عبدالرحيم التدلاوي - الكتابة بصفتها لعبا جادا.

يمكنك أن تقرأ المجموعة دفعة واحدة وفي جلسة واحدة، وتطويها؛ لكن تأكد على أنك ستحملها بداخلك، ترح أسئلتك الخاصة عليها، وتبحث لها عن أجوبة محتملة.

***

يمارس الكاتب حريته في تشكيل نصوصه وبناء عماراتها بلذة تخييلية باذخة القوة والجمال، معتبرا في الوقت نفسه أن الكتابة لعب جاد، فهي لا تخلو من معنى.
يؤسس من أشياء العالم كونه التخييلي، جاعلا اللعب السردي وطريقة الحكي مدماكين أساسيين في بنائه للنصوص، رادما الحدود بين الواقعي والتخييلي؛ فالتداخل بين العالمين شديد لدرجة لا يمكن تلمسها، فحين يقول الواقعي يقول في الآن ذاته الخيالي. هما قولان متشابكان يدفعان بالقارئ إلى محاولة الوقوف على الحد الفاصل بينهما حتى يتمكن من الفصل المبين والقبض على المعاني الثاوية بين السطور، ويطمئن إلى تأويل ممكن للعالمين.
مجموعة "الشجرة العمياء" لمحمد العتروس، صدرت عن دار النشر ديهيا في طبعتها الأولى سنة 2019، وتشتمل على قسمين، أحدهما للقصة القصيرة، ويتضمن ثمانية نصوص، وثانيهما للقصة القصيرة جدا ويتضمن عشرة نصوص. على مساحة نصية تبلغ 90 صفحة من القطع المتوسط.
ويتخذ هذا المنجز، كما يقول رشيد أمديون: الحكاية وفتنتها أساسا يقوم عليه بناء النص، فهي مساحة زمنية في الحدث، يتوسل القاص بها لإغناء المعنى المضمر، لأن المتلقي يغريه الحكي
تقف المجموعة من ذلك الاحتراز الذي يتصدر العديد من الأعمال الإبداعية، و الرامي إلى خلق تباعد بين أحداث الكتابة التخييلية والواقع، موقف الرفض، وتؤكد، بيقين، أن الكتابة الإبداعية هي الواقع ذاته، وهي عين الواقع، معترفة في ذات الوقت أن الواقع أقسى وأمر، وبناء عليه، يؤكد المبدع مخاطبا قارئه؛ وقد تلبس شخصية ضمن أحداث قصته وهو غير المشارك فيها، على أن التشابه في الاسم، أو في الشخص، أو في الأحداث، أو الأماكن، مقصود كل القصد. ص8.
يتبادر إلى الذهن وأنت تقرأ العمل سؤال إن كانت النصوص تضيء بعضها بعضا، ذاك ما يوحي به، على الأقل، النصان القصيران جدا "طفولة" ص82. و"عدم" ص81. فهما يتصاديان مع قصة "إدغار موران" ص17، هذا الفيلسوف المهتم بقضايا الإنسان والوجود منذ لحظة الوعي وإلى هرمه. فالنصوص جميعها تخوض في غمار مشاكل الوجود والموت والحياة، والوحدة والعزلة، وثقل السنين، والإيمان والإلحاد، والذات والجماعة والحلول بصفتها استعادة الحياة من جديد بشكل دائري وجهنمي يؤكد عدم القدرة على الانفلات من الحياة. قضايا تتشارك فيها جميعها لتؤكد أن النصوص لا تبتعد عن بعضها البعض، بل تكون نبراسا لبعضها يضيء أحدها سبيل الثانية، ويلقي الضوء على ما تعبر عنه من قضايا.
ولا تكتفي المجموعة بخلق نوع من الحوار المضيء بين نصوصها بل نجدها تتعمد خلق قصة داخل قصة لتضيئها، وتسمح للقارئ بالقبض على معانيها المنفلتة، كما هو الشأن في قصتي "حين يصبح الإسكافي نجارا" ص29، وقصة "كلب" ص65.
لا ينبغي اعتبار ذلك الحوار أداة يوظفها الكاتب لتبسيط معاني نصوصه، وتيسير فهمها من لدن القارئ، فذلك شأن بعيد عن اهتماماته، بل هي الرغبة في خلق حوار بناء بين النصوص على اعتبار أنها من رحم بعضها تتخلق، وأن النص، أي نص، هو وليد نصوص سابقة عليه؛ وإلا، فما معنى استدعاء مبدعين مشهورين وأسماء أعمال إبداعية معروفة في قصصه؟
ويسير نص "سهو.." ص7، على النهج نفسه لكن بشكل مختلف، كونه يستدعي قصة خارجه، هي القصة القرآنية التي تتحدث عن ذلك الذي دخل جنته واعتقد بنوع من التباهي أن خيراتها من عرق جبينه، وما لبث أن تحسر بعد أن صارت قاحلة.
هي قصة صعود وسقوط مر أعقبه رد فعل ساخر من رجل مؤمن بعد تكبد الخسارة الفادحة. لكن القصة التي يستدعيها أو يقيم معها حوارا لا تماثل القصة القرآنية بل تتقاطع معها.
من خلال ذلك يمكن اعتبار العمل لعبة سردية يحقق فيها المبدع متعته ومتعة القارئ من دون أن تكون خلوا من المعنى، فكل لعب إلا وله قوانينه وأهدافه البعيدة والقريبة فنيا وجماليا. وهذا ما دفع الكاتب إلى استدعاء شخصيات حقيقية وسحبها إلى عالمه التخييلي مجردا إياها من بعدها الواقعي وساحبا عليها رداء التخييل الممتع والمفيد. فإدغار موران فيلسوف حقيقي ما زال يعيش معنا، يتحول شخصية محورية في القصة التي تحمل اسمه، ولا يتورع الكاتب من جعل شخصيته الواقعية شخصية تخييلية لا تشارك في الأحداث لكنها تكون شاهدة عليها، تروي ما جرى من وجهة نظرها مدعمة إياها بالحوار الذي يصب في مرادها.
ومن الواقع وتجاربه نخرج بصورة تقول إن الفراشات/النصوص لم يعد يطاردها أحد الآن، وهو توصيف مؤلم لم آل إليه الواقع، ودعوة إلى استعادة التمتع بالجمال، كما ورد في نص "فراشات" ص90.
أما قصة "أعمدة الماء.. أشجار النور" ص55، فتؤسس بعدها على الخيال الجامح الساعي إلى خلق معنى لولادة أشجار النور التي هي منبت انبثاق قوس قزح. القصة تدخل ضمن باب ألف ليلة وليلة، وتأتي بعد الليلة الأخيرة لتبني ليلتها الفاحشة خيالا، مستعيدة قصة الطوفان، وقصة مدن الملح، فهي زاخرة بالاقتباسات القرآنية. لا تهتم القصة بتخييب أفق القارئ، بل نجدها لا تتحرج من جعله يترقب النهاية التي صاغها في ذهنه منذ البداية، لكنها تروم خلق مساحة جمالية عامرة بالدهشة، كون مجالها هو بناء الحكاية كعنصر تحفيزي على مواصلة القراءة. ولا تستبعد من مجالها طريقة حكي بيدبا في "كليلة ودمنة"، فهي تعتمد في مفتتحها على جملة "يحكي" القريبة من "زعموا" إلا أن الأولى تقدم لنا فاعل الحكي الذي يظل رغم ذلك غير محدد المعالم. وتسبق فعل الحكي إشارة إلى ذات سابقة، هي ذات السارد الذي يستحضر الحكي مؤطرا إياه بتنبيه واجب يقوم على نفي المنطق، وتقبل القصة بمنطقها الخاص الذي يخرق المنطق الواقعي.
وهذا ما يؤكده الناقد رشيد امديون بقوله:
فهذا النص فسحة من حكاية لا تنفصل نهايتها عن بعدها الأسطوري، كمثال لأصل وجود قوس قزح، الذي هو تمثل للبعد الجمالي في الحياة، الحياة في جوهرها الخيري في مواجهة الشر... إنه شكل من أشكال فك أسرار وطلاسم الوجود، بذكاء مبدع، يعرف كيف يحكي ومن أين يحكي، وما استثماره لفتنة الحكاية وغوايتها إلا عن معرفة عرفها: أن الحكاية كانت ومازالت وسيلة للتطهير أو النجاة كما عند شهرزاد، وعند الحكيم بيدبا
قصص عجيبة بلغة فاتنة تتميز بسهولتها الخادعة، وبمعانيها المضمرة، وبدلالاتها المتعددة، وبقدرتها على صوغ عوالمها من أشياء الواقع، تعيد تأسيسها وفق منطقها الخاص الذي يضاد منطق العالم، وتقول ذاتها وهي تقوله.
تبقى ملاحظة، وتتعلق بالاسم الذي يأتي بعد سوى، القاعدة تقول، يجب أن يكون مجرورا لا منصوبا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى