د. السيد شعبان - عيون بلقيس.. قصة قصيرة

روادنتي عن نفسي؛ تدفع بي إلى عالم متلبس بالأوهام، مفردة لم أكتبها بعد؛ أحاول دائما أن أبتعد عن فكرتها؛ يطاردني الحلم كلما أمسكت بالقلم؛ أخاف أن أمر بمفرداته التي يخايل بها عقلي؛ ثمة خطر ما يقف لي عند حنية الطريق، كلما ألح علي التمست سبيلا أخرى؛ تدور عيناي في الفراغ المحيط بي، أتحسس رقبتي؛ فقد تكون المقصلة جزاء هذا الهراء؛ مؤكد أنه عبث، ثمة كتابة تعد جريمة وأخرى تجلب شهرة، في الحالتين تلك مخاطرة ومن يضمن لي أن نباش النصوص لن يعثر على دليل اتهام يلقي بي في عتمة تمتد هذا إن أخذته بي الرحمة، لكن خاطرا ما يساومني: إما الكتابة أو الموت!
علي أن أختار، الحياة اتجاه واحد، فكرت أن أتعاطى حبوب النوم التي تباع في أماكن خاصة ووراء لافتات جذابة؛ يقود أصحابها سيارات سوداء عليها إشارات لهيئات خاصة ومن ثم يخاصرون نسوة يتثنين فتنة.
تلوح في سماء المدينة نذر خوف، كل الذين حلموا بأن يمتلكوا أجنحة العصافير رصدت أسماؤهم، يتتبعون أرقام هواتفهم النقالة يجوسون خلالها؛ إنه الخوف يتملك االجميع؛ حتى سيقان القمح تنتهشها مناجل الحصاد، تصر القطط الصغيرة ألا تشبع من لبن أمها؛ تتكاسل، حالة من موت سريري.
في المرة التي تكون قادمة سأتخلص من الحروف والصور والمفردات وأكتفي بتلاوة سفر الخروج.
يستبد بي شعور بالغثيان، تنتفخ بطني بصورة مقززة؛ حين ذاك لا أجد لي وزنا، يتساقط حبر قلمي، يرسم خلفي صورة فأر كريه، في مرة سابقة تملكني الخوف أن أكون كريه الوجه؛ كلما سرت في الطريق يتضخم ذلك الحيوان الذي يتبعني؛ يقهقه المارون بجواري ينفضون ثيابهم فأمي دائما ما كانت تحذر أن يتسلل فأر إلى خزانة الطعام؛ كيف وإن رأت ولدها وقد صار أشبه به؟!
تساءلت كثيرا : هل أنا مجنون؟!
كانت بلقيس جميلة شعرها ينسدل كأغصان الصفصاف عند ضفتي الذي كان نهرا، قوامها نخلة يغازلها الريح بشط العرب، بلقيس لي وحدي تملك القصر الممرد في بلاد تذوب حبا، هل ترى سيأتي وأكون قيسها السعيد؟
بالفعل أيقنت أنني المجنون لكن بلا ليلى!
ربما تكون تلك الحقيقة؛ تستبد بي الهلاوس وتتملكني الظنون، أتعاطى الحروف سرا؛ أمسك بفرشاة أختى الصغيرة ليلا حين يغيب القمر؛ أتحين ساعة الظلام ومن ثم أشرع في حوار صامت، أزوج النجوم المتباعدة، أخبرتكم أنني مصاب بوسواس القلم؛ حدث حين كنت أرتب الحروف المتنافرة أن وجدت معجمي قد خلا من بضعة حروف؛ مؤكد أن ذلك الجرذ الذي تسلل من محبرتي قد أتى عليها، أية حروف تلك التي نقصت؟
دارت بي الأرض، حين قابلتها اجتهدت أن أنطق بذلك الحرف الذي يأتي في أول ذلك الطير الذي اتخذوه شعارا للسلام، أما الآخر فقد أتعبني لأنني افتقدت باقي المفردات.
تبينت أن الفأر يسكن داخلي لا يتبعني، صدقوني لن أكتب ذلك النص الذي تشتهون أن تجدوه بأوراقي المنسية؛ في جوف القبو الحجري سياط وأدوات خصي عصرية؛ ومن يومها وأنا أطارد نصي المصاب بالرهق كي أحرقه؛ أخاف منه، يصعب عليكم أن تتخيلوا وجعه، أكثركم لم يدخل ذلك السرداب هناك توسدت تلك المفردة المذبوحة بجواري؛ جمعت أشلاءها؛ تخيلوا لقد فضوا غشاء بكارتها؛ والآن صرت المتهم بذلك الفعل الهمجي؛ قتلوا بلقيس بنت الراوي وأحرقوا قلب نزار عليها؛ قطعوا أصابع ناجي العلي حين تبع ظل ولده حنظلة؛ وهل أنا مجنون كي أفعل مثلهما؟
غدت المفردات جريمة والأحلام أدلة الاتهام، ولدتني أمي مهمشا أسكن بدار النسيان وأرتدي خرقة بهلول يطوف بمقام أولياء الله.
في تلك البلاد تتقزم الحروف وقد تبدو باهتة بلا ظل إلا من تلك الحمرة القانية، مائة عام من عزلة لا تكفي كي يشبع هؤلاء الذين يسكنون قلاع الجبل في بلاد غارت أنهارها.
وهل بعد أكون عاقلا؟
كلما جريت وراء تلك المفردة يسدر الجنرال في غيه؛ يدخل متاهته ويسخر مني، يحرك ذلك الفأر شاربيه في اشتهاء غريب، يبدأ في قرض أصابعي، يقف فوق ممحاة قلمي الرصاص؛ يتسرب داخل المحبرة كلما كتبت يمحو ويبدل؛ حروفه ناعمة مداهنة، تلقي إليه حبات البازلاء الشهية، تتجمد أطرافي؛ يتعاكس القلم نصلا في صدري، يقهقه القابع في متاهته، يهرب الحلم الذي سكن تلك المفردة الحمراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى