مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - إرم ذات العماد

من كتاب رحلة إلى شاطئ النار والنور


( قوم عاد) هم أوَّل من قاموا بعبادة الأصنام بعدما أهلك الله قوم نوح بالطوفان.
وقد كانوا طُّغاة وأقوياء متمردين فبعثَ الله فيهم نبيه هود -عليه السلام- ليدعوهم لعبادة الله تعالى وتوحيده وترك ما يعبدون من دون الله.
إلا أنهم قابلوا دعوته بالسخرية، والإنكار.
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}،
وهود -عليه السلام- هو هود بن شالح بن أر فخشذ بن سام بن نوح، وقيل هو ابن عبد الله ابن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح...
وهو أحد الأنبياء العرب.
وهم خمسة أنبياء( صالح وهود وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام)
ذكر هود لقومه قصة نوح -عليه السلام- فحذّرهم أن لا يُصيبهم نفس المصير.
{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
{قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
ولقد حدد القرآن مكان قوم عاد في الأحقاف والأحقاف جمع حقف وهي الرمال، ولم يعيين القرآن موقعها تحديدا.
هذا وقد تعددت الأقوال حول موقعها، فيقال أنها بالقرب من دلتا النيل في أحقاف مصر، ويقال أنها في جنوب شبه الجزيرة العربية في منطقة الربع الخالي بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان وجمهورية اليمن.
{وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ}
{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَال}
قال القرآن :وَإذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا الله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الاحقاف:21).
ولقد أخبر القرآن الكريم أن قوم عاد بنوا مدينة اسمها (إرم) ووصفها القرآن بأنها كانت مدينة عظيمة لا نظير لها في تلك البلاد :
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ{6} إِرَم ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} (سورة الفجر).
وقد ذكر المؤرخون أن عاداً عبدوا أصناماً ثلاثة يقال لأحدها صداء، وللأخر صمود، وللثالث الهباء، وذلك نقلاً عن تاريخ الطبري.
ولما رأوا السحاب يلوح في السماء ظنوا بأنّه سحابة مطر.
{لَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ}
وقد أرسل الله تعالى إليهم العذاب الذي أنذرهم منه، فظنوا في بدء الأمر أن السحاب الذي ملأ السماء، يحمل لهم الأمطار ففرحوا واستبشروا، بينما كانت هذه السحب هي العذاب الذي بعثه الله تعالى إليهم فلم تحمل لهم الأمطار، وإنما حملت لهم الريح العاصفة، والأتربة والرمال، فدمرتهم ودمرت مساكنهم ولم تُبقي لهم على حياة.
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ* مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}
فكان عذابهم ريح صرصر عاتية، وأما هود -عليه السلام- فكان في حماية الله عز وجل،هو ومن آمن معه، فلم يصبهم العذاب ولم يروا من الريح إلا النسيم العليل ..
49} وَإِلَى عَادٍأَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ {50} يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {51} وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ {52} قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ {53}سورة هود.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَة عَادٍ وَثَمُودَ {13} إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِن خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {14} فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {15} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُم عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ{16} سورة فصلت.
***
في بداية عام 1990امتلأت الجرائد العالمية الكبرى بتقارير صحفية تعلن عن: "اكتشاف مدينة عربية، خرافية،مفقودة "
" أسطورة الرمال (عبار)"
والأمر الذي جعل ذلك الاكتشاف مثيراً للاهتمام هو الإشارة إلى تلك المدينة في القرآن الكريم.
كان العديد من الناس يعتقدون أن "عاداً" التي روى عنها القرآن الكريم مجرد أسطورة ،ولكنهم لم يستطيعوا إخفاء دهشتهم أمام ذلك الاكتشاف .
نيكولاس كلاب، عالم الآثار الهاوي، هو الذي اكتشف تلك المدينة الأسطورية، وهو مغرم بكل ما هو عربي مع كونه منتجاً للأفلام الوثائقية الساحرة.
أطلق اليونان على تلك المنطقة اسم "العرب السعيد" ، وأطلق عليها علماء العرب في العصور الوسطي اسم "اليمن السعيدة" وسبب تلك التسميات أن السكان القدامى لتلك المنطقة كانوا أكثر من في عصرهم حظاً،وهذا يرجع إلى موقعهم الاستراتيجي من ناحية ؛ حيث أنهم اعتُبروا وسطاء في تجارة التوابل بين بلاد الهند وبلاد شمال شبه الجزيرة العربية، ومن ناحية أخرى فإن سكان تلك المنطقة اشتهروا بإنتاج "اللبان" وهو مادة صمغية عطرية تُستخرَج من نوع نادر من الأشجار،وكان ذلك النبات لا يقل قيمة عن الذهب حيث كانت المجتمعات القديمة تُقبل عليه كثيراً.
هذا وقد كان قد أسهب الباحث الإنجليزي "توماس" في وصف تلك القبائل "السعيدة الحظ" ورغم أنه اكتشف آثاراً لمدينة قديمة أسستها واحدة من تلك القبائل، وكانت تلك المدينة هي التي يطلق عليها البدو اسم "عُبار"، وفي إحدى رحلاته إلى تلك المنطقة، أراه سكان المنطقة من البدو آثاراً شديدة القدم وقالوا إن تلك الآثار تؤدى إلى مدينة "عُبار" القديمة.
ولكن "توماس" توُفِى قبل أن يتمكن من إكمال بحثه.
وبعد أن راجع "كلاب" ما كتبه الباحث الإنجليزي توماس ، اقتنع بوجود تلك المدينة المفقودة التي وصفها في كتابه، ودون أن يضيع المزيد من الوقت استخدم "كلاب" طريقتين لإثبات وجود مدينة "عُبار"
أولاً: أنه عندما وجد أن الآثار التي ذكرها البدو موجودة بالفعل، قدم طلبا للالتحاق بوكالة ناسا الفضائية ليتمكن من الحصول على صور لتلك المنطقة بالقمر الصناعي، وبعد عناء طويل، نجح في إقناع السلطات بأن تلتقط صوراً للمنطقة..
ثانياً: قام "كلاب" بدراسة المخطوطات والخرائط القديمة بمكتبة"هانتينجتون" بولاية كاليفورنيا بهدف الحصول على خريطة للمنطقة،وبعد فترة قصيرة من البحث وجد واحدة، وكانت خريطة رسمها "بطليموس" عام 200 ميلادية، وهو عالم جغرافي يوناني مصري، وتوضح الخريطة مكان مدينة قديمة اكتُشفت بالمنطقة والطرق التي تؤدى إلى تلك المدينة،وفي الوقت نفسه، تلقى أخباراً بالتقاط وكالة ناسا الفضائية لصور للمنطقة، وبمقارنة تلك الصور بالخريطة القديمة التي حصل عليها، توصل"كلاب" أخيراً إلى النتيجة التي كان يبحث عنها؛ ألا وهى أن الآثار الموجودة في الخريطة القديمة تتطابق مع تلك الموجودة في الصور التي التقطها القمر الصناعي، وأخيراً، تم اكتشاف مكان المدينة الأسطورية التي ظلت طويلاً موضوعاً للقصص التي تناقلتها ألسن البدو.
وبعد فترة وجيزة، بدأت عمليات الحفر، وبدأت الرمال تكشف عن آثار المدينة القديمة، ولذلك وُصفت المدينة القديمة بأنها (أسطورة الرمال "عبار").

وقد كان من الواضح أن تلك المدينة المحطمة تنتمي لقوم "عاد" ولعماد مدينة "إرَم" التي ذُكرت في القرآن الكريم؛ حيث أن الأعمدة الضخمة التي أشار إليها القرآن بوجه خاص كانت من ضمن الأبنية التي كشفت عنها الرمال.
قال د. زارينزوهو أحد أعضاء فريق البحث وقائد عملية الحفر، إنه بما أن الأعمدة الضخمة تُعد من العلامات المميزة لمدينة "عُبار" وحيث أن مدينة "إرَم" وُصفت في القرآن بأنها ذات العماد أي الأعمدة الضخمة، فإن ذلك يعد خير دليل على أن المدينة التي اكتُشفت هي مدينة "إرَم" التي ذكرت في القرآن الكريم ولقد كشفت السجلات التاريخية أن هذه المنطقة تعرضت إلى تغيرات مناخية حولتها إلى صحارى، والتي كَانتْ قبل ذلك أراضي خصبة مُنْتِجةَ فقد كانت مساحات واسعة مِنْ المنطقةِ مغطاة بالخضرة كما أُخبر القرآنِ، قبل ألف أربعمائة سنة.
ولقد كَشفَت صور الأقمار الصناعية التي ألتقطها أحد الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا عام 1990 عن نظامَ واسع مِنْ القنواتِ والسدودِ القديمةِ التي استعملت في الرَيِّ في منطقة قوم عاد والتي يقدر أنها كانت قادرة على توفير المياه إلى 200.000 شخصَ.
كما تم تصوير مجرى لنهرين جافين قرب مساكن قوم عاد.
أحد الباحثين الذي أجرى أبحاثه في تلك المنطقة قالَ" لقد كانت المناطق التي حول مدنية مأرب خصبة جداً ويعتقد أن المناطق الممتدة بين مأرب وحضرموت كانت كلها مزروعة، كما وَصفَ الكاتبُ القديم اليونانيُ Pliny هذه المنطقةِ أنْها كانت ذات أراضي خصبة جداً وكانت جبالها تكسوها الغابات الخضراء وكانت الأنهار تجري من تحتها، ولقد وجدت بعض النقوشِ في بَعْض المعابدِ القديمةِ قريباً من حضرموت، تصور بعض الحيوانات مثل الأسود التي لا تعيش في المناطق الصحراوية وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المنطقة كانت جنات وأنها مصداقاً لقوله تعالى : واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم(الشعراء)
أما سبب اندثار حضارة عاد فقط فسرته مجلة A m'interesse الفرنسية التي ذكرت أن مدينة إرم أو"عُبار" قد تعرضت إلى عاصفة رملية عنيفة أدت إلى غمر المدينة بطبقات من الرمال وصلت سماكتها إلى حوالي 12 متر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى