مصطفى نصر - حفل زفاف في وهج الشمس

انحدرت من المرتفع الذي تعلوه الشجرة الكبيرة، أحست بارتعاش، لا تدرى لماذا؛ فلقد جاءت لمقابلته – في هذا المكان – كثيرا؛ ربما مئات المرات. كانت تسعد كلما اقتربت من هذه الشجرة؛ وتتلهف للقائه.
أنغرس حذاؤها العالي في الأرض الطينية الرخوة؛ كادت تقع ( حذاؤها هذا أهدته إليها سيدتها منذ شهر تقريبا؛ مع مجموعة من الملابس الأخرى). خرج محروس من كوخ البستانيين؛ يحمل دلوا في يده؛ ويشمر بنطلونه لأعلى. ازداد خوفها، توارت خلف الشجرة، رأته أول مرة حينما كانت تجلس مع حبيبها مرسى فوق مقعدهما المفضل، ضحكت – يومها – من منظره، قالت لمرسى وهى مازالت تضحك:
- وجهه شديد القبح.
أقترب محروس منها، كان يبتسم، الابتسامة كشفت عن اتساع فمه؛ وأسنانه الكبيرة؛ ولثته الحمراء. شعره مجعد، ولحيته متناثرة بطريقة تثير التقزز.
كلما رآها يبتسم، وهى تضحك، لكن هذه المرة تخافه. لمحها محروس أسرع إليها، ارتعشتْ، سمعت صوت ضحكاته، التصقت بجذع الشجرة الكبير، احتمت به. ضحك ثانية، عيناه صغيرتان غائرتان، وجبهته صغيرة يخفيها الشعر الكث المطل من أعلى. قال:
- تريدين مرسى؟
أومأت برأسها بخجل وخوف، ( في المرات السابقة كانت تحدثه ضاحكة وساخرة) ضحك ثم أسرع للبحث عن مرسى.
جاءت إلى هنا – أول مرة - مع سيدتها وطفلتيها – نيفين وداليا - كانت سيدتها ذاهبة لزيارة صديقة لها تسكن عمارة قريبة من الحديقة الكبيرة، قالت لها:
- اجلسي فوق أحد المقاعد مع البنتين حتى أعود، اهتمي بهما، ولا تتحركي من مكانك.
أجلست البنت الصغيرة – نيفين – بجوارها على المقعد، وداليا أخذت تجرى على النجيل فرحة، وهى تصيح:
- داليا، لا تبتعدي.
وابتعدت داليا، اضطرت أن تحمل نيفين وتجرى خلفها، وداليا تضحك وهى تجرى. أمسكها مرسى من يدها وجاء بها إليها. مرسى طويل، وجهه حسن، بشرته سمراء، وشعره ينسدل فوق جبهته. كان يرتدى ملابس أنيقة، قالت: شكرا .
سيدتها امرأة شرسة، تصر على أن تضع فوق رأسها " إيشاربا " قديما حتى يحس الناس بأنها مجرد خادمة.
تكره – هي – هذا الإيشارب، ولكن الاتفاق، منذ أن عملت لديهم – ألا تخلعه مادامت برفقة أحد أفراد الأسرة؛ حتى لو كانت مع الطفلتين الصغيرتين.
لم تبد إعجابا بمرسى حينذاك، شدت البنت داليا باليد الأخرى وسارت نحو المقعد. لكنه لم يبتعد عنها، كان يتابعها بإعجاب وهى تسير. تعرف – هي – نظرات الإعجاب تلك، رأتها في أعين الكثيرين من شباب حيهم، ورأتها في عيني سيدها كلما مرت من أمامه. تهديها سيدتها – رغم شراستها – ملابسها القديمة. لولا الإيشارب القديم هذا، ما اعتقد أحد إنها خادمة.
اقترب مرسى منها بجرأة أعجبتها، تحدث معها عن البنتين. لم يشر إلى عملها كخادمة (عرفت – بعد ذلك – إنه كان يعلم ) سعدت لحديثه، حدثته عن البنتين، ادعت بأنهما ابنتىّ أختها، وأحست – وقتها – إنه يعمل موظفا بالبلدية - فللبلدية مكاتب كثيرة في الحديقة – أو ملاحظا على البستانيين، لكنها لم تسأله عن عمله، وهو لم يحك لها عنه.
هبط محروس من فوق الجبل المكسو بالنجيل والورود والشجيرات؛ والذي لا يسمح لصعوده إلا للعاملين في الحديقة. سألت مرسى عن هذا الجبل مرة. فقال لها إنه جزء من سور الإسكندرية القديم، وتحته حجرة عمليات مهمة، وإقامة الحديقة فوقه للتمويه. لا تعرف – للآن – نوع هذه العمليات التي تجرى في الحجرة.
ضحك محروس لها قال: قلت لمرسى، وسيأتي.
ابتسم مرسى لها من فوق الجبل الأخضر. اضطربت ( في المرات السابقة كانت تسعد عندما تراه آتيا ) وضعت يدها الصغيرة بين أصابعه، ضحك محروس من بعيد، سمعت صوته المرتفع وهو يضحك. جلسا فوق مقعدهما المفضل، قال:
- ماذا فعلتِ؟
تلعثمت، لم تجبه، وضع يده فوق يدها:
- هل نويتِ؟
- إننى خائفة.
تأتى إليه كلما تشاجرت مع سيدتها. تصر على أن تخرج من البيت لزيارة أبيها. وتخرج، لا تذهب إلى أبيها، تأتى إلى هنا، تحكى له عما يوجعها، كلماته تريحها، تعود ثانية إلى بيت سيدتها؛ وكأن شيئا لم يكن.
أبوها مازال يجلس فوق الظلطة الكبيرة – في حيهم - يفرد قماشته المهترئة فوقها، يدق الأحذية، يرتقها، يخرج مسمارا، مسمارا، من فمه.
بعد أن ماتت أمها تزوج، جاء بزوجة صغيرة، نحيفة ليس لها صدر ولا ردفين. أخواها – عادل وصبرى – ينامان لدى معلمهما، الأول يعمل صبى حلاق، والآخر لدى ترزى .يشترط أبوها، أن يأويهما أصحاب العمل، فهو ليس لديه مكان لهما ولا لها. الزوجة الجديدة شغلته.
لم يعرض مرسى عليها الزواج كما كانت تتوقع، لا، عرض عليها عرضا غريبا، أن تعمل في الحديقة وتتزوج من يدفع، صعقت في أول مرة يحدثها في هذا، بكت، أقسمت ألا تأتى إليه ثانية، لكنها جاءته ثانية واشترطت عليه بألا يحدثها في هذا الموضوع أبدا. لكنه عاد إليه بعد عدة لقاءات، قال: ستكسبين كثيرا، ستأكلين لحما كما تشائين.
وقال لها أيضا:
- ستكون لك شقة خاصة بك، وتسريحة، وأدوات تواليت تتزينين بها، وربما خادمة أيضا، ولن تخسرى شيئا.
لم يعد الحديث يضايقها كما كان في أول مرة، كانت خائفة ومترددة فقط.
قام، قال: سأجعلهم يعدون كل شيء.
أمسكت يده، شد يده منها وأسرع إلى الجبل. أحست بأنها وحدها، تمنت رؤية أي إنسان ليؤنسها؛ حتى لو كان محروس القبيح.
هبط مرسى ومعه رجلا أكبر منه سنا، نظر إليها وابتسم:
- أهلا بك، لقد حدثني مرسى عنك.
لم تجبه، قال الرجل: هيا بنا.
أمسكت يد مرسى، صعدوا الجبل . الجبل ليس فيه مقاعد، بعض النسوة يجلسن متجاورات. نظرت واحدة باهتمام إليها؛ كانت تضع ملاءة سوداء فوق كتفها، وبعض الرجال يقفون في ركن بعيد، يتهامسون ويبتسمون.
لم تستطع النطق منذ أن جاء الرجل الكبير، لا شيء سوى لمسات أصابعها فوق يد مرسى:
- هذه الحفلة لازمة لإعدادك للمهنة.
أبوها يسكن في كوخ فوق سطح بيت في الحي، الكوخ ضيق لا يتسع إلا للسرير والصوان، ومساحة ضيقة يأكلون فيها. عندما تزوج أبوها؛ فرش لهم قطعة قماش، يشدها في الصباح فوقه لتقيه الشمس وهو يدق الأحذية المتهرئة. لكن عندما جاء الشتاء؛ لم يستطع أن يدعهم ينامون في البرد، سمح لهم بأن يناموا بجوار السرير. قال له أحد سكان البيت:
- كيف يا رجل تأتى امرأتك وهؤلاء الأولاد في الكوخ؟!
وبكت امرأته – وقتذاك – قال: يا ناس أولادي، أرميهم؟!
00
قال الرجل الكبير: نامي.
نظرت إلى مرسى مستغيثة. أخرجت امرأة علبة سجائرها من صدرها، قدمت للأخريات سجائر وأشعلتها لهن.
نامت فوق فراش ممدود، ضوء الشمس داعب عينيها في عنف، أدمعهما. الرجل الكبير أمسك بزجاجة حمراء وأعطاها لمرسى:
- أشرب، فأنت عريسنا اليوم.
قالت امرأة لزميلاتها:
- البنت جميلة، الولد مرسى عفريت.
شرب مرسى من الزجاجة، وأعطاها لمعلمه، وضع المعلم يده فوق ظهره مشجعا. عندما هم مرسى بالاقتراب منها؛ دخل محروس وبستاني آخر أكبر منه، قال الأكبر:
- ما الذي يحدث هنا؟
قال المعلم متوددا:
- مرسى عريسنا اليوم.
- لماذا؟!
- لأنه جاء بالفتاة.
- ولماذا لا يكون محروسا؟!
البستانيون يسمحون لهم باستخدام الحديقة كلها، وخاصة الجبل الذي لا يصعده أحد إلا بموافقتهم، لو غضبوا عليهم، لن يجدوا مكانا يعملون فيه.
نظر المعلم إلى مرسى حزينا، ثم قال:
- وماله ؟ أنتم الخير والبركة ( يقصد البستانيون كلهم )
ازدادت حدة الشمس، بكت فوق فراشها، تراجع مرسى، صار في مكان المعلم والبستانيين. والنسوة كشرن، والرجال الآخرون تهامسوا ولكن دون ابتسام .
أرادت – هي – أن تقوم، لكن الوجوه الكثيرة لا تعرف من بينهم سوى مرسى ومحروس، ليتها لم تعرف محروسا هذا.
ابتسم محروس في حياء، تردد، صاح به البستاني الآخر:
- تقدم يا ولد، لا تستح.
أعطاه المعلم الزجاجة الحمراء التي شرب منها مرسى من قبل. ابتسم له، مصمصت امرأة شفتيها، لكن في صوت خافت. نام محروس فوقها، ابتعدت بجسدها، صارت رأسها بعيدة عن الفراش. أبوها تجعد وجهه، ومازال ينغز الجلد المهترئ بمسلته ذات اليد الخشبية التي يدفع بها السن داخل الجلد، ثم يحيك الأحذية بإبرته . يشد الخيط بأسنانه. رغم العمر الطويل مازالت الأسنان قوية. يضع الجلد في ماء آسن - يتحول لونه للأحمر حتى يلين الجلد ولا يقاوم مسلته وإبرته.
حجب محروس عنها ضوء الشمس بجسده الكبير، لكنها مازالت تبكى. فمه الواسع وأسنانه الكبيرة - اللذان يثيران تقززها من بعيد - يلتصقان الآن بوجهها. دفعته عنها بيديها، صاحت.
أخذها أبوها من يدها وسلمها إلى سيدتها، كانت صغيرة وقتذاك، شعرها معقود بإيشارب زوجة أبيها، قالت المرأة وهى تمط شفتيها: - لا بأس.
تركها أبوها وعاد بعد أن اطمأن أن الولدين – أيضا – لن يناما في الكوخ. أرسلتها سيدتها – مع البواب – إلى حلاق بعيد؛ ليزيل شعرها كله. بكت يومها.
أطفال العمارة كانوا يسخرون منها، كانت تبكى من سخريتهم، تتوارى بعيدا عنهم.عندما شكت لسيدتها، ضحكت ولم تفعل شيئا . لكنها كبرت وكبر شعرها وصارت تعتني به.
ضحك محروس ضحكته البلهاء : هئ، هئ.
أرادت أن تسعل، وأن ترميه بساقيها، لكن قواها خارت، فمه يخنقها. رأتها سيدتها تقف أمام المرآة، تضع مساحيقها فوق وجهها، شعرها الذي أزالته في صغرها لقذارته، صار الآن أصفر ناعما.
هى أجمل من سيدتها بكثير، كل خادمات العمارة يقلن هذا، ويقلن – أيضا – إن سيداتهن يشاركهن الرأي، هذا جعل سيدتها تسيء معاملتها، أو لعلها اكتشفت نظرة الإعجاب في عيني زوجها.
زوجة أبيها – إذا ما زارتها – لا تعد لها طعاما، تتركها وحدها في الكوخ، تقول لها: سأذهب لأبيك.
تتناول الزوجة والأب الطعام فوق الرصيف، بجوار خيمته التي يدق فيها الأحذية القديمة، وتظل هي في الكوخ بلا طعام، عندما يحين موعد عودتها إلى سيدتها، تمر عليهما تقول: إني ذاهبة الآن.
يبتسمان لها ملوحين من بعيد. وتعود.
غنت النسوة ضاحكات من منظر محروس، ما يحدث جعلهن يتذكرن يوم عرسهن.
حلوة يا بلحة يا مقمعة شرفتى خواتك الأربعة.
تشكو زوجة أبيها لها من سوء الحال. الرجل يجلس فوق ظلطته طوال اليوم دون شيء. يلبس الناس الآن أحذية مصنوعة من " البوليتان "، إذا تمزقت لا ينفع معها مغمازه ولا إبرته ولا مساميره.
ضحك البستانى الآخر من زميله، سبه ساخرا، قالت امرأة كلمة بذيئة، ضحك لها كل الحاضرين حتى مرسى. لكن محروسا وهى لم يضحكا.
هلل الرجل الأسود، وقف محروس منتشيا، التفوا حوله، قبلوه مهنئين، حتى مرسى قبله، والنسوة قمن إليه، ابتسمن له، زغردت إحداهن، ثم أخذتها النسوة إلى كوخ خشبي ليضمدن جرحها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى