ب. لطفي منصور - صورةُ عِشْقِ الأَقْلام

قالَتْ لَهُ: لَوْلاكَ لَضِعْتُ، انتَبَهَ بِكُلِّ جَوارِحِهِ لِما سَمِعَ. نَظَرَ إلَيْها فَرَأَى الدَّمْعَ حائِرًا في عَيْنَيْها السَّوْداوَيْنِ، أغْمَضَتْ قَليلًا فَإذا قطرَتانِ كَحَبَّتَيْ لُؤْلُؤٍ تَنْحَدِرانِ عَلَى الْخَدَّيْنِ الْمُوَرَّدَيْنِ. أَصابَهُ الذُّهولُ فَلْمْ أسْتَطِعْ أنْ يَبُوحَ بِكَلِمَةٍ، مَدَّ يَدَهُ وَتَناوَلَ مِنْدِيلًا مِنَ الْوَرَقِ الْمُعَطَرِّ وَناوَلَها إيّاهُ فَمَسَحْتْ بِهِ عَيْنَيْها بِرِفْقٍ يُشْبِهُ الرَّحْمَةَ.
سادَ الصَّمْتُ بَيْنَهُما، فَحَزَمَ أَمْرَِهُ وَقالَ: لَوْلايَ أنا؟ فَأَجابَتْ بِصَوْتٍ تَشوبُهُ الْحَشْرَجَةُ: نَعَمْ أَنْتَ مُنْقِذِي لا أَستَطِيعُ أَن أَعْمَلَ شَيْئَا مِنَ الْمَهامِّ الْكُبْرَى في الْجامِعَةِ، كانَ اللَّهُ بِعَوْنِي ثُمَّ أَنْتَ، وَانْفَلَتَتِ الدُّموعُ قَليلًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّتْ في الْكَلامِ: أَرجو ألّأ تَخْذِلَنِي حَتّى لَوْ أثْقَلْتُ عَلَيْكَ، فَأَنْتَ تَعْرِفثنِي كَمْ كُنْتُ مُجْتَهِدَةً بَلْ مُتَأَلِّقَةً، لَكِنَّ ظُروفي تَغَيَّرَتْ جَذْرِيًّا، فَقَدْ أَصْبَحْتُ أُمًّا وَ وَ وَ -وَتَوَقَّفَتْ قَليلًا- وَباتَ ذِهْنِي يابِسًا، لا أَرْكَنُ عَلَيْهِ، وَأَخْشَى أنْ تَذْهَبَ جُهُودي عَبَثًا.
فَكَّرَ في الأَمْرِ، وقالَ في نَفْسِهِ: يا لِلدَّهْشَةِ كَيْفَ يَتَغَيَّرُ الإنْسانُ، كَوَرْدَةٍ مُبَلَّلَةٍ بِالنَّدَى كانَتْ قَبْلَ بِضْعِ سَنَوات، فَما بالُ هَذا الشُّحُوبِ يَعْلُو وجْهَهَا، وَقَدْ خَفَّ بَريقُ الْعَيْنَيْنِ السّاحِرُ، ما الَّذِي حَصَلَ؟ في نَفْسِها أنْ تَقُولَ شَيْئًا لا تُريدُه، فَلَمْ يَرْضَ أنْ تَكونَ بهذا الِانْكِسار، وَهِيَ التِي كانَتْ تَعْلو الْبَهْجَةُ وَالْبِشْرُ وَجْهَها الذي كانَ يُضاهي الْبَدْرَ في تَمامِهِ.
- انتَبِهِي، فاجَأَها بِقَوْلِهِ: لَنْ أَكْتُبَ لَكِ، لأَنِّي أُريدُ لَكِ الْخَيْرَ، لِتُصْبِحِي باحِثَةً لامِعَةً.
- كَيْفَ؟ وَمِنْ أَيْنَ؟ وَأَنْتَ تَعرِ.
- قاطَعَها قائِلًا: أسيرُ مَعَكِ خُطْوَةً بَعْدَ أُخْرَى، لَكِ الْقَلَمُ وَلِيَ التَّوْجِيهُ. ارجِعي الآنَ إلَى بَيْتِكِ وَسَنَلْتَقي في مَكْتَبَةِ الْجامِعَةِ بَعْدَ أُسبوعٍ، أَكونُ فيها قَدْ فَرَغْتُ مِنْ كِتابَةِ بَرْنامَجِ الْعَمَلِ، وَإعْدادِ المراجِعِ والْمَصادِر لِلْمَوْضوعِ الذي ستَكْتُبينَ عنْهُ لِنَيْلِ شَهادَةِ الْماجِسْتير. وَقَبْلَ أَنْ تُغادِرَ الْجَلْسَةَ الأولَى اسيْتَرَقَ نَظْرَةً إلَى مُحَيَّاها فَرأَى آثارَ الهدوءِ والرِّضا.
مَضَى الأُسْبوعُ سَريعًا، وَحَضَرَتْ سَمِيحَةُ إلى الْجَلْسَةِ الثَّانِيَةِ بِنَشاطٍ ظاهِرٍ، وَبِثِقَةِ لَمْ يَعْهَدْها في الْجَلْسَةِ الأولَى.
- كُلُّ هَذِهِ الْكُتُبِ سَوْفَ أَقْرَأُها! مَتَى أُنْهيها؟
- تَقْرَئِينَ المادَّةَ الْمَطْلوبَةَ الْمُشارَ إلَيْها فَقَط، وَبَعْدَ أَنْ تُنْهِي الدِّراسَةَ سَتَقْرَئِينَ ىما تَشائِينَ. والآن اطَّلِعِي عَلَى بَرْنامَجِ الْعَمَلِ.
فَرَشَ أمامَها البَرْنامَجَ، وَأَوْضَحَ لَها الْمَوضوعَ الذي سَتَكْتبُ عَنْهُ. وهوَ "شِعْرُ الْعِشْقِ عِنْدَ الشُّعَراءِ الصُّوفِيِّين وهم الْحَلَّاجُ، وَمُحْيِي الدِّينُِ بْنُ العَرَبي وابْنِ الْفارِضِ وَرابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ.
- اُنْظُري! الْبَحْثُ يَتَكَوَّنُ مِنْ مُقَدِّمَةٍ وَأَرْبَعَةِ فُصولٍ وَخاتِمَةٍ وَقائِمَةٍ بالْمَراجِعِ والْمَصادِر، لِكَلِّ قِسْمٍ مَصادِرُهُ، وقَدْ عَيَّنَ لَها المادَّة التي تُجِيبُ عَلَى أَسْئِلَةِ الْبَحْثِ. وَطَلَبَ مِنْها أنْ تَعْرِضَ عليْهِ كُلَّ مادَّةٍ تُنْهيها، لِلْمُراجَعَةِ، وَأَنَّ هاتَفَهُ مَفْتوحٌ لَيْلَ نَهارَ لِلْأسْئِلَةِ.
- رزْمَةُ الْكُتُبِ هَذِهِ لِلْمُقَدِّمَةِ لا غَيْرُ، وَكُلُّ فَصْلٍ لَهُ مَصادِرُهُ، وهُناكَ مَصْدَرانِ باللُّغَةِ الإنجليزيَّةِ سَأُتَرْجِمُ لَكِ الْمَطْلوبَ مِنْهُما.
وَمَضَتِ الأَيّامُ وَبَدَأَت سَمِيحَةُ بِالْقِراءَةِ والكِتابَةِ، كانَتْ مُتَوَجِّسَةً في البدايَةِ، لكِنَّهُ كانَ يُشَجِّعُها، وَأَخَذَتْ تَتَقَدَّمُ شَيْئًا فَشَيْئًا، تَعْرضُ المادَّةَ عَلَى أُسْتاذِها الذي أَصْبَحَ مُرْشِدَها بِناءً عَلَى طَلَبِ الْجامِعَةِ، واسْتَمَرّ العَمَلُ سَنَةً كامِلَةً، وَهكَذا أصْبَحَتْ الطالِبَةَ لا تَخْشَى اتلأَدَبَ القَدِيمَ بِلْ تَعْشَقُهُ، وَتَعْشَقُ شِعْرَ الصُّوفِيَّةِ، وَأَنْهَتْ أُطْروحَةَ الْماجِسْتير بِامْتِياز، وَدَعَتْ أُسْتاذَها لِحُضُورِ حضفْلَةِ التَّخَرُّجِ، وَعِنْدَما بارَكَ لها الشَّهادَةَ هَمَسَتْ في أُذُنِهِ قائِلَةًً:
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَوْلاكَ لَضِعْتُ!!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى