محمد عمار شعابنية - الروائي القاص عبد القادر بالحاج نصر يرَوّض مُهرة السرد

من الروائيين الذين رأوا نور الحياة خلال العشرية الأخيرة من النصف الأول من القرن العشرين في تونس لم يبق غير عبد القادر بالحاج نصر المولود سنة 1946 وأبو بكر العيادي المولود سنة 1949 يدأبان لإضافة روائع جديدة لإبداعاتهما السابقة في الرواية والقصة ومضامين موازية تنخرط في مجالات أدبية أخرى كالنصوص المسرحية وأدب الطفل والمقالات الصحفية والنصوص المسرحية وغيرها . وقد توَقف أو كاد يتوَقّف روائيون وقاصون من جيلهم في البلاد أو قَلّ حراكهم لنشر حرير الكلام أمثال أحمد ممّو والناصر التومي وجلول عزّونة وافلة ذهب وعروسية النالوتي بعدما كانوا يطلّون على القّراء بقصص وروايات معتبرة .فهل يعود ذلك إلى أنّ الكتاب قد أصبح سلعة بائرة لا يقبل الناس على قراءته ولا يدرّ على صاحبه أيّ ربح في ربوع لغة الضاد ، أم أنّ مشاغل أخرى قد أبعدتهم عن الكتابة لمجاراة ظروف الحياة متطلباتها الثقيلة ؟
وعبد القادر بالحاج نصّر الذي انخرط في الدراسة الابتدائية بمسقط رأسه طفلا فقيرا تقاعد من عمله وزيرا .. نعم ، تقاعد سنة 2008 برتبة وزير مفوّض من جامعة الدول العربية بعد التحاقه للعمل فيها منذ سنة 1980 في رتبة أخصّائي في البداية ،وهذا ما يجهله الكثيرون من الكتَاب في بلاده لأنه يعيش بعد مغادرة العمل حياة البساطة ويخالط الناس من جميع مستوياتهم المادية ويجلس في المقاهي الشعبية مع أصدقاء عاديين باعتباره من طينة أصيلة مبللة بعرق الفلاحين الكادحين ومحتضنة بأعماقها جذور أشجار الزيتون واللوز التي يفتتن باخضرارها ويبارك ثمارها .
هو الطفل والمراهق الذي زوال الدراسة الابتدائية بإحدى المدارس الابتدائية بمسقط رأسه "بئر الحفي " التابعة لولاية سيدي بوزيد وسط البلاد التونسية وهي القرية المتميّزة بلحوم خرفانها التي قلّما عبرها مسافر من إحدى مدن أو قرى البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا دون إن يتذوّق من شوائها أو يشتري منها لأسرته.
وهو الذي انتمى إلى التعليم الثانوي بمعهد الحسين بوزيان بقفصة على بُعد سبعين كلم من قريته . وهو الذي اشتغل مقدم نشرات أخبار بالإذاعة الوطنية في أواخر ستينيات القرن الماضي وأسهم في تحرير مجلة الإذاعة والتلفزة التونسية . وفي تلك الأثناء نشر رواية " الزيتون لا يموت " التي تستعرض فترة حاسمة من الكفاح ضد المستعمر الفرنسي قُبيْل أحداث 9 أفريل 1938 التي تعتبر منارة جهاد بارزة في نضال الشعب التونسي وهو في الثالثة والعشرين من عمره فتحصلت على جائزة علي البلهوان للرواية.
كما أصدر مجموعته القصصية الأولى " صلعاء يا حبيبتي " عام 1970 قبل أن يسافر إلى فرنسا للدراسة العليا بجامعة السربون الجديدة بداية من سنة 1971 فيتحدى ظروف الإقامة السيئة وضيق ذات اليد ويعاني من شراسة الجوع ومرارة الاغتراب ليحصل على شهادة الإجازة سنة 1974 والأستاذية سنة 1975 وشهادة التعمق في البحث سنة1976 ويتوّج أعوام الدراسة الثمانية بتمتعه بشهادة دكتورا المرحلة الثالثة في 1979ليعود بسرعة إلى تونس كالطائر المهاجر الذي حنّ إلى طبيعته الأصلية .
فانتمى إلى سلك التعليم الثانوي مدرّس لغة فرنسيّة بالـمعهد الثّانوي بصفاقس. ثمّ التحق بالـمعهد القومي لعلوم التّربية وعمل فيه باحثا.
واشتغل في المجال الإعلاميّ محرّرا في صحف منها جريدة "بلادي" ومجلّة "الإذاعة والتّلفزة"... ثمّ انتدب مديرا لدار الثّقافة ابن خلدون بتونس العاصمة وأشرف عليها مدة سنتين إلى أن التحق بالأمانة العامّة لجامعة الدّول العربيّة سنة 1980 ـ كما ذكرت سابقا.
خلال تواجده في فرنسا اهتم بالدراسة وتوقّف عن كتابة القصة والرواية أو قل إنه قد أنجز منها نصوصا لم يشغل نفسه بنشرها ، وفي وطنه ـ بعدما استقرت ظروفه المهنية والحياتية أصدر ست عشرة (16) رواية وتسع (9) مجاميع قصصية بل عشرة إذا أضفنا إليها مجموعته " سيدة شرقية جدا " المنشورة من طرف النادي الثقافي عرعر بالعربية السعودية في جوان 2021 . وله ثلاث مسرحيات (3) أنتجتها فرق معروفة وتسع مسلسلات تلفزية (9) تم انجازها وعرضها على المشاهدين .
سبعة وثلاثون عملا بارزا لم يغطها غبار النسيان لأنها ستظل نابضة وشاهدة على إبداع صاحبها المتنامي الذي حصد العديد الجوائز وتم تكريمه في العديد من المناسبات في مجالس مكتظة بعشاق فنّه الكتابي .
وخارج إطار الأعمال المقدّمة والمنشورة لم يتوقف عبد القادر بالحاج نصر عن الإضافة فهو مهندس رواية " الأقحوانة " التي نشرها في أجراء بموقعه الفايسبوكوي في ما بين 12 أفريل ,25 جويلية 2021 و" حديقة لكسمبورغ " في أكثر من 60 حلقة بصفحته التواصلية وهي استعراض مؤثر وطريف في آن واحد لأحداث عاشها بفرنسا أثناء مزاولته الدراسة العليا وتذكير بأشخاص فاعلين في حياته التقاهم زمن اغترابه الاختياري . وإبحار في زمان ومكان أثّرَا في سلوكه ووضعه المعيشي والمادي ، وإذا اعتقد البعض أنها سيرة ذاتية فلا يمكن للمتمعن في قراءة فقراتها ومتابعة أحداثها إلا التأكد من أنها سيرة جماعية لأناس التقوا لتأثيث هدف مشترك وإن اختلفت خياراته ودوافعه أحيانا .
و" رجل من بئر الحفي ".. في كل وقفة من وقفات هذا الموضوع يقدم رجلا من مدينته أسهم بقسط وافر من الكفاح والتضحية والنضال والجهد والعمل في سبيل وطنه للتعريف بهؤلاء الرجال أولا و لجعلهم بارزين في ذاكرة الأجيال للافتخار بهم والتأثر بصنائعهم النبيلة .
ولم تتوقف الكتابة عند هذا الحد بل حرّضت صاحبها على ترويض مهرة السرد ليقدم المزيد من نصوصه لقرائه المتعطشين لما يكتب فنشر في سنة 2021 عددا من القصص التي تابعتُ أربعا منها:
1) شارع الثورة
قرأت القصة مرتين ، الأولى متفحصة والثانية عاشقة .. عشقتها رغم مرارتها ، فهي واقعة في منتهى شارع الثورة ، وشارع الثورة مسار لأكثر من عشر سنوات من المتاعب والمصاعب، والشيخ الذي يسرد أحداثها كان يأمل في أن يحيا مع زوجته وابنه حياة هادئة ألا أنه فقدهما بعد ما فتك بهما وباء الكوفيد19 ..ووباء الكوفيد هذا يحيل على وباء الحكم الفاسد الذي أهلك العباد ولم يعرهم أي اعتبار ،بل أهانهم أحيانا أحياء وأموات (نظر طويلا في الجسد المحشور في الصندوق الكرتونيّ).
القصة مكتوبة بأسلوب سلس ولغة متعقلنة ومواقف هادئة لكنها فاضحة لما حدث ، فليسلم قلب كاتبها الدكتور عبد القادر بالحاج نص.
2) يا غلام
تتنوّع مضامين قصص عبد القادر بالحاج نصر وتتعدد لكنها تبقى مستوحاة من فضاءات محيطة بشخوصها ومؤثرة على سلوكياتهم وتصرفاتهم التي يختارونها ويمارسونها لتكون مسالك حياة لهم بجميلها وقبيحها .
والعمود الفقري للقصة رجل متستر بالدين لترويج أوهامه الحقيرة والمتاجرة بها تماما كما يتاجر الباعة في الأسواق ببضائعهم المختلفة ، بل لا يزدهر ترويج بضاعته إلا عند ما تكون السوق في أوج انتصابها ، فهو لا يجيب النساء اللواتي يطلبن منه إفادتهن بما يخلّصهن من بعض المعضلات إلا بردود محبطة ، كما أنه يسعى إلى تخدير أفكار الطفل الذي يحبسه في فضاء ضيّق متظاهرا له بالعطف والحنان ليصفعه عندما يخيب أمله فيه.
أمثال هذا الشخص كثيرون في مجتمعنا ولم يحاسبوا على ما اقترفوه من مفاسد وأخطاء
تبقى الإشارة في هذه الإطلالة السريعة إلى أن عبد القادر بالحاج نصر لا يتخيّر كتابة موضوع قصصي أو روائي من فراغ لأنه يقرأ الأحداث ويستخلصها ويسردها مما يتحرك حوله .
3) ذات الأصابع العارية
قصة ذات الأصابع العارية للمبدع دائما عبد القادر بالحاج نصر
حرضتني قراءتها على أن لا أترك أصابعي في العراء وهي تنقر على أزرار أحرف جهازي الفايسبوكي لأقول شيئا يتصل بعلاقة الأفعال الرتيبة التي يقوم بها أو يفتعلها المتواتر ظهورهم في القصة في حيّزين زمني ومكاني محدودَيْ التحرك ، بل هنا جامدان وما فيهما جامد .
الرجل الجالس في المقهي وقد هيأ أوراقه للكتابة ولم يكتب .
النادل المتثاقل يحمل القهوة إلى الجالس بتباطؤ . أما القهوة فمآلها الانسكاب على الطاولة كي لا يرشف منها طالبها .
المرأة ذات الأصابع العارية تملأ كيسها بالنفايات ثم تفرغها في لآخر .
بائع المواد الغذائية يتراجع عن فتح دكانه .
بائع الحليب يضع دنه متكاسلا .
التماثيل جامدة في الساحة .
الشمس لم تشرق بعد.
هذا التثاؤب المكاني بمآله العبثي يقابله تثاؤب زمني رتيب:
الوقت لا يبشر بانبلاج الصباح.
الشمس تتأخر عن الشروق.
الشوارع مقفرة من العابرين الذين لا يغريهم التحرك قبل انتشار الضياء .
كل ما ذكرته يرغّب الجالس في مغادرة المقهي بحثا عن عالم حيّ يوفّر له الراحة .
هذه القصة تؤكد كسابقاتها على أن عبد القادر بالحاج نصر يعتبر ذا قدرة على الربط بين الزمان والمكان في أوضاعهما المختلفة وعلاقتهما بما يحدث في إطاريْهما.
4) ملعون أبو العملاء .
" ملعون أبو العملاء" قصة أعتبرها سيناريو أو سيناريو أعتبره قصة لأن القاص عبد القادر بالحاج نصر يتقن كتابة الجنسين ، لذلك برزت هندسة البناء السردي بجمل قصيرة مترابطة في سياقاتها للوصول بالقارئ إلى نتيجة تؤكد على أن الكاتب لا ينطق عن فراغ ولا يحضر في النص شخصيات ذات أدوار باهتة.
فالقصة السيناريو يتداول على أحداثها ثلاثة أطراف أولهما يتكوّن من الرجال الثلاثة الجالسين في الصالون الفخم المؤثث بحرير الهند واللوح المستجلب من غابات بولونيا والعطور الباريسية وهم لا يتعاملون مع غير النارجيلة رمز الترهل والتواكل والفراغ وتناسي ما يحدث حولهم ، لذلك لا يروق لهم ما يقوم به أطفال الحجارة لقض مضاجع المغتصب الصهيوني وجنوده حتى لا تتعطل مصالحهم معه وهم عملاؤه.
وثانيها طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره وهو عمر بداية الوعي بما حوله، لذلك يوظفه في ما يمكن أن يذود به عن شعبه ووطنه وهو رشق جنود الأعداء بالحجارة وتحدّيهم فيصوّبون نحوه فوهات بنادقهم فتصيبه رصاصة النقمة التي ترديه قتيلا..
وثالثها أمّ تحاول منع ذلك الطفل من مواجهة عدوّ مدجج بالسلاح خوفا من فقدانها له قتيلا كما فقدت قبل أخاه ، لكنها لا تُفلح في ما عزمت عليه.
هذه الأطراف الثلاثة لا تلتقي في حوار بينها لأنّ لكل منها نواياه وملاحظاته إزاء ما يحدث. غير أن الطرف الأول لا يريد أن يحدث ما حدث ليعيش أفراده بسلام. ويمارسون أنشطتهم خارج الاهتمام بما يريده الشعب وما يحتاج إليه الوطن.
ولقد وظّف الحاج نصر شخوص قصته أحسن توظيف للتعبير عما يساورهم في ظل حكم دخيل غيّب عناصره عن المشاركة في نسح خيوط القصة لأنه يدرك أن صنائعهم مفضوحة ولا تحتاج إلى مكاشفة.
وإذا اعتمد شكل القصة على سردها في فقرات منفصله فلأن تسلسله الزمني مكثّف ويحتاج إلى تقطيع كما في المشاهد السينمائية .
• إن عبد القادر بالحاج نصر يكتب من وحي ما يحدث وعمّا يحدث سواء في قصصه ورواياته المنشورة قبل ما اصطلح عليه بالثورة أو في التي نشرها بعدما ويكفي
• ذكر ثلاث روايات هي " هنشير اليهودية " (2016) و" وأحزان الجمهورية الثانية " ( 2018) و" من قتل شكري بالعيد " (2020) ليتأكد قرّاؤها من أنه قد استلهم
• مما يحدث في البلاد في ظل الحكومات المتتالية عليها منذ 2011 لكتابة نصوصه الفاضحة للأوضاع اليائسة والبائسة التي تفاقمت فيها الأزمات وكثر انهيار فيها الاقتصاد وتعفنت الأوضاع وتفاقم عدد البطالين وبالخصوص منهم حاملي الشهائد العليا بما فيها شهادة الدكتورا وانتشرت المضاربات وعمليات التهريب والترهيب وسرقة الملايين من الدنانير وجميع أنواع الفساد التي بانهيار البلاد .وهو مذ عرفته ،ونحن في بداية شبابنا منتمين إلى برنامج " هواة الأدب " الذي كان يشر ف عليه الشاعر الكبير أحمد اللغماني بالإذاعة الوطنية التونسية، يتميّز في سرده بأسلوب شفّاف يرتقي فيه التعبير إلى أعلى درجات النقش الكلامي وروْعة الخطاب الذي يفتن متلقيه . وقد طوّره مع مرور السنوات ليحتكر توظيفه في ما يحرّر . لذلك فإن المنخرط في قراءة أعمال هذا الرجل لا يملك القدرة على التخلّي عنها قبل إتمامها وهو لا يعلم إن كان قد انجذب بالأسلوب السردي الجميل أو بالموضوع المؤثر بقدرة الكاتب تفعيل الأحداث وجعلها حركية وكأنها تدور بيننا. وقد كتبت الشاعرة حليمة بو عرق تعليقا على قصة نشرها بصفحته الفايسبوكية تقول :
" رائعة جدا ومربكة جدا تتلبس بك فلا تقوى على رفع بصرك حتى آخر حرف منها وتشتهي أن تعيد القراءة . تأسرك هذه المراوحة بين الوصف الباطني والوصف الخارجي حتى يلتحمان رغم المفارقات لتكتمل الصورة ويتشكل المعنى . دمت بروعة حرفك أستاذي".
و عبد القادر بالحاج نصر ينكبّ على كتابة أعماله بجدّية لا تفسح مجالا لبهلوانية الكلمات أو الترنح الأسلوبي أو تسرّب الحشو والكلام المجاني إلى رواياته وقصصه فإنه لا يمانع في أن يستحضر السخرية اللاذعة أحيانا عندما يرى أنّ ما حوله يمشي إلى الخلف . وفي رواية " هنشير اليهودية " كثير من السخرية منها ما يلي في الصفحتين 239 و240 :
"الديموقراطية تسير فينا مترنحة كما يسير السكارى في المدينة . .ما أحلاك يا ديموقراطية في بلادنا .. ما أروعك.. ما أتعسك .. ما أجدبك ..لأنت أفرغ في ديارنا من فؤاد أم موسى ..(...) أنت هدية أبناء عمومتنا وأعمامنا وأصهارنا الواقفين على رأس التلة يستهزئون ويقهقهون .
أشربوا ديموقراطية .
تزوّجوا ديمقراطية .
أنجبوا ديموقراطية .
غنّوا ديموقراطية بأصوات جهورية .
لي كلام كثير لم أقله في سياق هذا الموضوع لضيق وقتي وانشغالاتي المتعددة، فليعذرني صديقي عبد القادر بالحاج نصر على ذلك.
ولكن ما أصرّ على قوْله هو أن رئاسة الجمهورية التونسية ووزارة الشؤون الثقافية مطالبتان بأن تضع اسم الأديب عبد القادر بالحاج نصر في رأس قائمة المقترحين لتسلّم جائزة الدولة الكبرى للآداب والفنون عندما يحين الوقت لمنحها.

المتلوي تونس في5و6 سبتمبر 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى