محمد سعيد حسين - الممسحة..

كرسيٌّ من الخيزران يجثم على مؤخّرته، طاولةٌ خشبيةٌ قديمةٌ تتّكئ على مرفقيه من جهة، ومن الجهة الأخرى، رأسُهُ الّتي تحتوي على عينين تنظران بِبَلَهٍ إلى ممسحة قماشٍ مرميةٍ عند الباب، كانت فيما مضى قميصَه الداخلي، ثم تحولَتْ؛ في خضمّ التحولات الجارية على الأشياء والأسماء والأشكال؛ إلى ممسحةٍ لأرض غرفته، ولحذائه أحياناً..!!
"ليتها تصلُح ممسحة للذاكرة.. لا، فالذاكرة تحتاج إلى ممحاة.."
امسَحْ.. امحُ.. لا فرق..!
لا لا، بل هناك فرقٌ، نرفع السّينَ فقط، تصبح السينُ سؤالاً:
ما الفرق بين الممسحة والممحاة ؟!!
السينُ جوابٌ أيضاً: سوطٌ.. سؤددٌ.. سيفٌ.. سنبلة.. سلامٌ …!!
سلامٌ على معدتك الخاويةِ يا أخ صالح.. سلامٌ على كتبِك المهترئةِ، ودفاترِكَ المبعثرةِ، وأقلامِك الخرساءِ، وقميصِك الممسحةِ، وممحاتك الـ...
الممحاة ؟!
كنت في الأول الابتدائي، أمحو بها أخطاءً كثيرةً كتَبَها قلمُ الرّصاص، لأعيد كتابتها خطأً، قد تبقي أثراً، لا..! بل إنّها تبقي أثراً واضحاً..
الممسحة ؟!
توسّع رقعةَ القذارة، توزّعُها على السّطح، تصبحُ غيرَ مرئية.. نخالها نظافة، نتبجح:
" النظافة من الإيمان "
الحمد لله الذي رزقني نظافة اليد، والجيب، والـ…. !!
هذه الممسحة تجثم هنا منذ بداية العام "رأس السنة كما يقولون " حيث تتماهى الرؤوس والأقفية، أذكر عندما اندَلَقَت زجاجةُ البيرة، ولم أجد ما أجفّف به الطاولة سوى قميصي الداخلي، فأصبَحَ ممسحةً، وأصبحتُ بلا قميص، هو قدرُنا نحن الاثنان، لم يستطع أن يعود قميصاً، ولم أستطع أن أشتري غيرَه، ربّما نسيت، ربما مسحتُ ذاكرتي بممسحةِ الزّمن، في الزّمن الممسحة، الذي أصبح، أو سيصبحُ، "تاريخاً..."
تاريخٌ ؟!!
للتاريخ أشكالٌ متعدّدة ـ يقولون ـ ربما تأخذ هذه الممسحة أحدَ أشكاله..
ربما كنت أتوقع أن يدخل قميصي التّاريخ، لو لم يصبح ممسحةً ؟!
ولم لا ؟!!
أليس هناك قمصانٌ دخلت التّاريخَ أو دَخَلَها، جعلت القومَ أقواماً، والعقيدةَ عقائدَ، والتاريخَ ممسحةً ؟!!
يا لندامتي على فعلَتي تلك، ولكن ما ينفع الندم ؟!
ثم أنه لو لم يكن القميص، لكانَ السّروال، أو السّترة، أو …
لا لا.. السّترة لا..!!
أهم ما في الحياة سترة الآخرة، وهذه تقتضي أن تضحّي بقميصك الدّاخلي، كي تحافظَ على واجهتك..
لا.. لن أندم بعد اليوم على ما فعلت..
تخيل يا رجل، تخيل نفسَك تمشي بلا سروال ؟!!
يا لهذه الأفكار المقيتة الّتي لن يصرفها سوى تلك الكأس، ولكنّها لا تريدُ أن تقترب.. تعالي أيتها الكأس.. اقتربي.. لماذا تبتعدين ؟! ثم لماذا لا تستطيع هذه اليد اللعينة أن تلتقطها ؟!
لم يبقَ منها سوى رشفةٍ، أو رشفتين.. لا يهم، فالخوابي المعتّقة تملأ المكان، المهمّ أن تتحرك هذه اليد الـ … أن … يا إلهي.. ماذا أصابها؟!!
وهذا القميص.. أقصد الممسحة.. لماذا تهزأ بي؟! أشعر بها تنظر إليّ بتشفٍّ مقيت، ألأنني لم أعد أستطيع ارتداءها ؟ ولكنها لا تستطيع أن تعود قميصاً.. يا لها من مدّعية بلهاء، تقول بأنّها قد تصبح سترةً، ماذا ؟!! أنا رأسي حذاء يا بنت الكلب؟!
آه من هذه اليد..لا تريد أن تتحرّك لتمزّقك إرباً.. تحرّكي أيّتها اليد، تحرّكي.. أشعر برغبة في حكِّ رأسي، بل هي حاجة أن أحكّه، لماذا تهزئين بي أنت الأخرى ؟ كلّ ما في هذا المكان يحتقرني بصمت...
كم كان "برنارد شو " محقاً عندما قال: السكوت أبلغ تعبيراً من الاحتقار.
ولكن..!!
أليس احتقاراً لبلاغة السّكوت، أن نثرثرَ ونحن صامتين ؟!
أريدُ أن يعلو صوتي.. أن يتحرّك لساني.. أن يسمعَني أحد.. أرى كلّ شيء.. النّافذةَ البابَ المصباحَ الكتبَ.. والكأسَ، وهذه الممسحة الّلعينة، لكنّني لا أستطيع الكلام، ما الفائدة ؟ ربما يغيّر "شو" رأيه عندما يدركُ أن السّكوت عجزاً، هو أكثر أنواع السّكوت انتشاراً.
بل إنّني أسمع، نعم أسمع..
إنّها جارتُنا أمّ زكي تزعق ـ كعادتها ـ على أحفادها.. وهذا صوتُ الصّغيرة ( ثارة الثرثارة ) كما علّموها أن تقدِّم نفسَها للآخرين، وعندما تفعل، ينقلبُ جدُّها على قفاه من الضّحك، ويعتصرها ـ حبّاً ـ بين ذراعيه، فتصرخ ألماً، فاتحاً المجال لمبرد أمّ زكي أن يبري شيبتَهُ بموشّحٍ من الشّتائم، الّتي لا أظنّ أحداً غيرها يحفظها.
تبّاً لك يا أمّ زكي.. لماذا لا تطلقين موشّحك الآن، لعلّ أبا زكي يلتجئ ـ كعادته ـ إليّ.. حتماً هو سيناولني الكأسَ عندما يرى عجزي عن التقاطها..
ـ أستاذ صالح …
نعم.. صالح.. صالح الصالح يا سيدي، وكلّ أهلي وأقربائي وأصدقائي من الصالحين، وإن اختلفت الأسماء، منهم مثلاً: الكامل، والعارف، والثابت، والعابد، والـ …
كلّها أسماء تصبّ في خانة الصّلاح، والصّلح، والمصالحة، والإصلاح، الذي هو ـ اصطلاحاً ـ غايتُنا، وأقسم.. أقسم لكم يا سيّدي، أنني لم أكن أعلم أنّ هذا القميص يخصّ سيادتكم.. ظننته لي، فخمّنت أنّه يصلح ممسحة، و ... ....
ـ أستاذ صالح ...
نعم.. قلت نعم.. صالح.. صالح فقط.. لا أستاذ ولا من يحزنون، ولا أحمل من الأستاذ، سوى هذه الكتب التي ترونها حضرتكم، شقفة موظف، فني صيانة، ويقال أنني أفضل من يحسن تسليك المجاري والبلاليع في المدينة، ثم إنّني أملك موهبة أخرى، وهي قدرتي على إعادة تأهيل القمصان لتصلح مماسح.. جرّبني يا سيّدي.. جرّب، ولن تخسر شيئاً...
ـ أستاذ صالح.. أتبع أبو زكي نداءه هذه المرّة، بلكزتين، أو ثلاث على كتف الأستاذ صالح.. انتفض مذعوراً:
ـ آه.. ماذا ؟.. القميص.. الكأس.. أعطني الكأس.. الممسحة.. أين الممسحة ؟! القميص.........
ـ أستاذ صالح.. اهدأ يا بني.. اهدأ ـ صرخ أبو زكي ـ لَكْ يا (أبو كامل).. يا (أبو جميل).. لَكْ يا جيران.. أحدُكم يطلب الإسعاف.. لَكْ بسرعة.. الأستاذ صالح حرارته مثل النار..إنه (يهلوس)..!
وفي لمح البصر، حضر الجيران، وسيارة الإسعاف، ولجنة أطباء الحي، ومنظمة اليونسكو.. وجمعية الرفق بالحيوان... و...
الأستاذ صالح ينتظر...
لا يزال ينتظر، ويسبح في بحرٍ من القمصان.. والسراويل.. والكلا... ...سين؛ وعلى رأسه ترفرف "ممسحـــــــة".!


م . س . حسين
من المجموعة القصصيّة "مكاشفات زهرة الدفلى.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى