نزار حسين راشد - بابٌ للنجاة

في تلك المدينة القائظة، بشمسها السليطة،التي تنعدم فيها العلاقات الإجتماعية، والتي يقع اسمها على المسمع، كشهادة زور، تخالفُ واقع حالها مخالفةً صارخة، إضافة إلى فظاظة من يُطلقون على أنفسهم" هل الديرة" ليس من قبيل التفاخر فحسب، ولكن للحطّ من شأن الوافدين أو المغتربين، ووضعهم في خانةٍ دنيا.
أما والحال هذه لم يبق أمام موظف البريد إلا أن يتسلّى بفتح رسائل الناس وقراءتها، كان ذلك في سبعينات وثمانينات القرن الماضي وقبل الولوج إلى الفضاء الإلكتروني وثورة الاتصالات.
يحدثني فيقول وهو الآن متقاعد على أية حال وقد عاد من الغربة بحصيلة مريحة وابتنى بيتاً وأثثه بأثاث وثير،وخاصة المضافة التي نجلس فيها الآن متجانبين،يقول مسترجعاً ذكرياته القديمة:
لقد فَتحت لي رسائل الناس عالماً آخر،وأخرجتني من حلقة الملل الضيقة،لا تتخيّل يا أخي كيف يتبادل الناس المشاعر وكيف يبثون شكاواهم وهمومهم أو يعبّرون عن أفراحهم،للمقربين والأصدقاء،وكأنّ الكتابة والبعد المكاني والزماني توفر لهم مساحة من الحرية،لا يوفرها القرب والخطاب الشفوي،وكأنّ الغياب الجسدي يخلق نوعاً من التعاطف وأسباب الود لا يوفرها الحضور،الأغرب من ذلك أنهم يبدون تسامحاً أكثر بالرغم من الصراحة التي يعبرون بها عن عتبهم أو تذمرهم تجاه الآخر،لقد هربتُ من المدينة الحجرية المسكونة بالتماثيل على هيأة بشر إلى الحياة الحقيقية الزاخرة والحافلة بالمشاعر والأحاسيس السلبي منها والإيجابي،لا بل إنها تتضمّن طرائق وحلولاً لعلاج المشاكل فيما بينهم،وكأنّك تغوص في أحد مجلدات علم النفس،أما أطرف ما حدث معي،يسترسل صديقي في حديثه:فقد شدّ انتباهي ذات يوم رسالتان باسم نفس المُرسلِ لمرسل إليهما مختلفين،فثار فضولي على الفور وفتحتهما لأكتشف أن إحداهما موجهة من الرجل لخطيبته يقول فيها:
أرجوك يا حبيبتي ألا تلقي بالاً لما تسمعينه من والدي فهو عجوز خرف لا يعي ما يقول، وأنا نفسي لا أصغي إلى ما يقوله لي ولا ألقي له بالاًدعيه يقول ما يقول، فأنا متمسك بك وأنت حبيبتي الأبدية وستكونين زوجتي عما قريب
المخلص لك للأبد...سمير
أما لوالده فقد كتب ما يلي:
والدي الحبيب أنا رهن إشارتك وليس أمامي إلا أن أمتثل لك بالسمع والطاعة،أما خطيبتي فهي فتاة قليلة العقل وأرجو أن لا تزعل مما بدر منها.ولكن يا والدي فسخ الخطوبة ليس بالشيء الهين بعد أن تكلفت ما تكلفت، فالإنسان في الغربة يجمع القرش بشق الأنفس ويضعه فوق القرش ليكوّن حياته.
ولكني سأجعلها تُقبّل يدك لا بل قدمك وتكون كالخادمة لك حين تصبح زوجة لي على سنة الله ورسوله.
لقد أدهشني هذا الرجل بنفاقه وتحايله وعجزه عن المواجهة، فقررت أن أكشفه وألقي به في الامتحان الصعب..
يربّت على ركبتي ويستأنف حديثه: في الحقيقة يا صديقي كانت الدعابة والتسلية هي دافعي وليس إحقاق الحق أو إبطال الباطل فما كان ذلك ليهمني في شيء، ولكني أطلقت لخيالي العنان وقلت في نفسي: ما الذي سيحدث لو قرأ أبوه رسالته لخطيبته وقرأت خطيبته رسالته لوالده، فقمت بتبديل الرسالتين بين المظروفين، وشرعت في تخيّل ما سيحدث، لقد كان الخيال متعتي الكبرى ومهربي الوحيد في تلك المدينة العجيبة،ولولا ذلك ما كنت لأفعل ما فعلت!
وأنحيت عليه بدوري بالسؤال: ماذا الآن وقد أصبح كُلّ شيء مكشوفاً والناس تفضي بكل ما لديها وتتبادل حتى الشتائم المقذعة عبر الفضاء المفتوح؟!
يعيد تركيب ملامحه برصانة ويكتسي وجهه بالجدية وهو يعلن بأسىً:
- لم يعد لدى العالم شيء يخفيه، فحتى المؤامرات تحاك في العلن، وهكذا فقدت الحياة بهجتها، فللسرّية هيبتها ومتعتها، العالم الآن فضيحة يا صديقي، لقد فقد العالم هالته وغموضه، لم يعد للحياة معنى يا صديقي.
يطغى على وجهه تعبير بالكآبة وهو يراوح رأسه متأسّياً على ما آلت إليه أحوال العالم..ولكنه ينتفض فجأة ليقول بمرح: سأدفع نصف عمري أو ما تبقى منه لأعرف كيف كانت ردّة فعل كُلّ من الأب والخطيبة حين قرأوا الرسائل،والأبلى ما الذي حدث لذلك الخاطب المسكين!
يستولي علي الفضول ويلحّ علي السؤال فأقاطعه متسائلاً وقد استبدّ بي الفضول إلى منتهاه:
ولكن كيف كنت تعيد الرسائل إلى وضعها الطبيعي دون أن تثير ريبة المسؤولين؟
يتضاحك ساخراً:
لم تعيني الحيلة يا صديقي، فأنا لم أقدم على ما أقدمت عليه إلا بعد إن اكتشفت نقطة ضعفهم!
- وما هي هذه النقطة يا صديقي؟
يحدجني بنظرة يحرص على أن تبدو فيها الحكمة والذّكاء:
- إنهم مسكونون بالهاجس الأمني يا صديقي!
يشُكّون في كل شيء،حتى فيما تحت أظافرهم أو بين شعيرات حواجبهم،أحسست بذلك فاقترحت عليهم أنه ينبغي فتح جميع الرسائل،حتى لا يفلت من تحت أيدينا شيء وتقع اللائمة على المدير المسؤول!
لن تصدق كم كانوا فرحين باقتراحي هذا وأوكلوا إلي هذه المهمة: الفتح ثم إعادة اللصق والختم: فتح بمعرفة السلطات!
لقد صرح لي المدير أن هناك فائدة جانبية عظيمة لهذا الاقتراح،هو أنه يشكك كل إنسان بنفسه ويجعله يتساءل : لماذا فتحوا رسائلي،وهكذا فلن يجرؤ على تضمين الرسائل أي شيء حتى ولو توفّرت لديه النية!
ويعقّب صديقي بحسرة: لقد أخذوا باقتراحي ولكنّهم لم يكافؤوني بشيء فاللؤم يجري منهم مجرى الدم ،ولكن مكافأتي الكبرى يا صديقي كانت في هروبي من عالمهم إلى عالمي الخفي الممتع والاكثر إنسانية بما لا يقاس، وهكذا انتصرت على شعوري بالوحشة والغربة في تلك المدينة الجدباء القاحلة
نزار حسين رلشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى