فتحية دبش - الهوية بين الحضور والغياب.. قراءة في نص "شرود" للأستاذة صديقة علي

يقول دريدا في كتابه هامش الفلسفة عن دار مينْوي بباريس 1972 ص17:
وما الوعي؟ إنه في جميع اشكاله حضور بالنسبة للذات، إدراك الحضور لذاته، وما يصدق على الوعي يصدق على الذاتية بصفة عامة."
ويقول أيضا: "كلنا وسطاء مترجمون."
يمكن الولوج إلى هذا النص من خلال تلخيص قصير له. هو قصة امرأة منعتها قوانين القبيلة من الزواج من حبيبها بسبب الاختلاف في الدين. فتركها حبيبها وسافر، تزوج وأنجب وهي ايضا تزوجت وانجبت. عاش كل منهما حياته. وتشاء الصدف ان يتصادق الطفلان. ابنه وابنها. فتتعرف عليه من نبرة صوته بالهاتف، فتعاودها الذكريات وتراه في ملامح ابنه.
لحظة الاتصال الهاتفي حين اتصل يبحث عن ابنه هي لحظة انفصالها عن واقعها وعن حياتها كزوجة لتلوذ بذكرى ومواقف عاشتها تنفي عنها فعل النسيان الذي كانت موعودة به حسب كلام حبيبها. لكن واقعها الذكوري يستكثر عليها حتى لحظة الشرود فيتجسس على وعيها وعلى لا وعيها، فيذكرها ابنها بشرودها الدائم كما ينهرها زوجها لذات السبب. لكنها لا تستسلم بل تعي سعادتها القصيرة بلحظة سرحان وتعترف بها وتعلن موقفها الرافض لهذا التسييج، فقد أخطأ المجتمع وهو يفرق بينها وبين حبيبها وأخطأ زوجها حين مارس فعل الرقيب وانفلتت هي من وعيها ألى لحظة شرود تنتفي فيها الانا الاعلى.
في العلاقة بين العنوان والمتن:
دون الدخول في التنظيرات النقدية التي تتمحور حول الوظيفة التي يضطلع بها العنوان في النص الأدبي من حيث هو كشف وإضاءة واستدعاء، ودون الإغراق ادأيضا في العلاقة بين المكونين يمكن القول أن العنوان (شرود) لا يكشف فقط حالة الغياب التي تريد اللغة أن تقود القارئ إليها، بل هي دال على حالة الحضور التي تستعيد النص قراءةٌ وهدما وإعادة بناء.
فالشرود كما جاء في معجم المعاني هو:
" فعل من شرد، تاه وحاد عن الطريق، عدم انتباه الذهن إلى ما يحيط به وهو أيضا المروق على النواميس."
والشرود ليس سلوكا واعيا في العادة بقدر ما هو حالة من الانقطاع عن الراهن مكانا وزمانا وشخوصا وحدثا تننتج عادة عن شعور باختلال التوازن الحاصل بين الذات ومحيطها فيصبح نوعا من الآليات النفسية التي تتقوقع فيها الذات دون قصد في لحظة انقطاع عن الراهن واتصال براهن مغاير. غير أنه في النص عملية مقصودة من البطلة الساردة. هي عملية حضور مقابل تغييب يمارسه عليها المجتمع بكل نواميسه وشروطه.
توظيف تقنية التضفير في النص:
يبدو النص مشيدا على تقنية التضفير إذ تتعاقب الذوات والماهيات بشكل متواز حضورا وغيابا. هذا التضفير كان على مستوى السرد [الاستهلال والانتقالات داخل القصة] والحوار [تقريبا ثلثي النص] والوصف [بشكل مقتضب].
ونلاحظ هذا التضفير في تداخل الأزمنة ماض وحاضر ومستقبل وتداخل الراهن بالتذكر والتداعي حين تقول:" لا تجب فأنا عرفتك..." ثم تداخل القص بالغناء في عملية تضمين تمنح النص دلالة أخرى على تلبس الحضور بالغياب " يا عاقد الحاجبين... نعم كنت تضحك كلما غنيت لك". وكذا تضفير الشخصيات حيث تحضر شخصية الحبيب في شخصية ابنه جورج، و" متى عدتم من الغربة؟" و " تسافر!... ستنسين." " أنا لا أحبها.. أحبك أنت..."
هذا التقاطع والتداخل على مستوى الشخوص يبين الانفصال والاتصال الذي تمارسه الشخصية الساردة البطلة للكشف عن حالة التمزق والحضور والغياب بين الماهيات والذوات.
هذا التضفير كان مطية الكاتبة للتكثيف من الحضور للذكور مقابل التكثيف من ضمور حضور الأنثى. فالذكور في نص أربعة: الزوج، الأب المتصل على الهاتف، الابن وصديقه مقابل شخصية واحدة للأنثى. هذا الطغيان للذكور دال ومدلوله غياب الأنثى في الظاهر. فالشخصية وإن كانت تقوم بعملية السرد إلا أنها محكومة بفعل الغياب حيث تتحرك بإرادة الآخرين/ الذكور كما يقول النص:" كعادته، يستدعيني، لا تبكي، ستبقين، ستنسين.."
جدلية الحضور والغياب:
هذا الحضور المكثف للذكر والذي يوهمنا به النص ليس إلا حالة شرود عن الحضور الذي تمارسه الذات المقموعة. فهي في شرودها وهو حيلة نمتها ميكاانيزمات دفاعية نفسية تجتث بها ذاتها الواعية من عالمهم الذكوري النرجسي الذي يلغيها فتلغيهم هي في فعل الشرود وتحيا سعادتها مقابل تعاسة الحبيب الذي جاء توصيفه سلبيا" شديد الغضب والقسوة" وكذلك تعاسة الزوج "حتى أنه لا يرفع نظره إليّ".
في النص تظهر بقوة مسألة الحضور والغياب. حضور متعدد ولكنه مشحون بالموانع، مرة على أساس الدين (فشل الحب بسبب الديانات المختلفة) ومرة على أساس النوع و(فشله أيضا بسبب الذكورة). هذه الموانع التي تلغي الذات الأنثوية. غير أن هذه الذات تمارس حضورها بتغييب منظومة كاملة وتعترف بسعادتها في هذا الفعل الدائم: الشرود. ويصبح فعلا مقصودا لذاته لكنه شرود تلتقي فيه بنفسها وتلغي فيه وجود الرجل حبيبا وزوجا..
جدلية الذكورة والأنوثة:
يناقش النص قضية شائكة تتعلق ب قضايا نسوية وخاصة منها التسييج الذي تتعرض له الأنثى. ولئن قدمت الساردة البطلة شخصيتها الصامتة في الظاهر إلا أن هذا الصمت ضاجّ بالأسئلة بل المحاكمات الاي ترفعها بوجه السلطة الذكورية وتتوسل بالمقطع الغنائي "إن كنت تقصد قتلي قتلتني مرتين". فهي تخاطب المجتمع والأعراف من خلال مخاطبة الحبيب الذي حال بينها وبينه اختلاف الديانة. وقتلها مرة اخرى بأن جعلها زوجة لرجل بارد العاطفة مهمل.
تقدم القصة شخصية امرأة خاضعة لقوانين القبيلة. فهي ربة بيت، مطيعة، صامتة،صابرة. وهي الصورة النمطية للزوجة الصالحة. تقدم القصة صورا متعددة للرجل. فهو الأب المنشغل بابنه رغم قسوته، والحبيب الجبان رغم وفائه، وهو الزوج الساخط القاسي رغم صمته وغرقه في الجريدة. وهذه الصور لا تشي بتوازنات الشخصية بل كل شخصية تحيا انفصامها داخل رأسها ويتصارع وعيها ولا وعيها فتختلق كل واحدة منها عالما بديلا للعالم الموضوعي الذي فرضته الذكورة. فالحبيب يجد توازنه في ممارسة أبوته و يقتلع من الزمن فرصة الاتصال بتعلة البحث عن ولده للاتصال بحبيبة سابقة تملأ فراغ الأنثى في حياته إذ لا يرد ذكر لأم جورج مطلقا مع أن متابعة الأبناء وظيفة أنثوية في ثقافة ذكورية، كما يخلق الزوج الواعي بأسباب شرود زوجته عالما بديلا يتمثل في الجريدة والقهوة كعلامات ثقافية بينما تخلق هي لخظات سعادتها في شرودها الدائم.
هكذا يبين النص بذكاء مفرط كيف تتعدد ضحايا الثقافة الذكورية فلا تقتصر على الأنثى وإنما تشمل الرجل أيضا.
خاتمة:
إن النص الأدبي لا يمكن مطلقا رفعه إلى النص المقدس. فإذا كانت مسألة الزواج بين المسلمة وغير المسلم محرمة شرعا ولا يمكن بحال مناقشة ذلكإلا أنها في النص الأدبي ثيمة إنسانية لا تبغي تشريعا ولا تحريما بقدر ما تجتث نفسها من التابو وتنطرح على موائد النقاش الفكري في نص يترصد تشظي الإنسان ما بعد الحداثي الذي وقع تشتيته بين انفتاح على الآخر من جهة وانغلاق على الذات من جهة أخرى.

شرود
قصة قصيرة
صديقة علي
كعادته، يستدعيني من المطبخ؛كي أجيب على هاتف يرنّ بإلحاح،
أجفّف يديَّ، وأنا أرمقه بلوم، حتى أنّه لا يرفع نظرُه إليّ، غارقًا في جريدته، يرشف قهوته الباردة بهدوء مستفز.
_آلو ..آلو
ـ نعم
ـ آسف سيدتي ..أنا والد جورج، آسف للاتصال في هذا الوقت المبكر ..
تدفقتِ الدماءُ في وجهي، يتسارع نبضي،غمامة تشوِّش نظري، جفافٌ يُعيقُ كلماتي.
ـ سيدتي! سيدتي! أردت فقط الاطمئنان على ولدي إن كان في ضيافتكم... منذ البارحةِ وأنا أبحثُ عن رقمكم.
ـ نعم سيدي هو نائمٌ مع ابني أحمد.
..سيدي! لا أدري إن كنتُ قد قلتُ هذا أم لا!
كان ابني مرتبكًا وهو يشرحُ لي أنّ صديقه سيبيتُ عنده:
ـ ليلة فقط.. ليلة فقط يا أمّي فهو مطرود من بيته، والده شديد الغضب والقسوة.
الفضول دفعني لانتظاره، ولمّا دخلتُ عليهما، عقدتِ الدهشةُ لساني، شعَرتُ أنّ قدميَّ ماعادتا قادرتين على حملي، اِتَّكأتُ على الباب القلق.
ـ أمّي هذا صديقي جورج..أعرّفُكَ ماما ..
ـ ابنُ من أنت يا بني ؟
لا تُجِب، فأنا عرفْتُك بشعرِك الأسودِ اللامعِ المُسرَّحِ إلى الوراء، بجبهتِك العاليةِ، بسوادِ عينيكَ بشفتيكَ النبيذيَّتينِ، بسُمرتِكَ الآسرة، نعم تذكَّرْتُكَ. بحاجبيكَ المعقوديْنِ
ياعاقِدَ الحاجبينِ على الجبينِ اللجينِ إنْ كُنتَ تنوي قتلِي قتلتني مرّتين
وتضحكُ، نعم كُنْتَ تضحكُ كلما غنّيت لك.
أمّي، أين شردْتِ! صديقي يكلِّمُكِ
ـ أها ...نعم... نعم أنا معكُما .. متى عُدتم من الغربة ؟
ـ عُدنا!
- نعم أمّي عادوا منذ سنتين مع دخولِنا الجامعة، لكن كيف عرفْتِ؟ لم أكلّمْكِ عن هذا من قبل؟
ـ كيف عَرَفتُ؟!
ـ تسافر!
- ومايبقيني في بلد يجرّمُ عشقي؟
ـوأنا!
ـ أنتِ ستبقين آلهة العشق قيثارة ليلي.. نبضي الذي أحيا به، لا تبكي، هذه هي أقدارُنا الظالمة.
ـوأنا !
ـ ستنسين.
أمّي، كعادتك دائمة الشرود، صديقي لا يحب البطاطا المقلية، أرجو أن تُحَضِّري لنا العشاء بدونها.
ـ هل يوجدُ شابٌّ لا يحبُّ البطاطا المقلية؟ يُقال أنّها ترفعُ هرمون السعادة.
ـ أنا لا أحبها، أُحِبُّك أنتِ... سعادتي أنت.
ـ أمّي... أمّي ...
توقظِني يده وهو يربّتُ على كتفي .
حتّى سعادتي بالسرحان يستكثرونها عليّ.
أغادر غرفتَه تسابقني دموعي .
ـ الله لا يحرمك هذه العادة، ذهنُكِ شاردٌ دائما ! اِغْلِقي سمّاعةَ الهاتف جيِّدًا يا امرأة.لم تقولي لي من المتصل!
ـ ماذا تقول ؟ أها... المتصل! هو... هو شخصٌ أخطأ الرقم.







  • Like
التفاعلات: تسنيم طه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى