أ. د. عادل الأسطه - "كل أرض الشام منفى!!"

في رواية غسان كنفاني " أم سعد " ( ١٩٦٩ ) تعقب أم سعد على كلام الراوي الذي استغرب ألا يوقع سعد على ورقة ليخرج من السجن بعد أن اعتقلته الشرطة اللبنانية لمشاركته في عمل سياسي ، وكان هذا في ستينيات القرن العشرين :
- طيب ؟ أنت غير محبوس ، فماذا تفعل ؟
وترى أن المخيم حبس والبيت حبس والمختار حبس والجريدة حبس والراديو والباص والشارع وأعمارنا ، وترى أن الفلسطينيين منذ طردوا من بلادهم وأقاموا في المخيمات محبوسون " أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات ؟ " والخلاصة أننا كلنا محبوسون ، ولسوف يعبر محمود درويش في ديوانه " حالة حصار " ( ٢٠٠٢ ) ، وكان مقيما في رام الله المحاصرة ، عن الفكرة نفسها كاتبا عن أصدقاء له يقيمون في العالم العربي يشعرون أنهم حيث يقيمون يشعرون بأنهم أيضا محاصرون :
" لنا إخوة خلف هذا المدى
إخوة طيبون ، يحبوننا ، ينظرون إلينا
ويبكون ، ثم يقولون في سرهم :
" ليت هذا الحصار هنا علني ... "
ولا يكملون العبارة : " لا تتركونا
وحيدين .. لا تتركونا " .
تذكرت كلام أم سعد ، وتذكرت مقطع محمود درويش ، وأنا أكتب عن رواية المنفى في الأدب الفلسطيني وأفكر في معايير تحديد " المنفى " .
هل رواية المنفى الفلسطينية هي التي كتبها فلسطينيون خارج فلسطين ؟
إن كانت الإجابة بنعم ، فكيف ننظر إلى الروائيين الذين أقاموا بعد نكبة ١٩٤٨ في الضفة الغربية وقطاع غزة - أي بقية فلسطين التي احتلت في حزيران ١٩٦٧؟
قادتني التساؤلات إلى البحث عن دال المنفى وأدب المنفى وما يندرج تحته ، وأثارت لدي ولدى بعض الكتاب العرب تساؤلات منها :
- كيف ننظر إلى الروائيين الفلسطينيين الذين يقيمون في البلدان العربية ، وقسم من هؤلاء ولد في تلك البلدان وحصل على جنسيتها ويعامل مثل أبنائها ؟
- هل يندرج ما كتبوه تحت مسمى أدب المنفى الفلسطيني أم أنه يعد أدبا وطنيا يحدده جواز سفر الدولة التي يحملها صاحبها ، بخاصة إذا ما تمتع بحقوق مواطنة كاملة ؟
في تعريف أدب المنفى ، كما ورد في بعض معاجم الأدب ، فإنه الأدب الذي يكتبه كاتب يجبر على الإقامة خارج وطنه او كاتب تتعرض كتابته لاضطهاد سياسي أو ايديولوجي أو لرقابة أو منع من السلطة الحاكمة ، ولو في بلده ، أو يتعرض هو وأبناء شعبه لاضطهاد عنصري أو ديني ، وبناء على الكلام السابق فإن الأدب الفلسطيني المقاوم كله أدب منفى حتى ما كتب منه في فلسطين المحتلة ، لأنه خضع للرقابة وخضع كتابه أيضا لاضطهاد قومي .
ولكن هل يعد الأدب الذي يكتبه كتاب هاجروا من مدنهم وقراهم هجرة طوعية أدب منفى ؟
أجبرت عائلة غسان كنفاني في العام ١٩٤٨ على الرحيل من عكا ويافا ، ولكن جبرا ابراهيم جبرا غادر مدينته بيت لحم طوعا ، فهل يعد ما كتبه الثاني أدب منفى ؟
الأمر نفسه يمكن ملاحظته في أثناء قراءة سحر خليفة المولودة في نابلس التي احتلت في ١٩٦٧ وكتبت فيها أبرز رواياتها ثم غادرتها طوعا . هل يعد ما كتبته خارج فلسطين " أدب منفى " ، علما بأنها لم تتعرض لملاحقة أو سجن أو نفي ؟ ربما يعد أدبها أدب منفى اعتمادا على معيار الجندر / الجنس - أي الذكورة والأنوثة فقط ، فهي تشعر ، كونها أنثى ، بالاغتراب في مجتمع ذكوري .
هناك روائيون فلسطينيون غادروا فلسطين طوعا وأقاموا في بلدان لم تقمعهم ولم تقمع كتاباتهم ولم يتعرضوا لأي رقابة أو ملاحقة ، فهل نعد أدبهم " أدب منفى " ؟ أم أنه يجب دراستهم تحت عنوان آخر هو " الرواية الفلسطينية في خارج الأرض المحتلة " ؟
هل توجد إذن رواية منفى في الأدب الفلسطيني غير الرواية التي كتبها غسان كنفاني ومن مر بتجربة شبيهة لتجربته ؟
التساؤلات ذاتها يمكن تعميمها على كتاب القصة القصيرة والشعر والمسرح مثل سميرة عزام ومعين بسيسو وأحمد دحبور ومحمد القيسي ومريد البرغوثي وعز الدين المناصرة ؟
وقياسا على ما سبق ننظر إلى محمود درويش بعد خروجه من الأرض المحتلة .
هل يعد أدبه بعد خروجه ، طوعا ، أدب منفى ؟ أم أنه يجب أن ينظر إليه من زوايا أخرى عديدة منها أنه حين كان يقيم في فلسطين تعرض للملاحقة والاضطهاد وتعرض أدبه للرقابة ، وأنه لو أراد ، وهو خارج فلسطين ، العودة إلى بلده ، فلن يستطيع ؟ ثم أنه بعد عودته إلى الضفة الغربية وقطاع غزة شعر بأنه لم يعد إلى وطنه ، فلم يعد إلى حيفا ، ولم يشعر أن رام الله هي مدينته . إنها مدينة يقيم فيها ليس أكثر ، فلا ماضي له فيها ولا ذكريات ، كما كتب في قصيدته إلى سليمان النجاب " لا ماضي لي فيها سواك " ، وفوق ، ذلك فإنه حين كان يعبر الجسر عائدا إليها ، كان يرى نظرات جنود الاحتلال غير المريحة ، وحين أراد العودة إلى حيفا طلبت السلطات الإسرائيلية ممن تابع طلب العودة موافقة الشاعر على شروط خجل إميل حبيبي أن يقولها له ، لأنها شروط مذلة ، فعاش الشاعر المنفى في الوطن وشهد احتلال رام الله ثانية في ٢٠٠٢ .
وقد أكون نفسي وقعت في التباس وأنا أكتب ورقتي لمهرجان القدس الثاني عشر في بيت لحم ( أيلول ٢٠٢١ ) ، إذ نظرت إلى روائيين على أنهم كتاب منفى علما بأنهم خرجوا من فلسطين طوعا ولم يتعرضوا هم وكتابتهم للملاحقة ، وأنهم إذا ما قرروا العودة فلن يمنعهم أحد ؟ هنا أذكر سحر خليفة ونوال حلاوة وليلى الأطرش وأنور حامد على سبيل المثال .
" كل أرض الشام منفى " سطر شعري كتبه درويش ، فهل المقيمون منا في فلسطين تحت الاحتلال والمقيمون خارجها بعيدين عنها ، هل كلهم يقيمون في المنفى ؟ ؛ الأولون يعيشون المنفى في الوطن ، بسبب الاضطهاد العنصري والشعور بأنهم أقلية ، والأخيرون ، بخاصة ممن لا يسمح لهم بالعودة، ويعيشون بعيدا عن الوطن ؟
ما يجب ألا ننساه هو أن الفلسطينيين في كثير من البلدان العربية التي هاجروا إليها ما زالوا يعدون غرباء ويقيمون في مخيمات تقول لهم إنكم من هناك ، وما حدث لفلسطينيي العراق بعد ٢٠٠٣ يقول كل شيء فبعد أربعة وخمسين عاما من الإقامة فيها معززين مكرمين أخذ قسم من العراقيين ، بعد سقوط بغداد في ٢٠٠٣ ، ينظر إليهم على أنهم فلسطينيون غير مرحب بهم بل وطرد القسم الأكبر منهم من العراق . وما يقول إن الفلسطينيين العائدين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ولم يعودوا إلى حيفا وشعورهم بأنهم ما زالوا يعيشون المنفى بيت شعر الشاعر أحمد دحبور :
" أنت في المنفى وفي المنفى وفي المنفى وإن سميته وطنا " .
لعلني مخطيء والموضوع يستحق المزيد من التفكير .
١٠ أيلول ٢٠٢١


( مقال الأحد في جريدة الأيام الفلسطينية ل ١٢ أيلول ٢٠٢١ متوسعا فيه ) .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى