د. كاميليا عبد الفتاح - فَايزة.. قصة قصيرة

لم يخبُ ضوءُ عينيها العسليّتين بعدَ وفاةِ زوجها الأول في حضنِها في شهر العسل ، لم يخبُ هذا الضوءُ بعد موتِ زوجها الثاني مطعونًا بالسّكين إثرَ مشاجرةٍ اشتعلت في السوق بسبب كلمات الغزل التي قيلت في عينيها من هنا ، من هناك .
ما زالت " فايزة " كما هي ، عينان عسليَّتان واسعتان ضاحكتان تبرقانِ في وجهٍ خمريٍ مستديرٍ فاتنٍ .. ما زالت بارعةً في تكحيلِ عينيها ، وتركِ خصلاتٍ من شعرها الفاحم على جبينها في إهمالٍ متعمّدٍ ، و رفعِ بقية شعرها بمنديلٍ مزركشٍ يشعُ مزيدًا من الضوءِ على عينيها الغامضتين غموض الحياة ، يتدلى من أذنيها قرطان طويلان يصدر عنهما هسيسٌ كالغواية ، يلتفُّ حول أسفلِ ساقيها خلخالان كبيران في هيئةِ أفعى رأسُها منغرزٌ في بضاضةِ الساق التي ترتجُ في كل خطوة يرنُّ فيها الخلخال رنينًا كالنِّداء .
كنتُ أدور حولها كالمريد الذي يتفقدُ قطبه ، حتى رأتني أمي متسمِّرا في الشباك أنتظر إشراقتها ، فأوقفتْ دورتي وصرخَتْ :
دي ندَّاهة .. ومقبرة تِندفِن فيها عافية الجدعان .
شددتُ ذراعي من قبضةِ أمّي ، هرولتُ إلى " فايزة " التي أطلَّت من شبَّاكها تحرّكُ اللّبان بشفتيها الحمراوين في دلالٍ مثيرٍ ، فانهالت عليها من شرفات الجيران ونوافذهم بعضُ اللعنات والكثيرُ من الأشواق في الوقت الذي انحشرتْ فيه رأسي بين قضيبي الشبّاك :
- دي ندّاهة يا بوي ، ومَهلكَة ...
- آدي حلاوة الدنيا ....
اشتعلت " فايزة " ضحكا ، قرأتْ أمي على رأسي الملتهبِ كلَّ ما تحفظ من الرُّقى ، لكنّ رجائي فيها ظل ساهرا ، أغلقت أمي الشباك ، أغلقتْ باب البيت ، رحلتْ بي إلى بيتٍ بعيد وهي تحملُ متاعنا القليل ، وحين بكيتُ لوعة من فراقها تربَّعت أمي على حصيرتها وقالت :
إياك تجري وراها يا واد ...إياك تكون زي اللي وقع في عشق حتَّة أرض خضرا مِضَوّيَّة وقعدْ يِرْمَحْ وراها وهيَّا تِرْمَحْ قُدّامُه ...هو يِرمحْ وهِي تِغمزْ له بعِينها وتِرمحْ قُدَّامُه ...يِرمحْ ..يِرمحْ .. ولمَّا شعره شَابْ وِقْفتْ الأرض تِسْتناه وتشاور له بدراعاتها ، وأخَدِتُه في حضنها وطَبَقِتْ على ضلوعه ودفَنِتُه ...إِوْعَاكْ يا وَادْ ؟!
ها هي بكل فتنتها ، كأنها قد برزتْ لمحاربتي – وليست معي أمي أو حصيرتها - تحدقُ في عيني و تتظاهر بأنها لا تراني ..تمضي أمامي تتهادى وأنا في إثْرِها حتى أدخلتني السُّوقَ .
تتأودُ أمامي ..تتسكَّعُ بين المعروضات والسّلع ..أرى جمالها في كل ما تمرُّ عليه : رائحة الفاكهة اليانعة الممتزجة بالبخور .. أنفاسِ النعناع والريحانِ والعطورِ الزيتية .. همس الأقمشة الحريرية .. كلُّ ذلك يشبهها ..كلُّه بعضُ جمالها ، كلُّ ذلك أرواحٌ تتنفس وتبعثُ في روحي انجذابًا شجيّا إليها .
تتنقّلُ من دكان لآخر ..تُنقِّلُ يديها من سلعةٍ لأخرى كأنها تستثيرُ حواسيّ وشبقي للحياة ، مشيتُ وراءها أتبعُها .. أقصّ أثرها من حفيفِ الأقمشةِ إلى النَّدى المُتطايرِ ، من عناقيد العنب الطازجة إلى البخور الحائم حول وجهي والآخذ بتلابيبي روحي ، إلى رائحة الخضروات الطازجة التي لا تزالُ تحمل حكاياتِ الأرض وأسرارَ الإنباتِ والتجذير والسُقيا ..لاتزالُ تحملُ حنانَ الأرض و حزنها عند الحصاد..
كالمسحور وأنا أنقل عيني ما بين وجنتيها و خدود عناقيد العنب و وجنات الحرير ، تنهدات البخور وشهيقه ، صخب الألوان وانبعاثات العطور في السوق الذي بدا لي أكبرَ مما ظننتُ .
انطلقت نداءاتُ الباعة صاخبةً تغوي بالشراء .. تلكأتْ حين استشعرتْ هرولتي وراءها ..أسرعتْ خطاها ، أسرعتُ خلفها ، أسرعتْ أكثر ، أسرعتُ أكثر . كانت بين لحظة وأخرى تديرُ رأسها الجميل ..تبتسمُ لي بعينيها الضاحكتين وهي تلوك لبانتها بشفتين حمراوين ..تتلوَّى بين الزحام بخَصْرٍ وددتُ لو عصرتُه كما عُصِرتْ الفاكهةُ اليانعةُ وهُصِرَتْ أثوابُ الحرير في أكفِّ المُشترين لهفةً وشغفا ، كانت الأيدي تتخطفُ كل نفيسٍ في السُّوق ..تحملُه فوق الزّنودِ ..تهرولُ به ، فَأُشْجَى من توَقِي إلى احتضانها بين ذراعيّ ، تدمعُ عيناي حنينًا وشغفا .
نَظَرتْ وراءها أكثر من مرة تطمئنُ إلى استمرار هرولتي خلفها ..ازددتُ رجاءً فيها .. أسرعتُ أغذُّ الخُطى .. أزاحم الذين كانوا يهرولون وراء الباعة الذين كانوا يركضون ببضاعتهم في كل اتجّاهٍ في سباق مع الشمس التي كانت تسرعُ لمغيبها و السُّحبُ تطاردها .
المال يتنقَّلُ بين الأيدي كأنه يتطايرُ ، السلعُ تتبخرُ ، أُسرعُ وراءها ، أقتفي موضع قدميها ..كانت الشمسُ أسرع َ الجميعِ خُطىً ، ظللتُ أهرولُ خلفَها حتى آذنَ قرصُ الشمس بالغياب .
هدأتْ حركةُ الأيدي الممتدة بالأوراق النقدية والبضائع ، أغلقتْ كثيرٌ من السيارات أبواقَها و أبوابَها ورحلتْ بما تحملُ من الجّميل المُشتهى ، خَلَت الأرففُ والصناديقُ الضخمةُ ممَّا كانت تحملُ من المتاع المثير ...تناثرت بعضُ الفاكهة العَطنَة وبعضُ مِزقِ القماشِ وبقايا الفحم المُتعبِ من اشتعاله تحت البخور ..رحلتْ وجوهٌ كثيرٍ ممن كنتُ أصطدم بهم وأنا أهرول وراء " فايزة " ...فايزة ؟ أين هي ؟ أين ذهبت ؟! الريحُ تصولُ في المكان الفسيح تعبثُ بالأكياس الفارغة ، و يمتزج صوتُها بمواء القطط ونباح بعض الكلاب التي أسرعت تتشممُ البقايا والمُخلَّفاتِ العطنة التي انبعثتْ من صناديق النفايات بجرأة بعد أن غابت روائحُ البخور ، انفضَّ السوقُ الذي استدرجتني فايزة إليه ، أدخلتتني فيه وأخرجتني منه دون أن أشتري شيئا .
هرولتُ في كل اتجاهٍ أبحثُ عنها ، وأنا أحدقُ كلَّ لحظةٍ في السُّحبِ التي تركضُ برشاقة دون أن يُثقلَ خطواتِها عشقُ " فايزة " ، ودون أن تُثقلَها أكياسُ المشتريات ، رأيتها.. ، رأيتُها تطلُّ من درفة شباكها وهي تحرّكُ اللّبان بشفتيها الحمراوين في دلالٍ مثيرٍ ..رفعتُ رأسي إليها في ضراعة وقد تهدّلَ كياني وتدلى كتفاي من الإنهاك والركضِ في السُّوق دون طائل ...كان صدري يرتفعُ وينخفضُ وأنا ألهثُ عاجزا عن الكلام ..أشرتُ إليها أنْ : لمِ ؟ وإلى متى ؟ وألا يكفي ؟! فاشتعلت ضحكًا ألهبَ رأسي ، تمايلت برأسها الجميل يمنة ويسرةً ..ترنَّحَ منديلُ شعرها المزركش بألوانه على خَّديها ؛ فلم أدرِ أهو الرفضُ أم الدلال ؟ لكني سمعتُهم ينهالون عليها ببعضِ اللّعناتِ :
- دي ندّاهة يا بوي ..آهي دي المَهلكَة ...
يحيطونها بكثيرٍ من الأشواق والشَّغفِ :
- يا حلاوة الدنيا ورضاها ..
سمعتُ ضحكتها .. هسيسَ قرطيها .. رنين خلخالها .. سمعتها تقول :
وريني شطارتك ...أنا فايزة ..فايزة يا شاطر ..
سمعتُ صوتَ أمّي قادمًا من حصيرتها القديمة وهي تقول :
يِرْمَحْ وراها وهيَّا تِرْمَحْ قُدّامُه ...يِرمحْ ..ترمح .. يِرمحْ ..ترمح ..
......




***



من المجموعة القصصية " جبال الكحل " ، إصدارات اتحاد كتاب مصر ، 2020م




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى