عبدالله البقالي - التوجه غربا..

الى منعم العيدوني


كان صوتي هو الاعلى.
لم يكن بمقدوري ان احضر كل سكان المعمور، و اطالبهم بالوقوف على حافة خط واحد، و امرهم بالصراخ دفعة واحدة، فينقطع صدى صراخهم، و يظل صدى صوتي هو الوحيد المسموع. لكني استنتجت ذلك بشكل مختلف. اذ لا صوت استطاع ان ينتزعني من تركيزي. و لا شئ تمكن من سحبي خارج ما كنت ارغب في الخوض فيه. و اعتقد اني فعلت ذلك من منطلق ان مهمة التقاط الاضوات هي مهنة من نفذت ذخيرته و كفت قدرته عن صنع الفعل.
لكني الى الان لم اهدا بعد. و لا اعتقد اني سافعل ذلك ما دمت قاردا على التنفس.غير اني صرت اضبط تردد اصداء هي لغير صوتي في تخومي الداخلية. وهو امر بدا يشعرني اني لم اعد بتلك المناعة التي كانت تكسر موجات الاصوات التي كانت تفد علي من العالم الخارجي. الشئ الذي يدفع بي للاعتقاد أن دورة العمر بدات تتوغل في مدار الفصول الباردة.او ربما ان الوهن الذي يعقب الحراك، يفسح المجال لنوع اخر من الحوار مع الحياة. حوار بشترط الا انفعال او حركة. لكن يجب الاقرار ان هذا الحوار ليس مخيفا كما كان يبدو. بل هو قد يكون نوعا من التصويب لطبيغة الاشياء. لكن ذلك لا يعني اني تخليت عن عشقي الاول المتمثل في الصخب و التمرد. فلا زلت اصر على ان الحياة الحقيقية لا توجد الا في تلك الرقعة المنفلتة من هيمنة الهيكلة و سطوة الاعراف و التقاليد.
لقد كنت سليل الدهور المتهالكة التي كان لكائناتها حكايتها الخاصة مع الاصوات هي ايضا. فمسامعها لم تلتقط ابدا همس اصواتها. و ابصارها ظلت على الدوام تنظر للخلف باعتبار ان الاجمل قد عيش و انتهى. و احجامها على النظر الى الامام مبعثه الوصايا القديمة التي اكدت ان الحياة باتجاهها الى الامام انما تنزلق الى حتفها. و ان هذه النهاية ستكون بادية للعيان حتى قبل حدوثها ، من خلال العلامات و السمات التي تبشر لها. وهو الموضوع الوحيد الذي استحق اهتمام تلك الكائنات التي انشغل به المتفقهون و من يزعمون الدراية من اجل تحقيق سبق ينبئ بالكارثة.
اكد البعض ان تلك النبوءة ستتحقق حين تنجب انثى البغل. وهو ما اعتبرته العامة دعوة لاستنفار دفع بها الى خصي كل البغال تجنبا للكارثة. لكن الجهابذة عادوا لبتحدثوا عن امر اخر. و هم ان تركوا الحيوانات جانبا هذه المرة، الا انهم احتفظوا بكون الفناء مرتبط بولادة. لكنها ولادة بشرية هذه المرة.
لقد برهن العارفون ان الفناء مرتبط بظهور ّالدجال" او ّ التجال "بوضريسةّ" بتعبير العامة. و ان السمات التي بشر بها القدماء، هي بادية للعين من خلال الجيل الجديد. نعوت افادت انه الجيل الذي لا ينفع و لا يقنع و لا يشبع. و له جنوح فطري للعصيان و التمرد.و تلطيح القيم و المثل. و الدوس على المقدس.
كان الامر رهيبا. و ربما تساءل الصغار ما ان كانت لهم علاقة ما مع البغال، او ما ان كانت الازمنة هي ايضا يمكن ان تنجب لقطاء ترفضهم الحياة. فتضرب ضد السيرورة من خلال استدعاء نهايتها كي لا يتمدد في شرائط ذاكرتها حياة كائنات متحالفة مع الفناء.
كان عصيا حتى على الخيال تصور فضاء لا كواكب فيه و لا شموس و لا ليل و لا نهار. و لا كان قادرا على ان يتصور ان هذه الرحاب المسكونة بالروعة و السحر و الجمال هي كاي عمر تؤطره البداية و النهاية. ز لذلك لم يكن هناك من عزاء يمكن التعبير عنه سوى النظر بمواساة للافاق المجارية لامتداد السماءـ، و الجداول و الانهار، و الحياة المزروعة في الاصقاع و التخوم في محاولة للتعبير عن تضامن لا يعرف من الاولى به.
لقد كانت الحياة هي الدنيا. سيدة البدايات و النهايات. عتيدة قوية. قباضة ولادة. لكنها تصبح فجاة كاي عمر لكائن ضعيف يلتهمه الفناء و ليقام على انقاضه الافران و المقاصل. و يمتلئ فضاؤها بالعويل و الصراخ و التوسل غير المجدي. و كل ذلك ليس لامد عابر. بل و لابد الابدين.
فاتورة مهولة لم يكن يعرف سبب ارتباطها بمجيئ جيل. عجز عن التفسير لم بملك بصدده سوى تجنب النظر شرقا. ربما بسبب وجود المقبرة هناك.و لان كل المصائر السوداوية التي تحدث عنها الكبار تبدأ من هناك. كما ان الشرق قبل ذلك كان البواية المفضلة للعصور الغابرة التي ترسل عبرها وعيدها و تذكاراتها . فمنها كانت تفد فرق ّاحمادشةّ برقصاتها المجنونة و حرابها المسننة و الويتها الملطخة بالدم. و من بوابة الشرق كانت تفد النعوش الى المخافر جراء الحروب التافهة.
كان التطويق محكما. فلا مكان يمكن الهروب اليه. كان المنطق يفيد ان الاطفال لا سجلات مكتوبة باسمائهم تدون فيها افعالهم. لكن العارفين الذين نعتوهم بالتجال بوضريسة افادوا ان كتبهم قد سودت وهم لم يفدوا يعد الى هذه الدنيا. وهو وضع لم يكن ليصحح الا بمستحيلين. القدرة على العبث بالازمنة، او امتلاك الاستطاعة التي من شأنها تغيير الاقدار و المصائر.
هكذا صارت الابصار تتجنب النظر للشرق. و حين تعرض عنه، فالمساحة الممتدة غريا تصبح هي الاتجاه الوحيد المفتوح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى