عبدالرحيم التدلاوي - قراءة في رواية «الملف 42» لعبد المجيد سباطة

[HEADING=2]رقعة شطرنج مليئة بالجثث[/HEADING]

مقاربة العنوان:
اختار الروائي الشاب عبد المجيد سباطة عنوانا متميزا وغير مطروق لروايته التي تتصدى لقضايا آنية رغم بعدها الزمني؛ إذ ما زالت آثارها بينة، لم تمح من الذاكرة كون المسؤولين عنها لم تتم محاسبتهم، فضلا عن أن السياق المولد لها ما زال مستمرا؛ فهل تمت محاربة الفساد؟ سيظل الملف مفتوحا إلى أن تهدأ أرواح الضحايا.
العنوان لا يقتصر على الرواية بل يمتد ليشمل مرحلة بأكملها تميزت بسحق الإنسان، وتخريب حياته المادية والمعنوية. ملف يتضمن أوراقا بقيت عالقة في سراديب الحكم، تمت سرقتها لكن الرواية تستعيدها بالخيال لتكون شاهدة ومحرضة.
سيظل عنوان الرواية حاضرا ومتجددا لتميزه وتعبيريته. إنه ملف يحمل إدانة لمرحلة لم تنقض بعد، فمازالت آثارها بادية للعيان، ويكفي زيارة شارع قدماء المحاربين بمكناس ليتبين هذا الحضور وهذه الاستمرارية؛ فهناك يوجد مكتب، رغم بساطته، إن لم أقل حقارته، يعبر عن الجريمة النكراء التي ذهب ضحيتها عدد كبير من الأبرياء وتم التعامل معهم بصلف وتحقير، ولم يتم محاسبة أصحاب الجرم.
الملف، يعبر عن محاكمة، والمحاكمة لا تكون إلا إذا كانت هناك جريمة، والجريمة قائمة، وصورة الغلاف تخبرنا بها.
الغلاف:
رغم بساطته الظاهرة إلا أن أبعاده عميقة، فقد اعتمد على علامات بصرية توحي بحدوث جريمة ما لا يفصح عنها؛ وهي جريمة تدخل ضمن الملفات السرية التي لم تفتح بعد أن تم إغلاقها بإحكام عن طريق سرقة ما تحمله من أوراق ثبوتية، تظهر ضلوع شخصيات نافذة في الجريمة، وإلا، كيف نفسر خلو الملف من الأوراق المدينة؟
ملف سري بدليل ذلك المستطيل الأحمر مشفوع برقم 42، مما يعني أن هناك ملفات حارقة تتطلب الحسم فيها لبناء غد سليم وعادل. ويقبع هذا الملف فوق آلة كاتبة تظهر أن الملف مرقون، أو أن أحدا مهتم بهذا الملف ويقوم بإعادة كتابته، وأسفل الآلة، يظهر شريط باللونين الأصفر والأسود يوحي بحصر مكان الجريمة ولا يسمح لغير المهتمين بتجاوزه.لكن، هل استجابت الرواية للمنع، أم أنها اقتحمت الشريط، وقامت بإعادة الملف إلى الواجهة؟

تعدد موضوعات الرواية:

قاربت الرواية العديد من القضايا الآنية والمرتبطة بالماضي القريب بجرأة لافتة. ومن رحم الموضوع الرئيس تناسلت قضايا عدة مغربية وخارجية، فالمرتبة بالواقع المغربي نجد زئبقية الطبقة المتوسطة وتسلطها ورغبتها المحمومة في اكتساب الوجاهة، وقضية تشغيل الخادمات والتحرش بهن، والمحسوبية والفساد وإقصاء الكفاءات، والتعامل مع الفئات المسحوقة بصلف وعنجهية، والاستغلال والمصالح الخاصة والفئوية، واستغلال النفوذ… والخارجية من مثل تصحر المبدع أو متلازمة الورقة البيضاء والبحث خارج البلد عن موضوعات قادرة على إثارة القارئ، واستغلال دور النشر للمبدعين، واستنزاف قدراتهم وطيهم في رقعة النسيان، والحديث عن النضال وشكل مواجهته العنيف، وعدم الاهتمام بالشريحة الضعيفة، والسجون القاسية الحاطة من كرامة الإنسان، وقضية الإشعاعات النووية ومخاطرها…
اتخذت الرواية شكلا متشعبا ينبني على انتقالات زمانية ومكانية وتعدد في الشخصيات ما يجعلنا نقف أمام أنماط ومستويات متعدّدة من تداخل الروايات الرئيسيّة.

تقول دانا جودت في قراءتها للرواية:

قد يكون من العسير إمساك خيط من خيوط الرواية لإعادة سردها عندما يكون بناؤها أشبه بلعبةٍ أو أحجيةٍ أدبيّة، وعليه فقد يكون من الأفضل تتبّع الأحداث التي أرادت الشخصيّات أن تعيشها لتخبرنا بما حدث فعلًا، وما يجب أن يحدث عبر فتراتٍ زمنيّة من خمسينيّات القرن الماضي إلى الزمن الحالي، تُثير من خلالها عدّة قضايا إنسانيّة وأحداث تاريخيّة سوداء، تمسّ بشكلٍ خاصّ قيمة وكرامة الإنسان المغربي «سيزيف»، أو الأسوأ حظًا من سيزيف الباحث دومًا عن المعنى في ذلك العبث الذي يعيشه في وطنه. يقرِّر كل من «رفيق» بدايةً ثم «رشيد» و»كريستين» استكمال البحث الذي بدأه المؤلِّف عند كتابة روايته، مُستعينين بالوثائق والرسائل التي احتفظ بها في كل ما يخصّ حادثة الزيوت المسمومة في 1959م في مدينة مكناس/المغرب، والتي تسبّبت بكارثة موت وشلل آلاف المغاربة، حين تم مزج مادة كيميائية سامّة بالزيوت النباتيّة المُستخدمة للطعام بدلًا من التخلّص منها. (الحياة لعبة سردية، موقع المحطة سنة2019 ).
أغلبية شخصيات الرواية، إن لم أقل كلها، معطوبة نفسيا بالأخص، أو اجتماعيا واقتصاديا بكشل أقل. والكل يبحث عن نقطة ارتكاز ليحقق توازنه المرغوب. وقد وجد بعضها عزاء في الدين، وبعضها في الكتابة، وبعضها في البحث عن موضوع مأساته لطلب الغفران، فيما بعضها عاش صدمات انتهت بالموت. هذا الموت الذي أثقل كاهل الرواية بالجثث؛ جثث ضحايا الزيوت المسمومة، وضحايا المسرح الروسي، وضحايا السجن السيبيري المشع، وضحايا حوادث السير أو القتل.
تمنح قصة رفيقي وسمير ولبنى فرصة قراءة هذه العلاقة الثلاثية وفق تحليل لمثلث الرغبة؛ فسمير ورفيقي يتصارعان للحصول على لبنى موضوع الرغبة؛ والرغبة مرض إذ كل واحد من الأطراف المشكلة لمثلث الرغبة يرغب في ما يرغب فيه الآخر. فرغبتنا لا تنبع منّا ولكن يحرّكها فينا شخص آخر يرغب في الشيء نفسه، ويشكّل وسيطاً ويعتبر نموذجاً .
ولأن لبنى تدخل ضمن ما يتمسّك بها الفرد ولا تقبل المشاركة، فقد تولِّد التنافس بين الأطراف المتصارعة مما ولد نوازع الغيرة والحسد والكراهية المفضية إلى العنف.
يحوز رفيقي علي الموضوع المتنافس عليه وحوله، مما يوجج رغبة سمير في الانتقام فيسعى إلى تدمير صديقه، ويتمكن من ذلك، بإبعاد رفيقي ويستحوذ على لبنى لكنه يشعر بأن موضوع رغبته تم نوعا ما استهلاكه فيوقظ فيه نوازعه الشريرة ليقوم بتعذيب لبنى التي كان يحبها أو كان يسعى للحصول عليها قبل غيره، ويتنكر لابنتها التي تقف سدا منيعا أمام سعادته كونها علامة على علاقة لبنى بغيره. وفي لحظة وعي قبل مغادرته الحياة يفصح بشكل غير مباشر عن مكان رفيقي مفسحا المجال لعودة لبنى إليه، وإنهاء فصول تعذيب بقيت متواصلة لسنوات.
نكاد نلمح بذرة مثلث الرغبة في علاقة زهير بلقاسم المراهق المغربي، الذي فر إلى روسيا هربا من جرم ارتكبه بالروسية التي كان يتودد إليها صديقه ورفيق غرفته الروسي، لكن الجنين سيجهض لكون موضوع الرغبة سيموت بفعل الغاز الذي أطلقته السلطات الروسية لقطع دابر المتمردين الشيشان. موتها لم يسهم في ظهور نوازع المنافسة والصراع، وهو ما يفسر مساعدة صديقه له بعد أن صار طبيبا، مخاطرا بمستقبله وأسرته لإعادة بلقاسم إلى وطنه.
لا تخجل الرواية من تقديم قراءات ذكية للسينما والمسرح والصور الفوتوغرافية والرواية والفن التشكيلي؛ وقد قدمت للقارئ بعض اسرارها وحتى قراءة في عنوانها؛ وتبين من خلال كل ذلك، إلى ضرورة تسلح المبدع بأسلحة متنوعة فنية ومعرفية بما في ذلك المعرفة العلمية، لكتابة رواية، سواء تم التأليف في أسابيع قليلة أو سنوات كثيرة. إذ المفروض من صاحب العمل أن يكون ملما بالموضوع -الموضوعات التي سيتطرق إليها مع لغة سليمة ورشيقة وخيال واسع.

الكتابة كذب شديد المفعول لقول الحقيقة

الخيال جناح من أجنحة الواقع. وكثيرا ما يبتلع الخيال الواقع ويحوله عنصرا ضمن عناصره.
عبد المجيد سباطة في الرواية هو غير عبد المجيد خارجها بالرغم من وجود علامات عدة تربط بينهما. فالأول شخصية ورقية، والثاني حقيقية؛ الأول من حبر، والثاني من لحم ودم.
تقوم الرواية وهي تنكتب بالتعري أمام قارئها غير مبالية بفضح اللعبة السردية.
ما يختفي تحت سطور الرواية هو كون الفرد لا قيمة له في الشرق كما في الغرب، في العالم المتقدم كما في العالم المتخلف، مع تباين في الدرجة. هيمنة السياسي على الإنسان، وسحقه من أجل بقائه، ذلك ما حدث مع ضحايا الزيوت المسمومة، ومع ضحايا المسرح في روسيا، وفي الولايات المتحدة. فالشرور تنبع من تلك الطبقة المتحكمة التي لا تقبل بفضحها.

الرواية بحث مستمر عن الحقيقة

الكتابة معاناة، والرأسمالية بفعل ثنائية العرض والطلب حولت الكتاب إلى مادة من مواد حركتها، متى استنفدت الغرض منهم رمت بهم بالبحث عن كائنات أخرى تلهث وراء الشهرة والثراء. المزيف.
الرواية تلتهم كل الأجناس الأدبية وغير الأدبية بشكل مستمر لبقائها إنها جنس امبريالي.
الرواية تستدعي أخواتها من روايات مبدعين ومبدعات وحتى تلك التي كتبها عبد المجيد سباطة نفسه. إنها رواية داخل الرواية، تكتب الرواية نفسها فيما تناقش وتكمل رواية تضعها صوب عينيها بحثا وتمحيصا ونقدا، بل إنها ترحل بنا إلى كاتبها في نهاية العمل لتصيره متاهة للقارئ يعيش على إيقاع ثلاثة محاور أو روايات، ويسعى إلى القبض على الخيط الناظم لها.
الرواية سجل روايات، وتسمح لنفسها بسرد مراجعها في عملية إبراز للتناص كوقود لا مهرب منه.
تقول الرواية الحاضر وهي تقول ما جرى بالأمس القريب والبعيد.
وإذا كانت الرواية قد تناولت قضايا كثيرة تمس الراهن، فإنها، وفي الوقت نفسه، قد اعتمدت، كما قال الشاعر شوقي بزيع: كل أشكال السرد الحديث والتقنيات الحديثة، من تجهيز و»كولاج»، مع التقنيات المعاصرة من قصاصات صحف، وإعلانات، وقرارات محاكم، وسرده بشكل رائع، بحبكة بوليسية مهمة جدا، وببحث دؤوب عن الواقع من أكثر من منحى من مناحي السّرد».

الكاتب : عبد الرحيم التدلاوي



1629311035023.png





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى