عصري فياض - جرعة فرح.. قصة قصيرة

يجلس على درج بيته المتواضع الكائن في ذلك الحيّ الشعبيّ المتراص والمتهالك،كامشا إزاره،واضعا رأسه بين كفيه، وكأنه شطيرة شواء قد رفعت لتوها من فوق لهيب الفحم المتورّد،يخلخل اصابعة المضطربة في ثنايا شعره ألمتجعد، تقابله حركات لكلتا قديمه تنازع حفايته البلاستيكية يمينا ويسارا،صحى قليلا من حالته، إستل سيجارة من جيب قميصه المترهل، وأشعل مقدمتها وهو يسحب دخانها إلى جوف جوفه،ثم نفخ ما بين جنبيه نحو السماء،وعلى أمتداد انفه المصفر،فمن أمامه أفق مسدود، ومن خلفه بيت يزدحم بالصغار،هم عبارة عن أفواه لا يغلقها الا الطعام والشراب وتلبية الحاجات التي لا تنتهي، وهو لا يملك في جيبه الا بعضا من نقود،لا تغطي شمس اليوم التالي...
هذا هو حال حسن، والمكنى" أبو عليّ "، والذي يعتبر من أبرز الذين يلازمهم الفقر والفاقة وسوء الحظ في الدنيا،يقول في نفسه:- لماذا أصغيت لإلحاح أهلي وقبلت بالزواج حتى يأتي لي هؤلاء الاطفال الذين جاؤوا للدنيا ليذوقوا عذاب الحرمان كما تجرعته في طفولتي وصبايّ؟؟ ترى ما هو مستقبلهم وقد أصبحت الدنيا أكثر قسوة وتنذر بالمزيد ؟؟
يعود فيشد على سيجارته ساحبا جوفها للخلف،ثم ينفث دخانها ويتمتم مستغفرا وهويتذكر ما كانت تقول له امه عندما كان يرد على إلحاحها لترغيبه بالزواج ويقول لها آخاف على أبنائي في المستبقل أن يعيشوا مثلي..فتقول له أمه :
" وحد الله يما... الاطفال بتيجي رزقتهم معه."...
فجأة لعل الرصاص في الحيّ القريب، دقائق تراكض بعض الشبان،بعضم ملثم وهم يحملون السلاح،لحظات ساد نوع من البلبة في الحيّ،سأل أحد الصغار المارين من امامه : ماذا جرى ؟؟
فأجابه الصبيّ: يقولون أن زياد ابن الحج عارف قد اغتالته الان وحدات خاصة....
وقف حسن مذهولا من وقع الخبر، فهو يعرف زياد كما يعرفه كل أهالي الحي والإحياء ألمجاورة كما أنه يعرف والده وتربطه به قرابة من جهة الام، وبدأ بكت سروله من الخلف ودخل البيت وهو يضيف ما جرى الان لما كان يفكر فيه... إندفع نحوه إبنه الصغير،فحمله وأعتصره بين يديه وهو يشمه،فسالت دمعت من عينية، وهو يتخيل يوما ما قد يسمع نبأ استشهاده كما إستشهد زياد الان... خرجت زوجته من المطبخ و رغوة صابون التنظيف على يديها فسألته:
ماذا جرى؟؟؟
فقال : زياد العارف استشهد
فشهقت ورفعت يدها وضربت فمها وعيناها تكادان تخرجان من مكامنهما،بينما دخل هو للغرفة الثانية،وبدل ملابسه وخرج إلى بيت الحج عارف ليتأكد من الخبر ويقدم المواساة والتعزية.
*
هذا هو اليوم الثالث لتقبل التعزية او التهنئة بالشهيد، في هذه القاعة الواسعة التابعة لنادي الشباب في الحيّ، جلس يتبادل أطراف الحديث مع من يجلسون جنبه، وهو لا ينفك كعادته يزواج بين السيجارة وفنجان السادة بين فمه وانفه، ويتوقف عن الحديث عندما يدخل وفد لتنظيم او جهة او عائلة فيقدم العزاء أو التهنئة ويقف أبرزهم ليلقي كلمة تأبين أو نعيّ، يتخلل ذلك عبور لصف طويل من حملة السلاح المقنعين، يصافحون والد زياد واقرباءه، ثم يصطفون بشموخ ويعتلي احدهم المنصة التي تقع خلف المستقبلين ويلقي كلمة مجبولة بالعبارات النارية ،فينهي، وينسحبون ....
تذكر حسن بعد أن رأى ابن عمه محمد يدخل يقدم واجب العزاء أن عرس ابنه أنس سيكون بعد غد.... تسائل : ترى هل سيلغيه أم سيبقيه؟؟ دقق مليا في إبن عمه، ولفته أن محمد قد أوقف تدفق سيل المعزين خلفه وهو يتحدث مع والد الشهيد... عندها أيقن أنه يحدثه عن فرح ابنه وأنه سيلغي الحفل أو سيختصره على واجب الوليمة للمدعوين... هكذا جرت العادة ، فليس أجل وأكبر وأسمى من ظل الشهادة... أنهى أبو أنس حديثه مع ابا زياد وتقدم يبحث عن مكانه يجلس فيه،فناداه إبن عمه حسن : أبو انس ..أقبل...
جلس الى جانبه....قال ابو أنس...لم يكن بمقدرونا الغاء العرس تماما.. ولكننا قرننا الغاء مظاهر الاحتفال وإقتصار العرس على وجبة العشاء...فقد وزعنا معظم كتب الدعوة....
لمح ابو عليّ دمعة تتزاحم في مقلة ابو انس...فهذا إبنه البكر....ويريد ان يفرح فيه... لكن الرصاصة التي قتلت زياد قتلت فرحته أيضا..
*
لقد زاد حزن ابو انس الحالة النفسية لابو علي سوءا...فإلى جانب الفقروالفاقة والقتل للابناء والأقارب والأحباب من ابناء هذا الحيّ وهذه المدينة جاء حزن أبو انس...لم تعد الحياة تطاق....لقد دخل ابو عليّ في مرحلة من الاكتئاب،فإنزوى في بيته من أثر المرض.. وقضى أياما بين حاله وما يرى ويلمس من حاجات بيته،حتى انه بدأ يشعر بأن باب بيته يطرق ،فيدخل بعض الجيران اطباق الطعام لأولاده...فتحاول زوجته التي تتوارى بوجهها عن الطارقين وهي تحبس دمعتها.....فيبكي أبو علي بمرارة ...يخلع عن نفسه الغطاء... وينتعل حذاءه الممزق ويخرج قاصدا الصيدلية باحثا عن دواء يهدأ من حالته....
دخل الصيدلية ... وبدأ بشرح حالته للصيدلاني الشاب...يريد دواءً مهدئا ... شك الصيدلاني أن زبونه هذا من المتعاطين للمخدرات...فهو لا يستطيع صرف أي مهدأ دون وصفة طبيب...
حاول أبو علي إقناعه... لكن الصيدلاني رد بهدوء رافضا الطلب...فصرخ أبو عليّ قائلا .. تريد وصفة طبيب.؟؟.. اقول لك لو كان معي كشفية الطبيب ما جئتك أتفهم ؟؟!!
أدرك الصيدلاني أنه يقف امام شخص معدم يعاني الاكتئاب،فقر أن يعطيه جرعة مهدأ...فتراجع غضب ابو علي... وعندما طلب الصيدلاني منه أن يقوم بحقنه بتلك الجرعة رفض أبو علي وقال: أعطني الجرعة وانا سأحقن نفسي بنفسي.. فانا أعلم أين وجعي..فامتثل له الصيدلاني وناوله جرعة وحقنة وهو مرتبك دون أن يدقق في صلاحية تلك الحقنة....
سار ابو علي الى خارج الحيّ حتى اصبع بعيدا عن كل صوت، وكل حركة تقريبا، وانبرى جانبا إلى بداية الحرش المجاور للمدينة، وأخرج الجرعة والحقنة،وقبل أن يحقن بنفسه بالمحتوى، تذكر أنه يجب عليه اولا أن يربط أعلى منطقة العضل ويشده بخيط لتبرز الشرايين تماما، فشق قطعا من قميصه وضغط عضله وشد، ثم حقن نفسه وارتخى طويلا حتى غفى...
*
نصف ساعة على ارتخائه ونومه مرت قبل أن يشعر بشيء ما يسري في جسمه المنهك، أفاق وهو يتحسس جبينه المتصبب عرقا وحرارته ألمرتفعة، حاول النهوض فلم يستطيع...نار تشتعل في شرايينه...أحس بالخوف....التفت إلى زجاجة الجرعة الصغيرة فوجدها الى جانبه... إلتقطها وتفحصها وأخذ يقرأء ما نشر عليها فهاله أنها منتهية الصلاحية... فأدرك أن ما يشعر به الان هو نتيجة ذلك .. حاول الوقوف والسير نحو الطريق الرئيس لينقذ نفسه،لكن خطواته خانته فوقع..فصرخ ونادى، لكن صوته أيضا قد تراجعت حدته كثيرا .. زحف وزحف وهو يلوح بيده بصعوبة لعل أحدا يراه...لكن لا حول له ولا قوة... لقد استشرى اللقاح في جسده سموما....تذكر اطفاله وزوجته وزياد وانس وابو انس والحيّ والارض الحزينة والشعب الصابر .. والوجع.....ورحل...
قال البعض يبدو انه إنتحر، وقال آخرون لربما يكون مدمنا على تعاطي المخدرات، آراد ان يأخذ جرعة فرح فقتلته.. لكن الملائكة كانت تناديه ،وكأني بها تقول : لقد اقبل حسن المظلوم خارجا من دنيا العذاب الى دار العدل والثواب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى