فاتن فاروق عبد المنعم - سفر الحقيقة

يجلس أمام مكتبه يفتح الأطلس، يطلع على خريطة منطقتنا، هاله ما رأى، النار نالت منها واحترقت الأطر المحددة لكل دولة وغلب عليها اللون الأسود، مدهوش ومفجوع في آن.
يسأل نفسه كيف ومتى حدث هذا؟
وأين كنت أنا؟
ولماذا النار لم تطل سواها؟
بقية الخرائط سليمة معافاة، لا بأس لدي أطلس آخر وخرائط كثر أحتفظ بها.
يفتح الدرج الأخير يستخرج الأطلس الآخر فيجده بنفس التوصيف وحتى الخرائط الفرادى الملفوفة على بعضها داخل الدولاب كلها محروقة الحدود والحواف.
يعلو صوته "إنها مؤامرة"
يرتد إليه صوته كأنه في صحراء لم يجد أسطح ما يرتطم بها فتمتص فتوته.
ثم يحاول أن يستعيد توازنه، يحاول الفهم، فهم حقيقة ما يجري، على غير هدى ودون مقصد محدد يخرج إلى الشارع ليرى المارة من كل الأعمار عراة كما ولدتهم أمهاتهم يطيل النظر إليهم يشعر بالخرس ينظر إلى نفسه فيكتشف أنه هو أيضا دون ملابس ولا حتى ورقة التوت.
يمضى متبلدا لا يشعر بالخجل ولا برغبة في العودة إلى بيته ليرتدي ملابسه.
الرجال والنساء يمضون إلى حيث يريدون ولا يستبشعون ماهم فيه فالنهود مشرعة وما بين الأفخاذ سافر، الكل سافر أمام الكل، الكل في واحد في كل شيء.
هل هناك اتفاق مسبق على التعري أم أننا في يوم الحشر، هدوء يبلغ حد البلادة فلا تحرش ولا يتبدى على الرجال والنساء أي رغبة في مضاجعة أو شبقية تأخذ بلب أحدهم حتى هو لا يرغب في النساء عامة.
الويل لنا، هل ماتت الرغبة بين الرجال والنساء فلم تعد لديهم شهوة تتملكهم وتحرك سواكنهم؟
إن كان كذلك فنحن ماضون إلى حتفنا، إلى الفناء المحقق.
هل نسينا لغة الحب فعجزنا عن الممارسة؟ فلنتعلمها مرة أخرى لتبث فينا الحياة فإذا اشتعلت الرغبة وتحسسنا أجسادنا العارية سنسارع إلى ستر عوراتنا وسنخصف عليها بملابس تعبر عن هويتنا وسنجوب الآفاق حتى نؤطر حدودنا بأيدينا ونقطع اليد التي حرقت الحدود داخل الخريطة لنرسمها بأيدينا مرة أخرى ولكننا نجهل الطريق والطريقة، سنعود إلى المتن المعطل ليهدينا سبل الرشاد.
عندما خلق الله آدم أول سكان الجنة استوحشها رعم أنها جنة لأنه كان دون رفيق يستشعر معه حب الحياة فلما اشتق من ضلعه حواء إستأنس بها وزالت وحشته رغم أنها من ضلع أعوج فلما عصيا ربهما رأيا عوراتهما فلماذا نحن الآن لا نرى عوراتنا ونحن الغارقون في المعاصي؟!
أرى أنني وضعت يدي على موطن الداء.
لابد أن نرى عوراتنا ولكن كيف يكون إيقاظ الأعطاف الخامدة؟
أصاعقة تسقط علينا من السماء لتستنهض الكل؟ دائما نحن القاعدون ننتظر الحلول من الله دون أن نغير من أنفسنا.
زلزال يهز الأرض بمحتواها فيعلو الهلع كل الوجوه فتحدث إفاقة جماعية لتلك الكيانات المهيضة فتبدت لهم عوراتهم ليزداد الهلع والفرار العشوائي إلى البيوت ليخصفوا عليها بملابسهم، يفتحون دواليبهم فلا يجدون ملابس يتدثرون بها، يتخبطون، يعجزون عن الفعل يلفون أجسادهم بملاءات حتى يصنعوا الملابس التي تناسبهم وتعبر عن هويتهم.
تستجيب المصانع التي أغلقت لصالح آخرين، يجهل أغلبنا منطقهم وتصنع ملابسنا من نسيجنا، بأيدينا، كل مصنوع باليد له جماله الذي يرطب النفوس العطشى.
العمارة هوية، مجرد التطلع إليها فإنها تحكي معتقدات وثقافة قاطنيها دون شفاة ودون لسان ينظم الحروف مرتبة من معجم الأجداد التي تحكيه هذه العمارة في كل تفصيلة بها.
فإذا دخلنا بيوتنا التي تشبه علب السردين نفرنا منها وفتحنا كتاب "المهندس حسن فتحي" لنتعلم كيف نبني بيوتنا بأيدينا كما أجدادنا لنخلق الجمال في حياتنا مرة أخرى، لنكتشف أن الأمر أبسط مما نتصور فلماذا حجب عنا هذا الفعل ردحاً من الزمن؟
بعد طول تردي في قبح مقيم متجذر تتجلى القباب والساحات والأحواش المصممة بمساحات وزوايا ووجهات تؤدي الغرض المطلوب منها، كأننا نرسم لوحة من الفن التشكيلي ونحن بلا استثناء أعضاء ومفردات هذه اللوحة لننثر في أرجاء بلادنا جمالاً من نوع فريد يتبعه جمال الحرف والمفردة والمنطق والنظرة والإيماءة حتى عند أبسط البسطاء، إنها حياتنا الجديدة المختارة بعد الترمض في انعطافات شتى ودون ذلك فالموت لنا أفضل مهما تصدى لنا آخرون عهدناهم متربصين لنا دوما.
حياتنا هي جملة من الدوائر المتداخلة التي تصنع مكوننا، وكلما أصلحنا دائرة اننتقلنا إلى التي تليها حتى إزالة جملة الأدران والأوحال التي تقلبنا فيها زيغاً وضلالا.
أرضنا الآن صلبة قوية، عبدناها بأيدينا لتكسبنا القوة المطلوبة على الكوكب الذي يتجلى فيه قانون البقاء للأقوى، نعيد رسم خريطتنا التي احترقت من قبل فإذا امتدت لها يد أخرى تجلت عيوننا حمراء جاحظة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى