيه بالشؤم، كالحة مثل وجه الجنرال !
يا لجحودي المتمكن من ذاتي! لم أنظر وراء أفعالي ، إنها حياة أبي، كيف بهذه السهولة أجتثها ؟
-كثيرون حولك صاروا هجينًا، أعلم صدق كلماته، بل تذكرت حين قال : إن الدخلاء قد صاروا مثل غبش الضباب، الرؤية معتمة ، التاريخ مطموس ، الواقع مر، ما عادت النسوة يغتسلن في النهر؛ فجدائلهن أصابتها دابة الأرض ، حتى لياليهن كلهن عجز وشيخوخة ، ينتحب الرجال؛ ألا ينبثق القمر من نبع النهر، ويرتوي من شق البر!
حتى الثياب مكدسة في تلك الخزائن الطينية موشاة بالحزن، تسلط الهم فينا ؛ فأمات الحب.
حاولت أن أغير الكلمات، تلفت ناحية الباب الكبير وجدت حجرة كبيرة قد هوت ناحية الأرض، ابتسم أبي ، حان الموعد!
كان أبي في الليلة الفائتة يحدثني عن اللصوص الذين سرقوا بقرة سليمان أبو عبده ، حين خرج بها لسوق الجمعة في قطور حيث يكثر الغجر!
الجميزة يا ولدي موضع الحكايات، هنا أعمامك كانوا يتمرسون على الفتوة، يربطون كيسًا من تبن وأمهرهم من يسقطه من ضربة بنبوته!
فقط يا أبي سنقطع الجذع المتفرعن، وسينمو الساق من جديد، مثل ذلك الطائر الخرافي، يبدل ريشه !
طمع الخشاب في الجذر، صددته ؛ كان يزن ما يقارب "الطن" ، جاء بالجرار ذي المخلب ، منعته، ابتسم أبي سعيدًا، غطاه بعض الوقت ؛ حتى لا تحرقه آله القطع ، ثم قام بالليل ونزع عنه الغطاء ؛ ليداعب وجه القمر ، جاء بالماء وسقاه .
بعد مضي بضعة أعوام غرست كرمات العنب التي تسلقت السور الحجري وبدأنا ننتظر القطاف!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى