أحمد عبد السلام البقالي - بطل دون أن يدري

هذه صفحة من تاريخنا الوطني المعاصر، تحكي قصة رجل بسيط أحبط مؤامرة استعمارية خبيثة كانت ستغير مجرى الأحداث في مرحلة بداية الاستقلال الدقيقة.. أحبطها دون أن يدري... لم ينتبه جليسي، وهو يروي لي هذه القصة إلى خطورتها.. فقد وردت عرضا، وكاستطراد من استطراداته الشهيرة، في سياق حديثنا في موضوع آخر ..
كنا نتحدث عن الفجوة الزمنية بيننا وبين الأجيال التي جاءت بعدنا وخلفتنا على ملاعب صبانا في مدينتنا الصغير على المحيط.
قال لي :
كثيرا ما أجد نفسي في مواقف حرجة حين يأتي أحد الشباب إلي، ويصافحني بحرارة واحترام، ويخاطبني بإسمي الأول، ويسألني عن العائلة بأسمائها.
قلت له :
أنت وجه تلفزيوني معروف، وكثيرا ما يحدث ذلك للمشاهير..
قال :
أنا لا أعني ذلك النوع من الناس.. بل أعني الذين يتحدثون إلي بلهجتي المحلية ويسألونني عن أبي وأمي فكيف حال ماما رحيمو وبابا عبد السلام حتى أكاد أرى فيهم صورة من نفسي حين كنت في سنهم، خذ على سبيل المثال، الشاب الذي وجدني واقفا أنتظر الحافلة، فأوقف سيارته، وسألني عن وجهتي، فلما عرف أني ذاهب إلى الرباط، فتح الباب، وقال لي إنه، هو الآخر، ذاهب إلى هناك، وأنه سيكون سعيدا لو أكرمته بمرافقته.
"ولما كانت زوجته وطفلاه معه حاولت الاعتذار، ولكنه أصر على ركوبي معهم، كما أصرت زوجته، ولم أملك، إلا أن ركبت شاكرا لطف الأسرة الشابة.. ومددت يدي مصافحا الزوج معتذرا :
اسمح لي.. لم أتذكر إسمك، ولا أين التقينا..
فضحك الشاب، وقال :
كيف لا تذكرني، وأنا ابن حومتك؟
"والتفت إليه لأمعن النظر في وجهه، ولكن أسفل وجهه كان مغطى بلحية معزية، فلم أستطع تخيله كطفل صغير يلعب في دروبنا.
"وكان خفيفا لطيف الظل فلم يمتحني بما يمتحنني به بعض الثقلاء الذين رأيتهم مرة واحدة في حياتي، فيقول :"حاول أن تتذكر" أو "كيف نسيتني بهذه السرعة؟" ولو كان ذلك لفتحت باب السيارة وقفزت إلى الخارج ولو كان يجري بمائة وستين في الساعة.
ولكنه بادرني بقوله :
أنا ولد ميمون الطباخ الذي كان مع الجنرال ليسمو (فرانكو) حين كان ضابطا شابا هنا ثم مع الكولونيل (كاسطيانو)..
وبمجرد ذكر (ميمون والكولونيل كاسطيانو) فتح الله علي وانفتحت لي نافذة النجاة في ظلام مجهول، والحرج، فضربت جبهتي بيدي، ومددت إليه اليد الأخرى مصافحا بحرارة الجار لجاره، هذه المرة، وقلت :
كيف أنسى، الآن تذكرتك وأنت تركب حصان القصب، وتجري خلف بنات الحومة بالفأرة الميتة.
وضحكت زوجته الشابة من الخلف وقفز الطفلان فوق الكرسي طربا لمشهد أبيهما وهو في سنهما.
وانخرطنا في أحاديث أيام الصبا وذكرياته الجميلة.. وانطوت الطريق أمامنا، فلم نشعر إلا ونحن نخترق قرية (علال التازي).. وهناك لاحظت تغيرا مفاجئا على وجه صاحبي وعلى تصرفاته، فقد كف عن الضحك والكلام، وبانت علامات الجد والقلق على ملامحه..
ولاحظت أن زوجته الشابة، هي الأخرى، كفت عن الحديث، وضمت طفلها الأصغر إليها..
واقتربنا من قنطرة نهر (سبو) على المخرج الجنوبي للقرية، فلاحظت أن صاحبي يمسك بعجلة القيادة بقوة حتى إن أصابعه ابيضت من الضغط، وارتعشت شفتاه من العصبية، وانتفض عرقه بجانب عينه اليمنى، وأخذت السيارة، رغم أنها لم تكن مسرعة، تزيغ ذات اليمين وذات الشمال داخل سياج القنطرة وكأنها أفلتت من قياده..
ولاحظت أنني اكتشفت انفعاله فقال لي ، وهو يخرج بالسيارة من نفق الجسر الحديد :
لا تقلق – هذا يحدث لي كلما اقتربت من هذه القنطرة المشؤومة يخيل لي أن حادثا سيقع لي.
فقلت متفهما :
لا ألومك.. فالقنطرة ضيقة جدا عن سيارتين – آن الأوان لتوسيعها.
وكان قد استرخى قليلا بعد أن ترك الجسر الحديد ورائه، فحرك رأسه غير موافق، وقال مصححا :
ليس بسبب ضيق القنطرة.
وسكت قليلا وأضاف :
بل لسبب سيكولوجي..
فقاطعت :
حقيقة.. هناك ناس كثيرون لا يطيقون الأماكن الضيقة والمظلمة.. أو المصاعد.. أعرف صديقا أوربيا.
وقبل أن أبدأ في الحكاية، قاطعني محركا رأسه غير موافق، مرة أخرى :
لا.. ليس ذلك هو السبب.. السبب الحقيقي لأن هذه القنطرة الملعونة اقترنت في ذهني بمحنة الوالد ووفاته..
فسألته مندهشا :
وهل توفي الوالد؟
ألم تعرف؟ أنه توفي بعد الحادث الإجرامي بقليل..
فقلت مظهرا التأثر :
الله، لا إله إلا الله – رحمه الله – رحمه الله .. ولكن أي حادث تعني؟
وثقلت ملامح وجهه وهو يسترجع تفاصيل الحادث الذي لا بد أنه ترك على خياله الشاب أو المراهق أثرا عميقا جدا، وقال:
حدث ذلك في أواخر سنة 955.. في أوائل أيام الاستقلال.. بعد عودة محمد الخامس بأيام قلائل –طرق علينا الباب رجلان من المنطقة الجنوبية بعد العشاء، ففتحت لهما الباب، ودخلت لأخبر والدي، وخرج هو إليهما، فتحدثا معه لحظة فتح لهما بعدها الباب، وأدخلهما إلى الغرفة الكبيرة، وطلب من الوالدة صنع الشاي، وجلس يتحدث إليهما.
واغتنمت فرصة انشغال الوالدة بعمل الشاي، فوقفت أسترق النظر إلى الرجلين من وراء الستار، كانا يلبسان جلبابين صوفيين، ويتكلمان بلهجة جنوبية بأصوات خافتة، وترامى على سمعي كلمات كبيرة لم أكن أفهمها في ذلك الوقت مثل "الفدائيين" و"الشهداء" و"الاستعمار" و"الاستقلال"..
وحين هيأت الوالدة الشاي قالت لي أن أنادي الوالد لإدخال الصينية، ففعلت، وخرج الوالد، وعلى وجهه علائم الجد، والحيرة، والتفكير، فأدخل الصينية، وأقفل خلفه باب الغرفة، وكأنه يخشى أن يسمع أحد مما يقال بداخلها.
ونمت قبل أن يخرج الرجلان.
وفي اليوم التالي، وفي نفس الوقت، حضر الرجلان، ومعهما آخران..
ووقفت أنا خلف الستار أنصت لحديثهم بفضول، وأنظر إلى وجوههم القاسية، وهم يتحدثون جميعا إلى والدي ويرفعون أيديهم مؤكدين أقوالهم، وكأنما يريدون إقناعه بأمر خطير.. وترامت إلى سمعي شذرات من حديثهم، وكلمات كبيرة فهمت من بينها "إسبانيا" و"الجيش" و"فرانكو" و"الجهاد"، ورأيت زعيم الأربعة يخرج من جيب صدريته قنينة ملفوفة في رقعة قماش، ويفسخ القماش عنها، ويعرضها أمام عيني والدي.
ورأيت أبي يمد يدا مرتعشة للامساك بالقنينة الصغيرة، ثم يعيد لفها في قماشها، ويضعها في جيب صدريته.
فجاءت الوالدة فأمسكت بيدي معنفة لي على سوء أدبي، وفضولي، وأخذتني إلى فراشي.
وفي الصباح رجع والدي مبكرا، كعادته، لإعداد وجبة الإفطار لدار الكولونيل (كاسطيانو)، ولكنه أخذ معه حلته الجديدة التي لا يلبسها إلا إذا كان الكولونيل سيقيم مأدبة فاخرة لعدد كبير من الضيوف المهمين سيأتون من إسبانيا، أو تطوان، أو سبتة، أو مليلية.. وهم غالبا ما يكونون من رتب أعلى من رتبته.
وتأخر الوالد في تلك الليلة على عادته حين يقيم الكولونيل حفلا كبيرا، وانتظرناه نحن إلى منتصف الليل، والنعاس يثقل أجفاننا ونحن نمني أنفسنا بما سيحمله إلينا من دار الكولونيل من حلاوي إسبانية لذيذة.
وحين سمعنا طرقا على الباب، قفزنا جميعا فرحين لفتحه.. ولكنه بمجرد ما فتحته دفعة في وجهي أحد الرجال الأربعة الذين جاؤوا لزيارة الوالد في الليلتين السابقتين، وتبعه آخر أقفل الباب خلفه، وتوجه إلى أمي سائلا بخشونة:
أين زوجك؟
فتراجعت إلى الوراء خائفة وقالت :
لم يعد من دار الكولونيل بعد..
فنبح الرجل في وجهها بصوت غاضب مكبوت حتى لا يسمع من الخارج، وقال :
بل إنه هنا.. أين يختفي؟
وأشار برأسه إلى صاحبه ليدخل الغرف لتفتيشها، وبقي هو يحاصر الوالدة، وينظر إلينا بعينين يطير منهما شرر أسود.
وخرج صاحبه يحرك رأسه :
فاقترب الآخر من الوالدة أكثر، وأمسك برسغها ولوه وراء ظهرها فصرخت من الألم.
أين هو؟
فأجابته باكية :
لا ندري، إنه لم يعد بعد..
إنه هنا.. قولي أين يختفي؟ لقد رأيناه خارجا من دار الكولونيل وتبعناه حتى دخل الزقاق..
وهنا جاء الرجل الثاني فجثا أمامي وأمسك ذراعي، وسألني بلطف :
إذا قلت لي أين يختبئ أبوك أعطيتك ريالين.. ماذا تقول؟
فقلت :
إنه لم يأت بعد – وقد كنا ننتظره ليوزع علينا الحلوى..
فصفعني في وجهي صفعة قوية أوقعتني على الأرض، وصرخت أمي فأمسك الرجل بها من الخلف، وأقفل فمها بيده..
وأمسك الرجل الآخر بأختي الصغيرة، وأخرج من جيبه سكينا وضعها على عنقها، ونظر إلى أمي مهددا بذبحها إذا لم تبح هي بمخبإ أبي..
ورأيت الوالدة المسكينة، وقد جحظت عيناها من الرعب، تحاول البحث في ذهنها المرهق عن طريق لإنقاذنا من أيدي القتلة :
وأسعفها خيالها فهمهمت :
إنه صعد إلى السطح، وألقى الرجل الثاني بالطفلة المرتاعة أرضا، ورفع السلم، وتسلق بسرعة القرد على السطح.. وهناك وقف يحلق في الظلام في عشرات السطوح المختلفة الأحجام والارتفاعات والمحيطة بمنزلنا، وقد تراكمت فوقها الأمتعة البالية، وارتفعت من داخل بعض المنازل أدواح التين، وعرائش الدوالي..
وفي هذه اللحظة سمعنا طرقا على الباب، فترك الرجلة الأول أمي، وذهب لفتحه، وقد أخرج من جيب سترته مسدسا.. وخشينا على الوالد أن يقع في الفخ.. ولكن الطارق كان واحدا من العصابة، فهمس لصاحبه شيئا، فعاد هذا، وتسلق السلم، ونادى صاحبه فنزل، وخرجا..
ولم يعد الوالد في تلك الليلة، ولا في اليوم الثاني إلى الدار.. وذهبت الوالدة للسؤال عنه في منزل الكولونيل (كاسطيانو).. وكان هو الآخر قد بعت في طلبه، ولما علم بعدم عودته إلى داره، أقام الدنيا وأقعدها بحثا عنه في كل مكان. وجاء بنفسه إلى منزلنا، وقابل الوالدة وألقى عليها عددا من الأسئلة، فعرف أن جماعة جاءت لزيارته في اليومين السابقين لحفلته الكبيرة، جماعة من الغرباء عن المدينة. وحين سألها :
هل قال لك شيئا عنهم؟
قالت لا - رفض تمام الحديث عنهم.. ولكنه أصيب بقلق شديد بعد زيارتهم، لدرجه أنه لم ينم تلك الليلة إلا لماما، وكان يستيقظ من نومه منزعجا يصيح "لا، لا" والعرق يتصبب عليه.
وطمأن الكولونيل الوالدة، وأخرج محفظته، ووضع في حجرها مبلغا كبيرا من الأوراق المالية، وأعطانا نحن الصغار ريالين للواحد، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لطفل صغير مثلي..
ولم نعرف ما وقع لوالد حتى قيل لنا إنه يوجد بأحد مستشفيات (العرائش) وجاءت سيارة جيش أرسلها الكولونيل إلينا لتحملنا إلى العرائش لنراه، وذهب معنا خالنا.
وحين دخلنا عليه في غرفته بالمستشفى العسكري الإسباني، وجدناه ملفوفا كله في الضمادات لا تبدو منه إلا يمناه، وشفته. وكان ذراعه موصولا على زجاجة دم معلق على جانب السرير بأنبوب من البلاستيك الشفاف، يسري منها السائل الحيوي إلى عروقه..
وبكت أمي لنظره.. وبكينا نحن لبكائها.. ووقفت الممرضة الإسبانية، في حلتها البيضاء، تهون عليها وتنصحها بعدم إثارة مشاعره، وتركه يستريح، وقالت لنا إنه فقد في محنته، كثيرا من الدم، وهو في حاجة إلى عناية خاصة.
ومنعته من الكلام، فكان ينظر إلينا في صمت وحسرة، وقد اغرورقت عنياه بالدموع..
ومر أسبوع كنا نزوره فيه يوم مرتين ونحمل إليه الفواكه، وأمي تسليه بأحاديثها، حتى أذنت له الممرضة في الجلوس، وأزالت عن وجهه الضمادات فبدا مخيفا بما كسا وجهه من كدمات، ورضوض، وجروح مخيطة لم تندمل بعد..
وسأله خالي عما حدث فحكى له عن الرجال الأربعة الذين زاروه في البيت (بأصيلة)، وكيف أنهم أفهموه أنهم جاؤوا من (الدار البيضاء) في مهمة سياسة ووطنية سرية خطيرة، وأن الذين أرسلوه هم فلان وفلان، من كبار الزعماء وقادة الخلايا الفدائية السرية، وأن نجاح المهمة يعتمد عليه، وعلى إيمانه وغيرته الوطنية كل الاعتماد..
وأنهم أخبروه بأن (فرنسا) قررت الانسحاب من (المغرب) ومنحه الاستقلال.. ولكن (إسبانيا) تدبر احتلاله بمجرد انسحاب الجيش الفرنسي، وأن المجاهدين قرروا إعلان الحرب على (إسبانيا) لإرغامها، هي الأخرى، على الخروج من الشمال.. وأن مهمته هو هي أن يضع لضباط الجيش الإسباني الذين حضروا مأدبة الكولونيل (كاسطيانو)، السم في طعامهم، ووعدوني بمنصب كبير في الحكومة الوطنية.
قال الوالد :
"واقتنعت بالفكرة، فد كنت دائما أتحسر على عدم مشاركتي في معركة التحرير وأنا جندي، وقادر على القتال.. وكان يعزيني أن (إسبانيا) تقف في صفنا، وتؤوي الفدائيين في الشمال، وتغمض العين عن تهريب السلاح إلى الجنوب..".
"ولكن الجماعة أوغرت صدري عليهم حين فسرت لي ذلك بأنها مجرد عملية انتقام من (فرنسا) التي رفضت إعطاء (إسبانيا) نصيبا أكبر من المغرب، كما كان الاتفاق بينهما أيام الاحتلال.. وأن اللقاء الذي تم في (العوامرة) بين المقيمين العامين الفرنسي والإسبان، وأن هذه طابت في مقابل ذلك تنازل (فرنسا) لها عن جزء أكبر من الشمال يصل إلى القنيطرة و(فاس) و(تازة) و(وجدة)، ولكن (فرنسا) رفضت، فاستمرت (إسبانيا) في مساعدة المغاربة إلى أن تخرج (فرنسا) لتنقلب عليهم وتحتل بقية التراب المغربي.
"وعقدت العزم على صب زجاجة السم كلها في جميع الأطعمة التي طبختها للمأدبة، ولكنني حين حضرت الساعة الرهيبة لم أستطع.. تذكرت العشرة الطويلة التي جمعتني بالكولونيل (كاسطيانو) وجميع أفراد عائلته، وخصوصا أطفاله الذين ولدوا وتربوا أمامي كأولادي.. تذكرت شركة الطعام، وعشرة الأيام، فأخزيت نفسي، ورميت بالزجاجة القاتلة بعيدا.. أحسست أن مثل ذلك العمل الجبان غدر للعشرة، وخيانة للطعام وحاشا للمسلم المؤمن أن يفعل ذلك".
" ومرت يومان على المأدبة، وفي ليلة اليوم الثاني، وأنا عائد إلى منزلي بعد صلاة العشاء، نزلت على رأسي ضربة قوية لم أفق منها إلا وأنا بعيد عن (أصيلة).. فتحت عيني فوجدت نفسي مكبلا بحبل في كوخ صغير..
"ودخل علي الزبانية الأربعة..".
وسكت.. وأغمض عينيه، وقطب جبينه كمن يسري في جسده ألم حاد.. ثم فتح عينيه، ونظر إلينا، ثم إلى خالنا ففهم هذا قصده، وطلب منا مغادرة الغرفة، والخروج للعب في حديقة المستشفى..
ولكني، رغم صغر سني، أدركت سبب إخراجنا من الغرفة.. وعلمت فيما بعد أن الرجال الأربعة تناوبوا على تعذيب الوالد، وإهانته، ودعوته بالخائن لوطنه، والبصق في وجهه، ولكمه وركله، وكيه بالحديد، الملتهب، وتمزيق لحمه بالسكاكين، ووضع الملح في جروحه، مدة خمسة أيام بدون طعام ولا ماء حتى استسلم وأغمي عليه، ودخل في غيبوبة، فظنوا أنه مات، وأخذوه في سيارة ليلا إلى جسر نهر (سبو) جنوب قرية (علال التازي)، وحاولا الإلقاء به إلى النهر.. ولكن سيارة فاجأتهم فألقوا به على جوانب الطريق ولاذوا بالفرار..
وتوقفت السيارة وأخذوه على نقطة الشرطة بالقرية، وأخبروهم بما رأوا، فانطلقت سيارة في إثرهم، وكادت تدركهم في مدخل مدينة (القنيطرة) لولا أن سيارتهم اصطدمت بشاحنة فرنسية ضخمة خرجت لها من جانب الطريق دون ضوء وقتل جميع من كان في السيارة الهاربة.
ولم يجد رجال الدرك الذين كان ما يزال أغلبهم من الفرنسيين بطاقات التعريف على أي واحد من الأربعة، فأخذوهم إلى مستودع (الأموات) بالقنيطرة في انتظار أن يفتقدهم أحد..
وهكذا طوي ملف هذه القضية وعاقب الله المجرمين الأربعة وأيديهم ما تزال مخضبة بدم ضحيتهم، وصراخ آلامه واستغاثته ما زال يرن في آذانهم.
قال جليسي :
" وسكت ميمون، ونحن على أبواب (القنيطرة)، ونظرت إلى وجهه وقد ارتسمت عليه آثار الإرهاق، وكأنه كان يحمل عبئا ثقيلا، وهكذا عرفت، بالصدفة، قصة من أغرب ما سمعت..
وسكت جليسي، وأنا ما أزال أنتظر أن يخرج من الحدث الذي رواه باستنتاج ما.. ولكنه عاد إلى موضعنا الأول قبل استطراده الواسع، ليتحدث عن الفجوة بين الأجيال، فاستوقفته سائلا:
"ألم تستنتج شيئا من هذه الواقعة؟ وأنت الصحافي، والتلفزيوني، والإذاعي؟"
وكأنما فوجئ بسؤالي فنظر إلي مستفهما، فقلت :
"ألم تدرك أن العلمية، أعني محاولة تسميم الضباط الإسبان لها أبعاد سياسية خطيرة؟".
"كيف؟"
فقلت :"لنفرض أن ميمون الطباخ سمم الضباط، ماذا كان سيكون رد فعل (إسبانيا)؟".
ولمعت الشعلة في عيني جليسي، وبدأ يرى بعين خياله خيوط المؤامرة، فأسرع في القول :
"لابد أنها كانت ستغضب غضبا شديدا، وكان الرأي العام الإسباني سيطالب بدم القتلة، فكانت ستقلب سياسيتها في الشمال، وتنظم إلى (فرنسا) وتسحق جميع الفدائيين الذين كانوا يملأون مدن الشمال..".
وتوقف ثم سأل :
" ولكن .. إذا كانت (فرنسا) ببرلمانها، وحكومتها قد صادقت على منح (المغرب) الاستقلال، فلماذا تحاول التراجع بهذه الطريقة الملتوية المشبوهة؟".
قلت:
"لا اعتقد أن (فرنسا) الرسمية فعلت ذلك..".
"إذن؟" وأبرقت في ذهني الفكرة :"فمن كانت له مصلحة في ذلك؟".
وأجاب عن سؤاله :":الجيش الفرنسي إذن، والوجود الفرنسي".
فضرب جبهته بيده :
"كيف لم يخطر هذا بالي؟".
قلت :"إذا كان ملف القضية قد طوي في حينه، فلا أعتقد أن أحدا عرف بهذا الحادث.. فنحن إذن، أمام فذلكة مجهولة من تاريخ (المغرب) الذي لم يحدث، فماذا، يا ترى، لو كانت نجحت المؤامرة؟".
فقال :"لا بد أن دما كثيرا كان سيهرق قبل أن نتمكن من إيقافه، وأن تاريخ (المغرب) الحديث كان سيتغير تغيرا كبيرا.. وربما كان سيتأخر استقلاله سنوات أخرى..
وقد حقن ذلك الدم بفضل وفاء ذلك الطباخ البسيط لمبادئه الإنسانية المتأصلة في نفسه... ومات المسكين، وهو يتعقد أنه خان قضية بلاده..".
وسكن لحظة ثم أضاف :
" وحتى ابنه يتذكر الحادث بمرارة، وكأنه، هو الآخر، يعتقد أن أباه رفض التعاون مع الوطنين، وتعاون مع المستعمر..".
قلت: "عليك إذن، أن تبحث عنه لتحل عقدته، وتبشره بأن أباه مات بطلا وهو لا يدري".

ـــــــــــــ

دعوة الحق العدد 234

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى