مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الطوفان

من كتاب رحلة إلى شاطئ النار والنور


بعض البشر يمتلكون عقلا متحجرا، غير قابل للتغيير، وقلوبا موصدة لا تستقبل أي مشاعر وجدانية، ولا تتفاعل مع ما تراه حتى من معجزات!!
ترى هل هي طبيعة بشرية، تتجسد في بعض الناس منذ قديم الأزل ؟!
في زمننا هذا من الناس من لا يمتلك ذرة من مشاعر الرحمة، أو حتى الحب!!
بشر لا يؤمنون سوى بالمادة، عقول لا تدرك ولا تحس إلا بما يتجسد أمامها من ماديات، أو جدليات ينسبونها إلى المنطق والحسابات الدنيوية...
قد تحركهم شهواتهم أو غرائزهم، فهم عمي صم بكم لا يعقلون، ربما حتى لا تأتي عليهم لحظة يفكرون بها فيما هو وراء الطبيعة...
ماذا قبل؟!
وماذا بعد؟!
فهم قد جعلوا الحياة تتوقف فقط عند موطئ أقدامهم، وإذا عدنا إلى الماضي البعيد، فسنتعرف على أحد كبار الأنبياء، إنه النبي الكريم نوح وأول رسل الله، الذي ظل يدعو قومه لأكثر من تسع مائة عام، بلا جدوي.
فها هم بني قومه قد تمسكوا بعبادة الأصنام، وما ألفوه، من فعل آبائهم، وأجدادهم، ونسوا أن هذه الأصنام ليست إلا مجرد تماثيل قد صنعت لأشخاص، كانوا صالحين في غابر الزمان، ولما ماتوا الواحد تلو الآخر ،بكاهم الناس و َحزنوا على فراقهم، كثيرا، وحسبوا أنهم بموتهم، قد فقدوا البركة والصلاح.
حتى وسوس إبليس إلى أحد الفنانين المهرة كي يصنع لهم تماثيل من حجارة، أو طين، أو حتى خشب، بحجة، أنها تذكره لقومه، علها تكون زلفة وتقربا للرب!!
واستمر الشيطان ببراعته المعهودة، ودأبه، الشديد، فجعل يغير الغرض الأساسي من صناعة التماثيل تدريجيا، حتى أنه أنسى الناس أنها مجرد جماد أصم، لا ينفع ولا يضر، وجعلها ألهة كبرى .
بل وربما أحاطها بالأفعال الخارقة وأطلق لها بعض الأصوات، واسترق هو وأعوانه من السماوات العليا بعض التنبؤات من كتاب القدر المحتوم لكل إنسان.
أولئك الشياطين الذين يسترقون السمع خلسة من الملائكة فترجمهم بالشهب، فيخطئون مرة ويصيبون مرات أخرى.
( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين، واعتدنا لهم عذاب السعير) سورة الملك

جاء سيدنا نوح إلى قومه ليصلح لهم دينهم ويخرجهم من ظلمات كفرهم إلى النور، ولكنه لم يحقق معهم أي نجاح يذكر ، اللهم إلا مع قلة من صفوتهم.
وإذا فكرنا في نوعية هؤلاء البشر، سنجد أنه يوجد بيننا من يشابهم ،بنفس سمات الغباء والعناد، بنفس غلظة وسواد القلب ؟!
و لعلهم كانوا مجموعة من المتخلفين الهمج، الأقرب للوحوش البرية!!
وقد بني النبي نوح، عليه السلام سفينته الكبرى، ثم أخذ فيها زوجين من كل مخلوق على وجه الأرض.
بنيت السفينة على مدار سنوات طوال، بينما ينظر إليها صناديد الكفر وهي قائمة بين الجبال، كانوا يعبثون و يسخرون من نوح ومن معه ويتهمونهم بالجنون، فأي عقل هذا الذي يجعل شخصا يبني سفينة في وسط صحراء قاحلة لا يوجد بها زرع ولا ماء؟!
والأمر الأكثر حزنا هو كون ابن نوح واحدا من أولئك الكفار، وقد رأى بعينيه، بدايات الطوفان، وجعل نوح يلح عليه أن يصعد معه إلى السفينة، ليكون من الناجين إلا أنه ظن أن صعوده إلى أحد الجبال العالية، سينجيه من الغرق...
إنه و كفار قومه ، من نفس النوعية الرديئة من البشر ،الذين لا نصفهم سوى بقمة العناد وغلظة القلب.
فمنهم الآن من يروع الناس في بيوتهم، ومن يقتل الأطفال والشيوخ والنساء، ومن يهدم المساجد والمعابد والكنائس، ومن يفجر نفسه بغية أن يعاشر حورية من حوريات الجنة..
وكذلك من وضعهم الشيطان في قمة السلطة كحكام وملوك لجماعات وأمم وبلدان.
هم بشر وأخوة ومن ذرية أب واحد ، ولكنهم أشعلوا الحروب ودمروا قرى ومدنا بأكملها...
شردوا ويتموا ،وقتلوا الملايين، بدون أن يتحرك فيهم إحساس أو حتى وخزة ألم لضمير إنساني.
***
بكى نوح ابنه وحزن عليه وخاطب ربه أن ينجيه، ولسان حاله يقول:
يارب قد، وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي.
إلإ أن الله نبهه أن هذا الابن ليس من أهله، وإنما أهله هم المؤمنون الذين معه وأن هذا الولد ليس إلا عملا غير صالح...
حتى رجع نوح إلى ربه، واستغفره كثيرا..
وتوقف الطوفان بعد أن أهلك كل من على الأرض إلا سفينة نوح.
وهنا بدأت حياة جديدة على الأرض،التي جعل يعمرها نوح وأتباعه من المؤمنين،الذين هم صفوة البشر وكأنهم خطوة كبرى في عملية الانتخاب للطبيعة التي تبقى الأقوى والأصلح .
وهكذا يتضح لنا أن قوم نوح لم يكن يصلح معهم إلا الإبادة الكاملة فهم في حال بقائهم لن يخرج من نسلهم إلا جبارين، أكثر فسقا.
السؤال البسيط جدا هو :
لماذا لم يصعدوا مع نوح إلي السفينة ؟!
والأمر سهل للغاية ، حتى وإن فعلوا ذلك من قبيل الاحتياط.
الشيطان كعادته....
لم يترك أتباع نوح عليه السلام، وإن كانوا من الصفوة المنتخبة ، فسرعان ما يمضي الزمن، ويخرج أيضا من نسلهم من يشرك و يكفر بالحق ويرجع إلى الباطل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى