أمل إسماعيل - عن الحواسّ التي لا تتبدّلُ في غزة.. هاشم شلّولة يُنبتُ للشّعر حاسةً سابعة

"لا أرى سوى قصائد مرتعشةٍ
تتلوها أفواهٌ اعتلاها سأمٌ طويلٌ من الكلام
كلّ هذا هلامٌ زجاجيّ؛
تُنكرهُ الأعراس الصّامتة"

***

شاعرٌ وُلدَ وفي فمه قُنبلة..
هاشم شلّولة، ابن غزة الذي تزامن إصدار ديوانه الأخير (سيأكلُ الذئب من ينتبه) - عن دار رواشن للشعر – مع قصف الاحتلال الصهيوني لغزّة قصفًا عنيفًا استمرّ أحد عشر يوما متتاليا، ليجنح إلى صمتٍ مخيفٍ، ويتركنا نُنطِق حواسنا في محاولةٍ للبحث عن الشاعر الغائب في قصائده الحاضرة بقوة. هذا هو الإصدار الثاني للشاعر، ولكن.. هل أنضجت القنابل والحصار قريحته؟ أم علينا البحث عن شقائق النعمان النابتة بين شقوق طين هذا الشباب المتفجّر الذي يبحث عن حقيقته في حديقةٍ بلا ألغامٍ ولا أشلاء شهداء!
من بين كل قصائد هاشم، اخترتُ التوقّفَ اليوم عند قصيدته (قد تتبدّلُ الحواس)، تلك القصيدة المبنية على قلقِ الشاعر من تَبِعات سؤالٍ يجرحُه صباحَ مساء عن إنسانيّته، حواسه اليقِظةُ – والتفاصيلُ لعنة الشاعر – التي لا تسمعُ أو تتلمسّ أو ترى أو تشمّ أو تتذوق إلا الخراب، بل إنّه كابوسها اليوميّ لأنّ "مسافةً ما ذائبةٌ في مدّ أبصارنا".
هل يبدو شلّولة متشائما؟ آه! بل إنّه تجاوز تشاؤمه مبشّرًا ومنذرًا.. معيدًا ترتيبَ حادثة ولادة المسيح خارجًا بها إلى أفقٍ آخر، حيث ينكِرُ الناس الرّحمة، ويطلبون الجحيم طلبا:

"رجموا رأس النخلة،
ولم تسقطْ عليهم إلا أحجارهم،
ماتتْ أم عيسى النبيّ البتول،
تركَتْ الجاذبية على ناصيةٍ صمّاء،
يُنكرها الرُّطب الجَنيّ،
وأحلامي وموظفو المطارات"

هكذا إذن، في غزّة الشاعر، تئدُ الحربُ الأنبياءَ والرسالاتِ على حدٍّ سواء، ويواجه الشاعر إيمانه وحيدًا، فلا يجدُ من يشتري صبره - وإنْ بثمنٍ بخس:

"وقعتُ في شَرّي
على مرآكَ يا غائب
لم أجدْ أحدًا يرشّ الماء
على جبين صفاتي الملتهبِ

لعلّه يبرى
أو يعرفُ معنى الرجوع إلى الأمام".

يمكنكُ هنا على بساطة التشبيه أن تتلمسَ جمال التفاصيل في بيئة الشاعر، رشّ الماء على العتباتِ صباحا إيذانا باستفتاح يومٍ جديد، التنويعة الكلامية في (على مرآك يا غائب)، حيث يصبحُ الغياب سلعةً يُتاجر بها في بلدٍ أقصى أحلام شبابه شراءُ تذكرةِ خروجٍ بلا عودة من بائعي السّراب، والرجوعَ إلى الأمام في صيغة التخفف من كل ما هو غالٍ، بغية الظّفرِ بالنّصرِ الذي تأجل كثيرا.. كثيرا.. حتى باتَ مشكوكًا فيه، بما يحيلنا إلى مُفتتح النّص:

"أراقبُ أيّامي
كما تراقبُ عيوني
ثِقَلَ خُطواتِ المارّة

عادتْ إلى الرّيح انتفاضاتنا
نما الشّكُ كنموّ حنيني الطفل"

يراقبُ شلّولة حواسه، يراقبُ ما تغيّر فيه ومن حوله، يكتشفُ أنه إنسان.. وُلدَ إنسانا، ولا يمكن لأحدٍ أن ينتزع إنسانيته منه، لا أحد يأخذه أو يعيده.. إنه سنبلة، تبذر وتنمو وتحصد وتطحن وتعجن وتخبز وتؤكل.. ثم تعود سنبلةً من جديد! يصلُ إلى حقيقته تلك في سؤال المرأة الريفيّة التي تدرك بفطرتها أن الرياح طوّافة.. باذرةُ الخير – وإن غابت فليسَ إلا لتعودَ ثانية:
"هل أعادوكَ إلى صوتك مرّةً أخرى؟"

صيغة شكّ في سؤالها، ربّما.. لكنه شكٌّ ما يلبثُ أن ينفيه الشاعر صراحةً في السطور الأخيرة من قصيدته:
"كُلّ هذا هلامٌ زجاجيّ؛
تُنكرهُ الأعراسُ الصامتة".

هاشم شلّولة ليس شاعرًا فلسطينيًّا رومانسيًّا، ولا واقعيًّا، إنه شاعرٌ يبحثُ عن مدينته الشعرية المحرّرة، مدرّبًا حواسه الشعرية، إلى تلك الدرجة التي باتَ فيها إنكارُ شعريّته – كإنكار الحرب – مستحيلا!





Sayakol_Altheab_Man_Yanabeh_ToPrint.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى