خيرة جليل - التشكيلي العراقي محمد كريم السراي فنان يبحث عن ذاته لإحداث تغيير يتطلع له..

حين طلب مني التشكيلي محمد كريم السراي العراقي المزداد ببغداد أن القي نظرة على أعماله أخبرته أنني بفترة مراجعة روايتي الأخيرة وأن الوقت جد ضيق ولا يسمح لي بكتابة مقال على أعماله. بعد إلحاحه أخبرته ان العمل النقدي يا إما أن يعمل بطريقة احترافية أو لا يعمل لأن ما قتل النقد بالعالم العربي هو نقد المجاملات أو النقد السريع المطبوخ لإرضاء أحد. لكن وفي خضم هذا الحوار حاولت أن استشرق منه الخلفية التي يعمل عليها بوضع أسئلة موجهة وهادفة، فكانت إجابته بانه يريد أن يصنع من اللاشيء ليس له قيمه وهوالكارتون إبداعا لأنه فيه روح هو يحس بها لكي يخرجنا عن المألوف لأنه يريد إحداث تغيير باستبدال السند المعتاد بخامة الورق المقوى.....وانه عمل على مستوى الرمز والبنية.
بعد تصفح أعماله بكل دقة وبتأن على مستوى : السند واللون والرمز والمادة والتركيب ........لاحظت أنه جمع ما بين المدرسة الدادائية التي هي الخلفية الفلسفية التي حركت التشكيلي كريم ووظف حمولة المدرسة الدادائية والتي وصفها الرواد الملتزمون بالفن المدرسة الفنية الجديدة التي كانت نتاج الأزمات الإقتصادية العالمية وتدهور أخلاقيات المجتمع، لكن نعود ونقول لماصرح به الفنان التشكيلي هانز ريختر (الماني الجنسية) بأن الدادائية هي حركة ضد الفن لأن الفن يدور حول القيم الجمالية بينما تغفل الأعمال الدادائية هذه القيم. ووعيا بهذا الوضع فإن التشكيلي كريم هو فنان ثائر وغاضب من الحرب التي خربت الثراث الفني العراقي بكل عبثية ، كما يحس انه تخريب لتاريخ الإنسان العراقي ككل. أعماله هذا الفنان تؤرخ المرحلة التي يمر منه ، فهو يسعى لخلق من اللاشيء شيء وله قيمة إبداعية ، لكن في نفس الوقت يحاول أن يجعل هذا الشيء ذو قيمة خلال هذه الأزمة العابرة، مما جعل التشكيلي يلجأ إلى دمج مدرسة أخرى إلى جانب هذه المدرسة بأعماله. فأخرج أعماله من نطاق المنشأ الفني الدادائي إلى دمج المدرسة التجريدية الهندسية، والتي اشتهر بها عدة فنانين في إطار الفن المعاصر ويحافظ على الشخصية المسلمة الرافضة لكل رسم يجسد. لقد لجأ للتجريد لأن التجريد في الفكر الفني هو رفض الصورة والتمثيل بها، والتقيد بالمنظور أو الطبيعة التي أصبح من الضروري الابتعاد عنها و السيطرة عليها من خلال إشارات لونية ورمزية بدلًا من الغوص فيها لكن هذه الطبيعة العراقية ما زالت تئن تحت وزر الخراب الحربي ومعاناة الإنسان العراقي من ضغطها وويلاتها.
التشكيلي كريم كأنه يعلن ثورته على هذا الوضع الكامل لأن الفنان في نظره هو ابن بيئته، رغم أنه يحاول أن يتحرر من تأثيرها باللجوء للفن من أجل الفن، بالدعوة إلى الاهتمام بالشكل على حساب المضمون أو الموضوع ، بمعنى أنّ المنتج الفني أو الأدبي يقيّم وفق معايير تراعي الشكل وجمالياته ولا تعبأ بالمضمون ولذلك حاول أن يحفر على الكرتون محاولا خلق انزياح فني شخصي أو بصمة شخصية .
حين يقول التشكيلي كريم أن للكرتون روح وأنه بالعمل عليه يحس بإحساس فهذا يذكرنا بمسألة التعبير الجمالي عند موريس ميرلو بونتي و بإشكالية الجميل أو بالمعايير التي تميّز عملًا فنيًّا عن غرض عادي Objet؛ إلا أن المسألة لدى التشكيلي كريم كما أشار العديد سابقا تتعلق بالإدراكات الحسية التي يعمل فيها جسدنا بوصفه مستقبلًا أو مبدعًا… إذ لا نوجد إلا باعتبارنا أجسادًا؛ وهذه الأجساد هي التي تدرك العالم وهي التي تبدع فيه ومن خلاله. فلا يمكن للعالم أن يكون مستقلًّا عنا ولا يمكن أن نكون مستقلين عنه، فنحن نشيّده عبر إدراكنا له؛ وبالتالي هذه الرؤية هي دعوة للرجوع إلى الواقع، لا للرجوع إلى الواقعية بالتحديد. وأما إدراك التشكيلي كريم بالواقع العراقي هو مثل ما كان بالنسبة لميرلو لا يمكنه أن يتأتى إلا عبر الفن، فن الصباغة la peinture بالتحديد؛ إذ أن الفنان هو الذي يتمكن من إدراك العالم ويجعلنا بدورنا ندركه، فالرسام le peintre يعمد إلى استخراج العالم من اللوحات، وهو ينشئ العالم من جديد داخل الكنفاس وبذلك فهو اشتغل على التركيبة اللونية والرمزية والشكلية......فالتشكيلي العراقي كريم السراي ذات فنية حائرة تبحث عن ذاتها لترسم مسارها بثقة بالنفس دون أن يقلد غيره . هو ذات متطلعة باحثة باستمرار على التجديد ويحاول نزع عباءة الوصاية الفنية داخل المدارس الفنية المعاصرة ...... فهو ذات متطلعة وباحثة باستمرار...

خيرة جليل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى