محمد الرياني - جَرِّبْ حَظَّك

جَلَستْ على الأرضِ وقد عكفتْ رُكبتيْها لتضعَ عليهما صندوقَ (جرّْبْ حَظَّك )ليراه الأطفالُ في مثلِ سنِّها ، في الوقتِ الذي يبحثُ فيه الصغارُ عن قُروش سوداءَ ضائعة في ترابِ الأزقةِ انفلتتْ من إزاراتِ الكادحين، تظلُّ تتأملُ في غيابِهم صورَ المشاهيرِ من الرجالِ والنساءِ على صندوقِ الحظِّ الذي تختفي داخلَ فتحاتِه بعضُ الحلوى والألعابِ الصغيرة ، جاءَها أحدُ الصغارِ وهو يلهثً وقد ملأَ عينيه الغبارُ وبيدهِ أربعةُ قروش ، تطيلُ النظرَ وتدققُ فيها لتتأكدَ أنها ليست قطعةَ حديدٍ مستديرة ، تحكُّ بها على صندوقٍ خشبيٍّ بجانبها لتظهرَ بعضُ معالمها ، يطلبُ منها الاستعجالَ وهو يؤكدُ لها أنَّها عملةٌ معدنيةٌ رُبَّما سقطتْ من (حَوْكِ) جَارِهم الذي عادةً ما يُخبِّئُ العُملاتِ في أعلى إزارِه أو في جيبِ حِزامِه القديمِ الذي انفتحَ من أسفلَ بسببِ ضعف جلده وتقادمه ، تطلبُ منه أن يَختارَ صورةَ رَجُلٍ أو امرأةٍ ليفقأها هو أو تقومَ هي بدورِه كي يعرفَ حَظَّه ونوعَ حَظِّه ، يأخذُ الصورةَ ويحتفظُ بها ، تَخرجُ له من كهفِ الصندوقِ حَشرةٌ من البلاستيكِ تُشبهُ العنكبوتَ الصغيرَةَ ومعها قِطعةُ حلوى ، يَضعُ القطعةَ التي تُشبهُ الخاتمُ في إصبعِه ثمَّ يلوكُ قطعةَ الحلوى وهو ينتظرُ صغيرًا قادمًا من بينِ الغبارِ الموسميِّ ومعه قروشُ ضائعةٌ فرَّت من حِزامٍ قديمٍ ليرى حظَّ قرينِه ، يجلسُ إلى جِوارِ البائعةِ الصغيرةِ التي تبيعُ كلَّ يَومٍ فتحتينِ أو ثَلاثًا من صندوقِ جَرِّبِ الحَظ ، يَمرُّ أسبوعٌ وإذا الصُّندوقُ قد فَقدَ كُلَّ الصُّورِ التي تختفي تحتها الألعابُ وقطعُ الحلوى ، كبرتْ (شمعة) التي كانت تضعُ إصبعَها السمراءَ الصغيرةَ بعنفٍ لتفقأَ أغطيةَ الألعابِ من أجلِ الصغارِ الذين يلهُون بينَ ذرَّاتِ الغبار ، رأوا إصبعَها ترتجفُ يومًا، جاءَها الصغيرُ الذي لبس خاتم البلاستيك وقد كبرَ مثلها ليتفقدَ حالَها وقد اختفى ترابُ الأزِقَّةِ وتغيرتِ المعالم ، مشى نحوَها ولم تبقَ أحزمةٌ تتسَلَّلُ من جوفِها القروشُ لتتجهَ إليها وتشتري منها الحَظ ، جلستْ على الأرض بتثاقلٍ ولم تستطعْ ثَنْيَ رُكبتيْها كما كانت تفعل ، مَدَّ لها بِعملاتٍ من الورقِ كي تستعيدَ بَعضَ سعادتها ، تَرقرقَ من عينيْها الدمعُ فأغرقَ العملات ، نادتْ لِيسمعَها هُوَ ومَن حَضرَ حولَها مازحةً : جَرِّبْ حَظَّك ..جَرِّبْ حَظَّك ، أَجهشتْ بالبكاءِ وبَكَوْا مَعَها.
  • Like
التفاعلات: حمزة بونوالة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى